هذا
التقديم لكتاب كمال يوسف حسين "الطريق الطويل إلى عالم آكيرا كوروسوا" يريد
أن يكون ملخصا للكتاب أكثر منه شيء آخر، فهو مقال هدفه الإفادة من المادة
الغنية التي جاءت في الكتاب دون أن يستهدف أي قراءة نقدية له.
إنه ليس سهلا الكتابة عن المخرج الياباني (آكيرا كوروساوا) (1910-1998)،
فرغم شهرته العالمية، انقسم عليه اليابانيون بين من يراه "المخرج الياباني
الأكثر تأثرا بالغرب" والذي لا تتسم أعماله بالطابع الياباني، وبين من
أعطاه لقب "(تنو)، وهي الكلمة اليابانية التي تعني الامبراطور"، "ولعله كان
الوحيد الذي حمل (هذا اللقب) في الأرخبيل الياباني كله، إلى جوار
الإمبراطور الياباني نفسه".
المراحل الثلاث في أعمال كوروساوا:
قسم الكاتب كامل يوسف حسين حياة (كوروساوا) الفنية إلى أربع مراحل، تمثلت
المرحلة الأولى منها في عمله كمساعد مخرج في إحدى شركات الإنتاج السينمائي،
أما الثلاث مراحل الأخيرة فهي مراحل تدفق إنتاجه السينمائي ضمن تطور زمني
وأسلوبي وفني لم يكن واحدا.
المرحلة الأولى في الإنتاج، أسماها الكاتب حسين (مدارج السالكين)، وهي تمثل
"بدايات المخرج (كوروساوا) في سينما كان يعتقد أنها "مستحيلة الإصلاح".
وتمتد هذه المرحلة، من فيلم (كوروساوا) الأول (سانشيرو سوجاتا- 1943) وصولا
إلى فيلم (الأشرار ينامون ملئ جفونهم- 1960)، وقدم حسين لهذه المرحلة
بثماني أفلام من بين ثمانية عشرة فيلما هي مجمل ما أنتجه (كوروساوا) في هذه
المرحلة. ويتميز عليها كلها فيلم (الحياة- 1955) الذي اعتبره (ديفيد تومسون)
في كتابه (قاموس السينما البيوجرافي الجديد- 2002) "أفضل أفلام (كوروساوا)
على الإطلاق" ويرى أنه تأثر فيه بـ(دي سيكا) و(زافاتيني)، أما من حيث
الأسلوب فيرى (تومسون) أن فيلم (الحياة) "يفصح عن عذاب حقيقي قلما تم
التعبير عنه بهذا القدر من الوضوح في أفلام (كوروساوا)"
المرحلة الثانية أسماها حسين (وحشة الطريق) وقد بدأت "بانطلاقة قوية
وعنفوان فني، وانتهت بمحاولة الانتحار".
وأفلام هذه المرحلة سبعة، "هي على وجه الحصر:
(الأشرار ينامون ملئ جفونهم- 1960)، (يوجيمبو- 1961)، (سانجورو- 1962)،
(العالي والخفيض- 1963)، (ذو اللحية الحمراء- 1965)، (دودسكادن- 1970)
وأخيرا (درسو أوزالا- 1975)".
بالنسبة لفيلم (ذو اللحية الحمراء) المنتمي إلى هذه المرحلة فإن (دونالد
رايتشي) يعتبره "آخر فيلم جيد أخرجه (كوروساوا)" ويرى (ستيفن برنس) أنه
"فيلم فريد في مجمل أعمال (كوروساوا)".
كما أنجز (كوراساوا) في هذه المرحلة أول فيلم ملون له وهو (دودسكادن- 1970)
وتتضمن المرحلة الأخيرة في أعمال (كوروساوا) خمسة أفلام هي (ظل المحارب-
1980)، (ران- 1985)، (أحلام- 1990)، (لحن في أغسطس- 1991) و(مادادايو-
1993). وهذه المرحلة عنونها الكاتب بـ"أحزان المنتهى" حيث اهتم فيها المخرج
(كوروساوا) بطرح أسئلة "الفلسفة أكثر من أي وقت مضى: لماذا ولدنا؟ وإلى أين
نمضي؟ وما هي الغاية من الحياة؟".
وتمثل أفلام (كوروساوا) هذه – زمنيا- مرحلة ما بعد الثمانين من العمر، وقد
بدت مُفْصِحة "عن نظرة تأملية في غسق الحياة مع مقدم الموت والشعور برفرفة
أجنحته"، كما قال (ستيفن برنس)، وهو يرى أن أكثر ما يعبر عن هذه النظرة
أفلام كوروساوا الثلاث الأخيرة والتي أنجزها في غضون أربع سنوات متتالية
وهي (أحلام) و(لحن في أغسطس) و(مادادايو)
المؤثرات الأساسية في تكوين (كوروساوا):
يَعتبر (ديفيد تومسون) في قاموسه أن (أوزو) و(ميزوجوتشي) هما أستاذي
(كوروساوا) دون جدال. ويُعتبر المخرج (كاجيرو ياماموتو) الراعي الحقيقي له
خلال سنوات تدريبه وعمله كمساعد مخرج، ومع (ياماموتو) اكتسب (كوروساوا)
"خبرة هائلة بالعمل في كل جوانب صناعة السينما، ابتداء من أعمال النجارة في
مواقع التصوير، وليس انتهاء بكتابة (السيناريو) وتنفيذ (المونتاج)".
من جهة أخرى عُرف (كوروساوا) بأنه "المخرج الياباني الأكثر استيعابا وتأثرا
بالسينما الغربية بعامة، والأمريكية بخاصة"، ولكن كوروساوا يدافع عن نفسه
اتجاه هذا الرأي بالقول "أن ذائقته هي ذائقة عالمية، وأنه مدين لمبدعين من
أرجاء العالم كافة".
ويعتبر (سيرجي إيزنشتاين) حسب كثير من النقاد أكثر المخرجين من غير
اليابانيين تأثيرا في (كوروساوا)، ويظهر ذلك في ولع هذا الأخير بالكاميرا
المتحركة و"بمفهوم الصدمة البصرية، الذي بلوره (إيزينشتاين) باقتدار". ويرى
(نويل بيرش) في كتابه (السينما قاموس نقدي) "أن (كوروساوا) ربما يُنظر إليه
باعتباره الوريث المباشر لإيزنشتاين، من حيث أنه أعاد اللقطة إلى وظيفتها
الحقيقية، بحسبانها المعيار المرئي والمعلن للخطاب السينمائي".
ويمتد تأثر (كوروساوا) بالمخرج الروسي إلى حد أسلوب إدارته وقائع أفلامه
وممثليه، وكمثال على ذلك يمكننا مقارنة طريقة هجوم الفرسان (التيويتنيون)
في فيلم (الكسندر نيفسكي) عند إيزنشتاين بطريقة هجوم قطاع الطرق عند
(كوروساوا) في فيلم (الساموراي السبعة).
من جهة أخرى فإن تأثر كوروساوا بـ(مورانو) في احتفائه بـ"الصور الخالصة"
كما في فيلم (راشومون) أمر لا جدال فيه.
ويمكن اعتبار تكوين كوروساوا التشكيلي وتعلمه لفن الرسم من الأشياء التي
أثرت كثيرا على حسه السينما ونظرته اللونية والتشكيلية وحتى الموضوعية كما
في مثال فيلم (أحلام 1990) الذي يتحدث عن الفنان التشكيلي الهولندي (فنسنت
فان جوخ).
ويُشِيد (كوروساوا) بثقافته الفنية عموما وانفتاحها على اختصاصات شتى مثل
الأدب والتصوير والموسيقى وغيرها، وفي الأدب يمكننا ملاحظة الاهتمام الخاص
الذي يوليه (كوروساوا) إلى الأدب الياباني ثم الروسي وإلى أدباء مثل شكسبير
وبلزاك.
ويرى (كوروساوا) أنه "من الطبيعي أن يُفْصِح تعليمه هذا عن ذاته في وقت
لاحق في أعماله (السينمائية)".
وبالفعل فإن اعتماده في عدد من أفلامه على عمليات اقتباس سيناريوهات من
نصوص أدبية سواء من داخل الأرخبيل أو خارجه أمر شائع.
فالسيناريو الخاص بفيلم (سانشيرو سوجاتا) هو اقتباس من رواية لـ(توميتا
تسونيو)، أما سيناريو فيلم (راشمون) الذي أحرز على الجائزة الكبرى في
مهرجان البندقية 1951 فهو مقتبس ومستمد من قصتين من كتاب (أكوتاجاوا). في
نفس سنة 1951 اقتبس (كوروساوا) سيناريو فيلمه (الأبله) من رواية (دستويفسكي)
المشهورة التي تحمل نفس الإسم. كما اقتبس من المسرح أيضا، مثل سيناريو فيلم
(ران) عن رائعة (وليام شكسبير- الملك لير)، أو في فيلم (الرجال الذين دهسوا
ذيل النمر) "نقلا عن مسرحية (الكابوكي) الشهيرة (كانجينشو)".
من مصادر إلهام (كوروساوا) الأخرى حياته ذاتها، فقد أثرت كثيرا على أفلامه،
فالذين قرؤوا كتاب (كوروساوا) (ما يشبه المذكرات) يلاحظون إيراد المؤلف
للعديد من تجارب طفولته التي "تشبه بصورة ملحوظة مشاهد من أفلامه"، كما
يوجد "كم هائل من ضروب التشابه بين أسلوب سرد (كوروساوا) لقصة حياته وبين
(أسلوبه السردي في) أفلامه"
صعوبات الإنتاج عند (كوروساوا)
يحدد (كوروساوا) علاقته بشركات الإنتاج، من خلال قوله "أنه على امتداد عمره
الفني لم يقبل فكرة معدة مسبقا من منتج أو شركة إنتاج"، والسبب في ذلك يرجع
حسب قوله إلى: "أن أفلامي تنبع من رغبتي في قول شيء ما، في زمان أختاره.".
عموما عرفت العلاقة بين كوروساوا ومنتجي أفلامه طيلة مسيرته الفنية عدة
تقلبات، فبعد أن عمل مع شركة (توهو) للانتاج السينمائي في الأربعينيات
والخمسينيات، قام في أواخر هذه العشرية بتأسيس شركة إنتاج خاصة به، "وكان
فيلم (الأشرار ينامون ملئ جفونهم) (...) هو أول فيلم مغامرة مستقلة له"،
وتأسيس شركة (كوروساوا) للإنتاج كان بهدف المشاركة مع أطراف أخرى -منها (توهو)-
في المساهمة في إنتاج أفلامه التي عرفت بالتضخم المتواصل في ميزانياتها.
هذه الصعوبة في الإنتاج سوف يزيدها تعقيدا في الستينيات انتشار التلفزة،
بحيث "لن يكون هناك مجال في السينما إلا للأفلام ذات الميزانية الصغيرة".
قطيعة كوروساوا مع أجيال السينمائيين الشبان –ما أدى إلى عزلته- واقتباسه
أفلامه عن أعمال من خارج الأرخبيل إلى جانب خفوت شهرته أمسوا منذ
السبعينيات حائلا دون إنتاج أفلامه المكلفة جدا. في هذه الفترة اتجه (كوروساوا)
إلى خارج الأرخبيل بحثا عن منتجين جدد.
ولكن مشكلة (كوروساوا) في تلك الفترة لم تعد مشكلة إنتاجية بقدر ما هي
مشكلة نصوص سينمائية ومجتمع وحيز يابانيين باتا باهتين حسب قوله.
الكاميرا، المونتاج، الصوت والضوء عند (كوروساوا):
عُرِفَ (كوروساوا) بولعه المبكر بالمونتاج، وقد بدأه مع تنفيذه مونتاج فيلم
(الحصان- 1941) الذي عمل فيه كمساعد مخرج مع (كاجيرو ياماموتو)، كما نفذ
بمفرده مونتاج فيلمه الأول (سانشيرو سوجاتا- 1943).
وإنجاز (كوروساوا) لمونتاج أغلب أفلامه سببه وسوسته ورغبته في تحقيق أسلوبه
السينمائي الذي يوازن فيه بين"الكاميرا المتحركة والمتدفقة والتقطيع السريع
في المونتاج".
ويعطي (كوروساوا) اهتماما كبيرا أيضا لعامل الصوت، فهو يؤمن بمقولة أن "على
الكاميرا والميكروفون أن يجتازا النار والماء معا"، لذا رأينا في استعماله
للتقنيات الصوتية الجديدة في فيلمه (الأحلام- 1990) كيف وظف توظيفا رائعا
نظام (دولبي) الصوتي.
بالنسبة للاستخدام المتأخر لـ(كوروساوا) لـ"اللقطة البعيدة وتأمل العالم من
خلالها"، فقد جاء هذا التطور في الأسلوب أواخر الستينيات وبداية
السبعينيات، وذلك في إطار استعماله الكاميرا للتعبير عن "اليأس والنزعة
القدرية والسلبية والهروب من الالتزام الذي انتهى إليه".
في فيلم (راشومون) استخدم (كوروساوا) باتقان كبير عاملا سينمائيا آخر هو
الضوء، وقد أشاد (بوسلي جروثر) في نقده للفيلم "بالاستخدام البارع لنور
الغابة وظلها لتحقيق تنوع من التأثيرات البصرية القوية والرهيفة"
السيناريو والإخراج والعملية الإبداعية:
يشيد (كوروساوا) بأهمية عملية السيناريو بالنسبة للفيلم "ويعتبرها من أهم
مراحل إبداع الفيلم، إن لم تكن أهمها على الإطلاق"
وقد كان فيلم أحلام -الذي أدى فيه (مارتن سكورسيزي) دور (فنسنت فان جوخ)
وأنتج في سنة 1990- الفيلم الوحيد لـ(كوروساوا) الذي "انفرد بكتابته، خلافا
لما درج عليه طوال حياته الفنية من إسناد عملية إنجاز السيناريو لفريق
إبداعي مع مشاركته في هذه العملية"
وحسب رأي (كوروساوا) فإنه يمكن لمخرج جيد عبر سيناريو جيد "أن يقدم فيلما
رائعا، وبالسيناريو نفسه قد يقدم المخرج – متوسط الخبرة- فيلما معقولا،
ولكن حين يكون السيناريو سيئا فحتى المخرج الجيد لا يستطيع أن يقدم فيلما
جيدا، أو أن يعبر عنه بصورة صحيحة"، وينبه (كوروساوا) إلى أهمية "أن يكون
للسيناريو من القوة ما يجعله يتمتع بالكفاءة اللازمة للقيام بتلك المهمة"
ولكن السيناريو رغم أهميته ليس سوى واحدة من حلقات الإبداع السينمائي،
فالعملية الإبداعية من منظور (كوروساوا) لابد لها أولا من بذور "تنبع من
شعور داخلي يدفع الفنان إلى قول شيء ما"، ويمكن لتلك البذور أن تكبر "وتصبح
شجرة كبيرة وقوية" بفضل السيناريو، وبعد ذلك فإن الإخراج هو ما يعطي لتلك
الشجرة "أزهارها وثمارها"، ويلخص كوروساوا العملية الابداعية في العلاقة
التكاملية بين السيناريو والإخراج فيقول: "إنه على الرغم من أن استمرارية
الفيلم تكون معروفة مسبقا (في السيناريو)، فإن ذلك التسلسل الزمني والدرامي
قد لا يعطي بالضرورة أمتع النتائج المرجوة، فالأشياء التي تحدث بدون أية
مقدمات قد تعطي إحساسا بالمفاجأة، وحين ترتب هذه الأمور الفجائية في
الفيلم، من دون أن يختل التوازن فيه، فإن هذا الفيلم في مجمله يصبح أكثر
إمتاعا".
الخاتمة:
نختم مقالنا بكلمة لـ(كوروساوا) عن بعض أسرار العملية الإبدعية في الإخراج،
وسنرى كم كان دقيقا في وصفه وهو المخرج الذي عُرِف بنزوعه "إلى الكمال حد
الاستحواذ"، يقول (كوروساوا): "في بعض الأحيان، وبينما أقوم بتصوير فيلم
ما، ينبثق فجأة وبدون قصد مشهد أو لقطة سينمائية رائعة إلى حد لا يصدق، ومن
الصعب التعبير عن ذلك بالكلمات، ولكنها إحدى تلك اللحظات التي تقوم فيها
قوة خفية بتجميع العناصر المختلفة ومضاعفة تأثيرها بطريقة لا يمكن التكهن
بها، تلك قوة لا يمكن إدراك ماهيتها، أتراه شيئا في عقولنا يقوم بترتيب
الأمور حتى تبدو على هذا الشكل؟ لا أظن ذلك. إنها أقرب ما تكون إلى مجموع
الجهود الفردية التي يقوم بها كل منا، وقد تجمعت، وأصبحت لها فجأة روح خاصة
بها. إنني أعمل على مدار الفيلم وفي ذهني هاجس التوصل إلى مثل هذه
اللحظات."
سينماتك في 19
نوفمبر 2012
|