تقارب بعض الأفلام الإماراتية
القصيرة التي عرضت في دورة مهرجان الخليج السينمائي السادسة جزئيات من
الحياة الإماراتية المختبئة في المدن الإماراتية الكبرى، التي تتماس مع
معاناة وشواغل وأحلام الإنسان الإماراتي المعاصر، وربما هي غير ظاهرة على
السطح الإعلامي العام، لذلك جاء تناول صانعي الأفلام القصيرة لها، بشقيها
الروائي والتسجيلي، كاشفاً عنها، وبالضرورة كاشف عن أنماط تفكير الجيل
الناهض من الشباب إزاء عرض همومه بالوسائل الفنية، والتي تنحصر في القضايا
الاجتماعية والمدنية والسلوكية والوجودية والنفسية ولا تخلو من الخيالية
والغرائبية. وفي كل حال يحاول مخرجوها العمل وفق اجتهادات احترافية، تبلغها
أحياناً وتخطئها أحيان أخرى، وإن كانت في معظمها مجودة التقنيات فيما يتعلق
بالصورة السينمائية المفعمة بالتكوينات البصرية والسمعية التي تفصح عن
تفاصيل من الثقافة الإماراتية، تلك التي يجدها المشاهد في القصص والحكايات
الواقعية والمتخيلة المستلة من الحراك الحياتي للناس.
غير أن هذه الأفلام التي عرضت في
مهرجان الخليج 2013م، وسابقتها من الأفلام المنتجة خلال الخمسة سنوات
الماضية، أو أكثر، هي نتاج للاهتمام الذي تواليه المؤسسات الثقافية بغرض
تأسيس ثقافة سينمائية تساهم في مواكبة التقدم الحضاري الذي تشهده البلاد،
لإدراكهم بمردوداتها التقدمية على كافة أرجاء المنطقة، وهي أيضاً نتيجة
للتطور الذي وصل إليه الإنسان الإماراتي بإنفتاحه على الآخر المقيم في
محيطه الجغرافي، أو الآخر البعيد، الذي غدا قريباً بسبب السفر وعلاقات
التواصل في عالم الأعمال والتجارة والسياحة والثقافة. ولا شك، من زاوية
أخرى، أن هذا التطور الحضاري كان له انعكاساته الإيجابية على السينما في
الإمارات، سواء من حيث المستوى الفني أو الفكري، الأمر الذي أهلها للمشاركة
والحصول على جوائز في مهرجانات سينمائية عربية وعالمية، حيث ساعد الاحتكاك
بصناع الأفلام ذوي الخبرات المختلفة، سواء في الداخل أو الخارج، على إثراء
التجارب السينمائية. وعليه فإن الموضوعات والأفكار التي تناولتها الأفلام
القصيرة، في مجملها تشير الى انتباه السينمائيين لأهمية ما ينبغي طرحه
والإنطلاق منه بما يثري تأصيل الهوية الخاصة، فالأهمية في الشأن السينمائي
تتقاسمها ثلاثة أمور: الموضوع وطريقة المعالجة والأسلوب الإخراجي بما يحمله
من التفاصيل التي تثري العمل، الأمر الذي ينبغي على السينمائيين
الإماراتيين والخليجيين بذل الجهد فيه، فثمة موضوعات بسيطة تعالج بكيفية
ذكية تجعل من العمل رائعة سينمائية.
فيما يلي التفاتات سريعة لبعض
الأفلام كنماذج مبشرة بمستقبل واعد لمخرجيها ومعاونيهم، وإن كان التطرق الى
الموضوعات مدخلاً للتأمل والتحليل المشبع بالنقد الهادف.
بداية في فيلم «صافي» وهو مثال
على تناول الموضوعات الإنسانية والقصص الباعثة على الحنين للحياة التي سبقت
الطفرة الحضارية أو بداياتها في الإمارات، يعود فيه المخرج أحمد زين
بممثليه علي الجابري، ومحمد مرشد، وليد محمد، وأحمد المرزوقي، الى عقد الثمانينات، ويتوغل في
إحدى المناطق القديمة في إمارة عجمان، ليقلب صفحات ذاكرة المكان والإنسان
في ثمانية دقائق مليئة بشجن أخاذ لا يعرفه إلا من عاصر تلك الأيام. قصة
بسيطة تسترجع مقتطفات من المرحلة التي سبقت الغزو التكنولوجي للاتصالات،
تلك المعاناة اللطيفة التي عاشها الناس مع اللاقط الهوائي (الإريل)
ومحاولاتهم الحثيثة في متابعة ما تبثه التلفزيونات الأرضية.. في الفيلم
يحاول بعض الصبية مشاهدة فيلم "الشعلة" الهندي القديم، ولكنهم يفشلون في
التقاط إرسال المحطة التلفزيونية بوضوح، وبعد عناء من تدوير الهوائي، في
الطقس الحار، دون طائل، يعودون لقضاء وقتهم في لعب الورق.
وأما الموضوع الذي تناوله منصور
الظاهري في فيلمه «سراب نت» في نحو ثلاثين دقيقة فهو موضوع يتصل باستخدام
الإنترنت كواحدة من المستجدات الحتمية في العصر الراهن، ويتناول سلوك
التواصل بهدف الصداقة التي قد تودي الى عواقب لا تحمد عقباها.. الفيلم جريء
ومحمل بالإيحاءات الآيروتيكية في بعض مشاهده، لا سيما وقد دعمه إجتهاد
الممثلين نحو الأداء الطبيعي الذي جسده كل من: سعيد عاشور، بدور سالم، عبيد
الزعابي، ميثاء الحمادي، عبد الله بوهاجوس، وآخرون. وهو مقتبس من حادثة
واقعية، تعد من الحالات التي تكررت ونشرت عنها وسائل الإعلام، سواء في
الإمارات أو في بلدان الخليج أو الدول العربية الأخرى. الفيلم يتقصى فئة من
الفتيات اللاتي يبحثن عن فارس أحلامهن عبر الإنترنت، فلا يجدن سوى الأوهام
والخداع، لأن من يتعرفن عليهم، هم من الشباب الساعي لإشباع شهواته الجسدية،
وهم بالمؤكد وجدوا في أولائك الفتيات الفرصة المواتية للتغرير بهن والتحايل
عليهن باستخدام طرق النصب ووسائل الجذب المخاتلة التي توقعهن في مشكلات
كبيرة تصل إلى حد الجرائم الخطيرة مثل القتل والاغتصاب وما ينتج عنها من
ملاحقة القانون والفضيحة أمام العائلة والمجتمع .
لكن فيلم «قهر الرجال» لسعيد
سالم الماس. المتميز بحرفية استخدام الإضاءة وانسيابية
الموسيقى المصاحبة للقطات بما يعزز الحالة الشعورية بالأزمة النفسية لامرأة
نادمة، يتخذ من قصة واقعية موضوعه، بما ينطوي على تقويم سلوكي في الحياة
الزوجية.. يبدأ الفيلم بعودة الزوج "منصور الفيلي" من عمله مرهقاً، فتبادره
زوجته "علياء المناعي"، بسؤاله عن ترتيبات السفر الذي ينويان القيام به،
فيخبرها بأنه لم يتمكن من حجز المقاعد في الطائرة ولا شراء التذاكر بسبب
تراكم الديون عليه، وحينها تجابهه بالإهانة والغلظة في الكلام بكل ما يتسبب
بإذلاله مع مقارنته بأزواج آخرين. لم ينطق الزوج بكلمة وسقط على الكرسي
ميتاً بسكتة قلبية. وبعد فترة، وهي في أوج اضطرابها وصدمتها تتصل بشيخ دين
لتسأله إن كانت السبب في وفاة زوجها، وهنا يدعو لها الشيخ بالمغفرة في
إيحاء بأنها فعلاً هي المتسببة في موته.
وتطرق فيلم «تمرّد» للمخرج
إبراهيم المرزوقي الى موضوع نفسي عميق بطريقة رمزية تناقش ثنائية الإرادة
والأداة. حيث يواجه أحد الطهاة العاملين في إحدى البيوت مشكلة غير معتادة،
فيده التي يستخدمها في عمله كطباخ لا تستجيب الى رغباته في إنجاز العمل
الذي يريده، فيقوده ذلك الى صراع نفسي وجسدي مع هذه اليد المتمردة، ويسعى
جاهداً للتخلص من هذه الحالة. والفيلم بهذا المنطق إنما يحقق فكرتين:
الأولى ظاهرة، تبدو أزمة نفسية، والثانية فلسفية تأويلية تحتمل التفسير
والقراءة عن إرادة الإنسان في مواجهة أدواته القاصرة مهما بلغت صعوبتها.
ويقف المشاهد مع فيلم «الطريق»
للمخرجين الإماراتيين عبدالله الجنيبي وحميد العوضي، في 34 دقيقة من
الإيقاع المتوتر، على شيء من الإثارة والرعب، إذ يتأسس الفيلم على أرضية
سردية تميل نحو الغموض والتشويق.. يبدأ الفيلم بمشهد سيارة تجتاز الشوارع،
يصدر عنها صوت الراديو، يستقل هذه السيارة ثلاثة شبان مضرجة وجوههم بالجروح
والكدمات، وثيابهم ملطخة بالدماء، وبرفقتهم رجل في منتصف العمر يرتدي
اللباس الخليجي، وهو في حالة سليمة وليس مصاباً بالجروح مثلهم، ويبدو أن
الشبان قد وجدو هذا الرجل على قارعة الطريق، فيحدثهم بقصص كما لو كانت
ذكريات خاصة به، ومع إستمراره في سرد الحكايات تبدأ بالظهور لمحات من حياة
كل شاب في القصص التي يحكيها، وهي بالتالي ستقودهم الى منعطفات جديدة في
حياتهم ربما غيرتها أو دمرتها.
وأيضاً في أجواء التشويق
والإثارة يدور فيلم «الغروب» ومدته
عشرين دقيقة، للمخرجة
مريم النعيمي ،وتمثيل آلاء شاكر، وإبراهيم غانم، وحميد النعيمي، وعمر
الأيوبي، ومنصور الفيلي. يروي الفيلم قصة ثلاثة شبان يقررون قضاء عطلة
نهاية الاسبوع في البر، وفي الطريق تتعطل سيارتهم أمام مزرعة، فيخرج لهم
رجل مسن وامرأة تظهر عليها الغرابة، في الوقت نفسه يسمعون عن اختفاء طفلين
من والديهما في البر..تحاول المرأة إقناع الشبان بالدخول الى المزرعة، ويصر
العجوز على منعهم وحثهم على المغادرة قبل الغروب، لكن الإغراء بالنسبة
للشبان كان كبيراً، فيخضعون له ويدخلون المزرعة، بينما يظل رفيقهم الثالث
في الخارج يصلح السيارة المعطلة..في المزرعة يشعرون بأمور غريبة تثير قلقهم
إزاء المرأة، وتتأكد شكوكهم بعد مشاهدتهم للطفلين المختفيين، يحاولون
الهروب، وتلاحقهم المرأة المخيفة، حتى توارت عنهم فيعتقدون أنهم هربوا
منها، بعد أن تأكدوا من أنها «جنية» تقبض على الارواح بعد غروب الشمس،
وينتهي الفيلم بنهاية مثيرة إذ تظهر معهم في السيارة وسط ذهول وحالة رعب لا
يحد مداها.
ولكن موضوع فيلم «حصة» للمخرج
ناصر التميمي، عن الفتاة الجميلة حصة التي تعاني من إعاقة ذهنية، فيما تسعى
والدتها إلى علاجها عن طريق المشعوذين.. يسلط على عادة موروثة عند الطبقات
الوسطى في المجتمع وهي العلاج بواسطة العرافين وعلاجات السحر والتمائم
والخرافات، وهكذا تتعرض "حصة" للاعتداء بينما أخوها مشغول عنها بتواصله مع
حبيبته ابنة الجيران. فتتخذ إحدى الجارات موقفاً إيجابيا لتنبيه أبناء الحي
من مخاطر السحر والشعوذة، ولكن ضعاف النفوس يقومون بتشويه سمعتها، للدرجة
التي قرار فيها أهالي الحي التخلص منها.
نخلص في هذه المداخلة السريعة
الى أن هذا التنوع في الموضوعات المطروحة بطريقة التناول المباشر في
المعالجة الدرامية، إشارات إيجابية الى إدراك السينمائيين الإماراتيين الى
الاتجاه للتعبير عن رؤاهم وأفكارهم وقدراتهم الفنية بواسطة السينما، وهو
إدراك واشتغال لم يكن موجوداً منذ عقد من الزمان على الأقل. وإن كانت هذه
الموضوعات وطرق معالجتها تقتصر على أجزءاً من تفاعلات الإنسان ـ المدركة
بالنسبة له حتى الآن ـ إلا أنها تسبر أعماق إنسانية للكائن البشري في منطقة
تشهد حراكاً حضارياً هائلاً، على كافة الأصعدة، ما يحتم تفاعل النمو الفكري
والإدراكي الذي سيؤدي الى التطرق لموضوعات ثرية أخرى يزخر بها الواقع غير
المكتشف، وهو ما تبشر بتحقيقه السينما الإماراتية الروائية الطويلة في
العشرة سنوات القادمة.
سينماتك في 5
مايو 2013
|