لم
يسعفني الحظ لمشاهد فيلم "الدجاج مع البرقوق" عند عرضه بمناسبة مهرجان
أبوظبي السينمائي الدولي العام الفارط،
شاهدته
أخيرا بمناسبة عرضه ضمن برنامج قسم السينما في جامعة نيويورك أبوظبي.
ويتبدى الفيلم مختلفا منذ بدايته التي أوحت لنا بأجواء نهايته المتعلقة
خصوصا بموت بطله، وقد أمهلنا مخرجا الفيلم بعض الوقت، قبل إعلامنا بذلك،
وأدخلانا في عوالم شخوصهما.
من بين المشاهد الأولى في الفيلم
ذلك اللقاء بين بطل الفيلم "ناصر علي" وتلك السيدة الخمسينية في السوق (والتي
سنعرف بعد ذلك أنها محبوبته التي حيل بينه وبينها)، وبسبب إيقاع المشهد
والموسيقى والنظرات التي تبودلت فيه، عرفنا أن في ذلك سر الفيلم، بعدها
بقليل وقد انجذبنا إلى أحداث الفيلم المتسارعة جدا وتعرفنا على شخوصه
وحكاياتهم التي تدور من حول "ناصر علي"، شهدنا قرار هذا الأخير المفاجئ
وقليل المبررات سرديا (لذا جاء في شكل هزلي) وضع حد لحياته بالانتحار بشكل
مستحدث، وهو حبس نفسه في غرفته والموت جوعا وعطشا على فراشه، وكانت هذه هي
رغبته، ومنذ هذا القرار بدأ العد التنازلي لحياة بطلنا بحساب الأيام، كنا
نعرف أن الموت قادم لا محالة، خاصة وأننا رأينا مشهد دفن ناصر علي، وهكذا
تابعنا قصة الفيلم وهي من ماضي بطله الداخل في عداد الموتى.
وقصة الفيلم اختصارا هي قصة شاب درس الموسيقى وأصبح عازفا عظيما لآلة "الفايولين"،
وتعرف في فترة دراسته على آنسة اسمها "إيران" يعمل أبوها في بيع التحف
التراثية، ورغم حبهما لبعضهما فقد حال الأب دون زواجهما،
وأجبر
ابنته على الزواج من ضابط في الجيش لا تحبه، بينما أَجْبَرت أم "ناصر علي"
ابنها على الزواج من أستاذة في الرياضيات (فارنجيس) لم يكن يحبها البتة،
وعاش العشيقان كل في عشه للزوجية تعيسا حتى قرر بطلنا أن يجعل حدا لحياته
رغم أن علاقته الزوجية قد أثمرت بنتا وابنا حلوين.
طرح قضية الموت منذ أول الفيلم واستعراض الأيام إليه بعد ذلك، أضفى على
الفيلم ليس جوا حزينا وحسب، بل أكثر من ذلك، لقد جعله تصويرا لعالم الموت
نفسه وجعل الوقت فيه يمر موحشا وغرائبيا، وحتى حين تابعنا الحياة قبله
-والتي تأتي زمنيا في الفيلم بعده- رأيناها بعين الموت وضمن ذلك الزمن
الغرائبي، فكان الموت أساسيا في دراما الفيلم وجوه.
فنيا وجماليا كان كل شيء يصب في التصوير والتجسيد الدرامي والبصري لمسألة
الموت، والحكاية لم تكن سوى حجة أو تعلة ليس إلا، وأي حكاية كلاسيكية كان
يمكن أن تفي بالغرض، ولكن حبذا لو يكن موضوعها عاطفيا، أي أن تكون عن حب
محبط منع فيه الحبيبان من الوصال فانتحر أحدهما. زيادة عن ذلك، حبذا لو يكن
زمن الحكاية قديما وأن يكون مكان وقوعها في بلاد يحيط بها الغموض النسبي
لدى الجمهور الغربي، في المشرق مثلا، الاختيار لإيران في بداية القرن
الفائت يمكن أن يكون جذابا لعدة أسباب. كل هذه العناصر يمكنها أن تضفي على
الحكاية زيادة نوستالجية وشيئا من شجنها، خاصة إذا تشابه شخوص الفيلم في
خصائصهم النفسية والثقافية مع أفراد غربيين أو فرنسيين. هناك أمر آخر كان
فيه شجن أيضا، لقد كان بطل الفيلم "ناصر علي" يحب السفر وقد تنقل في فترة
شبابه عندما حرم الوصال بحبيبه بين عدة بلدان أقام فيها حفلاته الموسيقية
وكان من بين تلك البلدان والمدن باريس ونيويورك ومصر، الخ. فرأيناها في تلك
الفترة من بداية القرن الفائت على خلفية عزف فايولين صاحبنا الذي كان يبث
على الراديو في شكل نمطي جذاب، وفي إحدى المشاهد رأينا بطلنا وهو يتنقل بين
تلك البلدان في طائرة صغيرة وهو ينظر من النافذة إلى الخارج، فبدى وكأنه
يتابع حياة حبيبته البعيدة، وهذا الاحساس جاءنا بسبب بناء الفيلم، فقد
رأينا بعض مشاهد عن حياتها قبل مشهد الطائرة. لقد كان هذا المقطع مؤثرا
وموحيا جدا.
هكذا إذن جاءت مكونات الفيلم الأولية البنائية والمضمونية، بعدها، مضى بنا
الفيلم على المستوى الأسلوبي والفني في رحلة ممتعة استكشفنا فيها كل
إبداعيته وعمقه وجدة عالمه.
كما جاءت الاختيارات الفنية متقنة ومنسجمة مع فحوى الفيلم الغرائبي والسحري
فكانت الإضاءة مبثوثة في كامل الصورة وليس لها مصدرا واحدا، فالألوان خافتة
باهتة واصطناعية، كما تميزت رغم تلونها بنمطية الأسود والأبيض، وأكاد أجزم
أن الفيلم إنما فُكِّرَ بالأسود والأبيض، ولكن فيلم المخرجين
(بارونود وساترابي)
الأول أبيض وأسود ولابد من الخروج إلى الألوان.
الأماكن كانت قديمة، وكانت تمثل أسواقا فارغة أو مفرغة من حياة حقيقية،
ظاهر أنها لم تكن أسواقا في الأصل وإنما أعدت لتفي بالغرض، كان الأفراد في
الأسواق أو المناهج قليلين، كان وقت الأماكن غير طبيعي، وكنا لا نعرف إن
كان صباحا أو مساءا، في البداية بدى هذا الاختيار مزعجا لأنه غير زمني أو
واقعي، ولكن، فيما بعد، وعندما اتضحت لدينا الرؤية وعرفنا أننا في زمن نمطي
مختلف أو خارج الزمان الواقعي اقتنعنا.
وقت طويل من الفيلم قضيناه في الداخل، إما في غرفة خافت ضوؤها أو في محلات
لبيع الأشياء القديمة والتراثية لا تدخلها الشمس، بما في ذلك محل بيع
"الفيولين"، أماكن لقاء الحبيبين -مثل الردهات والأزقة- تكون دائما منعزلة
وخالية من البشر، ودائما هناك سبب لهذا الخلو، مثل المطر في مشهد لقائهما
الأخير، مكان تعلم الموسيقى لا يتسع إلا للتلميذ وشيخه وليس معهما غيرهما.
هناك فناء البيت، لقد كان فناء قديما وبدون شمس أيضا وقليل الألوان إلا في
مناسبة واحدة.
ولأن الإضاء مهمة جدا ولأنه لابد للمخرجين من تصوير الخارج وإن كان الداخل
هو من احتضن أغلب مشاهد الفيلم، فقد جرى الاختيار على أن يكون وقت الخارج
شتاء، هكذا بدا في ملابس المارة المعدودين، وهكذا بدى لنا في الحضور الكثيف
للثلج، وهو إما متنزلا قطعا مثل نتف الصوف أو هو جاثم على الأراضين
والأشجار والأشياء. وعندما كان شبيها بنتف الصوف أو "العهن المنفوش" ذكرنا
بصورة قرآنية تخبر عن نهاية العالم، ولكن الفيلم أعطى لهذه النتف طعما أيضا
حيث رأينا في أحد مشاهده الولدين يتلقفانها بأفواههما ما ذكرنا بحلوى الصوف
التي نعرفها.
الثلج كان مهما أيضا في إعطاء لون الفيلم الفاتر والقريب من الأبيض..
وقد كان لهذا تأثيره على صورة المقبرة وأشجارها وهي تحت الثلج معدومة صوت
الحياة وقد بدت مثل صورة تذكارية ثابتة قريبة في لونها من الأبيض والأسود..
في المشاهد الخارجية جعل الثلج اللون الأبيض غالبا وفي الداخل كان اللون
الأبيض هو الغالب أيضا على الأغطية، وحين تكون اللقطة قريبة جدا يكون الوجه
وتكون الوسادات بيضاء، (هذا مع الاشارة إلى الاتقان الكبير لهذا النوع من
اللقطات في الفيلم).
الأبيض رأيناه أيضا في دخان السجائر الذي اشتغل عليه المخرجان كما اشتغلا
على الثلج فأحيياه وحركاه وخاصة في موت الأم حيث صور وكأنه روحها التي
غادرت جسدها، ثم مر الدخان بالغرفة وعبر الفناء، ووجدناه في مشهد لاحق فوق
قبرها، فأمسى موضوع ذلك الحوار من حول القبر، إحدى التعليقات التي سمعناها
تقول أنه دخان السجائر التي دخنتها.
هذه السجائر التي كان لها حضورها البصري القوي في الفيلم، والسجارة
والتدخين يمكن أن يرمزا للحزن والشجن وربما للموت أيضا وذلك على ضوء معنى
أكثر تحيينا..
بالنسبة للقبر فإنه بدى لنا نفسه وذلك سواء بالنسبة للأم أو ابنها، حيث صور
من نفس الزاوية ومن ذات المسافة.
هناك المشاهد العامة في الفيلم وقد صورت في الغالب في بعدين اثنين وليس
ثلاثة، ما يحيل إلى الصور التذكارية كما قلنا، وذلك كمشاهد المدن مثل مدينة
شيراز، حيث كنا نراها من بعيد مثل صورة تذكارية من غير زماننا وبدون شمس،
فخرجت أشبه شيئا بمنمنمة فارسية أو صينية، وتبدو أكثر قربا من هذه الأخيرة
لأنها أقل ألوانا من الأولى، وفي صورة مدينة شيراز نرى المباني ونرى دائما
الجبل، وعندما نكون مع بطل فيلمنا عند أستاذه في الموسيقى، ذو اللحاف
الأبيض والشعر الطويل والشنب الأبيضين نحس بسبب انفرادهما وسكوت المكان
أننا إزاء مكان مرتفع هو ذلك الجبل وأنه تنسكي وروحاني، وقد دار الحديث في
أول مناسبة التقينا فيها بالأستاذ وتلميذه حول الموسيقى وأن التمكن من
تقنيات العزف شيء، وأن تعطي لعزفك نفسا معبرا شيء آخر. وهذه الشروط هي شروط
الابداع -عموما- وهي ما اتبع في صنع الفيلم نفسه كما سوف نرى.
هناك المعطى الصوتي في الفيلم حيث نحس أن الخلفية الصوتية منعدمة وليست فقط
خافتة، إننا لا نسمع أصوات أناس آخرين حتى في الأسواق، أنا لا أقصد هنا
الشريط الصوتي الموسيقي، وهو ما سوف نشير إليه لاحقا..
نبقى في الخارج ونتحدث قليلا عن المناهج، حيث نلاحظ صمتها وضيقها وأنها
للمترجلين فقط، لا وجود فيها للعربات التي تجرها الخيول مثلا أو للسيارات
التي تحدث ضجيجا، لم يكن هذا الاختيار متعلقا بتكلفة الفيلم وحسب وإنما فيه
تصوير للعزلة والبعد والاغتراب، كما أن غياب السيارة أسكت المكان ليسمح
بذلك الحضور القوي للأرجل والأقدام التي كان لها إيقاعها وصوتها ولكنه بقي
صوتا نمطيا استعمل للربط بين المشاهد والأزمان.. وخاصة في مشهد لقاء
الحبيبين عندما رأيناه في المرة الثانية كاملا.
في الجبل أو المرتفع مع أستاذ الموسيقى، أصوات الطبيعة منعدمة، إنه زمن
نمطي ومكان نمطي.
في فناء البيت لما سمح الأب -المنتظر للموت في غرفته- لابنته عند غياب أمها
أن تلعب في الفناء، كان الفناء بدون شمس وكان رغم حضور أشجاره الممسوحة
الألوان بدون حياة للطبيعة، لا أزهار وكذلك لا أصوات عصافير، ولا ركز
جيران. كانت الفتاة تتأرجح على الأرجوحة ما يذكرنا بتلك الأرجوحة الروحانية
العشقية في فناء ناصر خمير في "طوق الحمامة المفقود"، ولكن هناك جَمْعٌ
وأصوات وعصافير وحمائم، وهنا صمت الموت وغرابة قرار انتظاره والاحتباس
لمواجهته من قبل الأب الذي كان يتابع ابنته من خلال النافذة.
نلاحظ في الفيلم غربة العلاقات أيضا، فليس ثمة ودا فيها، هناك دائما مسافات
مانعة مبعدة بين شخوص الحكاية سواء كان هؤلاء الشخوص فرضيا محبوبين فيما
بينهم أو مبغوضين، هناك بعد ومسافة بين الزوج وزوجته التي لا يحبها، ولكن
لم يكن هناك قرب بين الزوج وابنته أو- وابنه، نحس ببعد وغربة حتى بين هذا
الأب وأمه، لا نحس بين شخصيات الفيلم بدفئ العلاقات، حتى وهو، أي
الأب-الابن، يصلي من أجل أمه كي تعيش، كما قالت، وكذلك في مثال ابن "ناصر
علي" عندما صلى من أجل أبيه كما أرانا الفيلم، لقد كان في الأمر بعد ووحدة.
بين بطل الفيلم وأخيه ذلك الماركسي الناشط في حزب تودة هناك مسافة،
أحسسناها عندما كانا صغيرين وعندما كبرا، بين الأخت وأخيها أبناء بطلنا لم
نستشعر أي علاقة حتى أخوية.
إن هناك مسافة غريبة حتى بين بطل فيلمنا والمرأة التي أحبها وأحبته، كنا
نحس أنهما غريبين عن بعضهما وأن شيئا ما يفصل بينهما من البداية إلى
النهاية عندما شاهدنا ذلك اللقاء الدرامي والاشكالي..
في الأماكن المتعددة (شيراز، ربما طهران، باريس، نيويورك، القدس، التاج
محل، الخ.) كما في أساليب تصويرها هناك مسافات شكلية وزمنية، فقد تميز بشكل
واضح أسلوب تصوير تلك الحياة الأمريكية وتلك الولادة للحفيد،
التي حدثت في مستقبل زمن الفيلم -وكانت قفزة زمنية غريبة في السينما- وصورت
بأسلوب السلسلات التلفزية الأمريكية (السيتكوم)، فكانت في قطيعة أسلوبية
تامة مع باقي الفيلم.
الموسيقى أيضا لم تكن تتفاعل مع أي من مشاهد الفيلم كجزء منفصل، كانت وحدها
تصور لتراجيديا الموت في نوع غريب عن المحيط المفترض للحكاية (إيران)، حيث
تصوره موسيقى كلاسيكية ضمن جو الأوبيرا.مع اعتماد تام لآلة "الفايولين"
الغريبة هي الأخرى عن المحيط الثقافي للحكاية، وهذه الآلة كان لها رمزية
كبيرة في قصة الفيلم رغم غربتها عن المكان.
ونشير بالمناسبة هنا إلى طريقة التعامل مع الموسيقى التصويرية وإلى ندرة
الأصوات المصاحبة في الفيلم ما يجعل جو الفيلم قريبا من الأفلام الصامتة
الأولى.
اللغة أيضا كانت على مسافة من تلك الأرض، فاللغة كانت الفرنسية بينما
المفروض أن يكون الناس إيرانيون ويتكلمون الفارسية.
هناك الطقوس، طريقة صلاة الابن لأبيه كانت على مسافة من أسلوب صلاة
الإيرانيين المسلمين ودعواتهم، كان الطفل يقبض على يديه مثل طفل مسيحي أو
بوذي، إنها غربة الأماكن والأزمان والعلاقات..
وفي ضبابية أو خيالية المكان والزمان والممارسات لم يذكر مكان بشكل محدد
إلا عند ذكر القدس في حكاية عزرائيل، حيث طلب ذاك التاجر من النبي سليمان
أن يرسله بعيدا عن مدينة القدس لأنه رأى فيها عزرائيل، هنا رغم أن الحكاية
هي من التراث العربي الإسلامي ولا يأتي فيها أي ذكر للمكان فإن الفيلم يصر
على ذكر اسم مدينة القدس وربطها بمُلك سليمان..
من جهة ثانية أضفى سرد هذه الحكاية، على لسان عزرائيل وتصويرها بأسلوب
التحريك وأخذنا فيها إلى الهند، شيئا من أجواء ألف ليلة وليلة.. وكان ذلك
مما أعطى سحرا جديدا للفيلم.
كانت هناك مسافة كذلك بين طبيعة نجم الوانمانشو الكوميدي جمال دبوز وفكاهته
الكبيرة، وأسلوب تمثيله في الفيلم المبالغ في رمزيته وغرائبيته...
كانت هناك مسافة أيضا بين صورة الفيلم المتقنة جدا والنمطية، والحوار الذي
كثيرا ما كان مطولا وزمنيا جدليا رغم تعجله.
كانت هناك مسافة أيضا بين أساليب الفيلم وتقنياته التصويرية، حيث كانت
متنوعة جدا، فكان منها الواقعي بمعنى غير التحريك وكان هناك التحريك، ومن
بين الواقعي كان هناك الأسلوب التلفزي الأمريكي (السيتكوم). هناك أسلوب آخر
وهو استعمال الصورة ذات البعدين، حيث رأينا ضمن هذه التقنية صورا لبعض مدن
الماضي والحاضر،مثل شيراز ونيويورك وباريس التي ربما أحالتنا في أجوائها
إلى صورتها في فيلم "راتاتوي" الساحر.
هناك التقنيات المسرحية في الفيلم، وأقوى مثال عليها هي شخصية الملك
عزرائيل عندما زار بطلنا في غرفته، فقد بدى لنا في مظهره وماكياجه مثل
شخصية مسرحية، ومثل كوميدي كان يلتحف لباسا أسودا ودُهن وجهه بالأسود، كما
جُعل له قرنين لطيفين يشبهان قرني معزة رغم سوادهما، وأسنانه البيضاء كانت
مطَمْئِنة لأنها إنسانية، وعندما غطى صاحبنا ليقبضه غطاه بجناحين أسودين
كبيرين ذكرانا بأوبيرا "بحيرة البجع" كما صورها " دارين آرونوفسكي" في
مشهده الأخير في فيلمه (Black
swan).
مشهد التقاء عزرائيل ببطلنا في غرفته استعملت فيه تقنيات الركح المسرحية
حيث تحولت الغرفة التي كبرت فجأة إلى ما يشبه الخشبة المسرحية في شكلها
وكذلك في طريقة إضاءتها.
ولكن كل هذه المفارقات كانت كالمقصودة وكانت مقبولة كلها وممتعة لأنها كانت
تصور حالة واحدة وجوا واحدا فهي ترينا وتسمعنا صوت الموت وألوانه والأجواء
الغرائبية التي تحف بذلك السر المكنون. وهي في تنوعها الأسلوبي بين التحريك
والواقعي والسينمائي والمسرحي والتلفزي والرسومي ونمطيتها اللونية
والصوتية، أعطتنا نفس الشعور بالزمان الغريب والغيبي واللامحدد للموت الذي
سبق طرحه في الفيلم الحياة، وهذا العمل على الزمان والموت في انشغالاته
التراجيدية والميتافيزيقية يذكرنا بأعمال أخرى مثل فيلم كوبولا(
Youth without youth)
وفيلم دايفد فينشر (The
curious case of Benjamin Button).
رغم أن طريقة السرد والأسلوب السينمائي في هذين الفيلمين يعتبران أكثر
تقليدية.
وفي الختام نلاحظ أننا لم نتحدث طويلا في تفاصيل حكاية الفيلم لأن أهمية
الفيلم لم تكن في حكايته وإنما في طريقة سردها السينمائي وفي أسلوب
استعمال المخرجين للوسيط السينمائي والبصري ضمن وعي كامل وتمكن واسع من
تقنيات وتكنولوجيا الصورة في تطورها الالكتروني الباهر، هذا إضافة إلى
إحساس ووعي تشكيلي مرهف لدى المخرجين ارتبط برسوم التحريك.
وللتنويه بتميز عنصر السرد السينمائي في الفيلم
فإنه يجدر بنا الإشارة إلى تلك النهاية قبل النهاية، ذاك اللقاء الذي بدأ
به الفيلم ليوهمنا بأن تلك السيدة التي لم تكن سوى المحبوبة لبطلنا لم
تتعرف عليه، لقد أعاد الفيلم نفس المشهد ثانية وتمادى فيه ليرينا حسرتها
وبكاءها وقد انعزلت في ذلك النهج مستندة إلى الجدار وهي تهمس باسم حبيبها
–ناصر علي- في إشارة إلى تعرفها عليه وأنها لم تنسه أبدا، وقد أحسسنا بهذه
الحسرة وتلك الدموع وقد عرضت علينا في نفس المشهد ولكن في إطاره وحيثياته
الجديدة وبعد علمنا بموت البطل بأنها لم تكن حسرة وحزنا وبكاء على الحب
الضائع وحسب وإنما حسرة على الحياة الضائعة كلها وعلى موت الحبيب.
وبسبب قوة هذا المشهد وقوة توقيته في الفيلم والتكثيف الباهر للحزن واللوعة
فيه لم نحتج إلى تلك اللوعة وذلك البكاء يوم دفن "ناصر علي"، فحضور
المحبوبة "إيران" فيه لم يكن سوى حضورا بصريا، لأن الحدث في مشهد القبر
الأخير تعلق بتشكيلية وتركيبة الصورة وألوانها وكذلك في الحركة الرشيقة
للكاميرا التي رأينا من خلالها في البداية أرضية المقبرة في بعدين إثنين
بدت فيه كأنها واجهة قائمة، وبعد أن انزلقت الكاميرا إلى أسفل استقامت
فوجدنا أنفسنا أمام صورة المشيعين وهم قائمون من حول القبر في لباسهم
الأسود، وقام المخرجان بتحريك "إيران" التي كانت في طبقة أولى من الصورة
ونبهانا بإلتفاتة منها إلى وجودها فتعرفنا عليها..
هذا الفيلم الجميل والشاعري كانت لنا عليه مؤاخدة أو مؤاخذتان إلى جانب تلك
الملاحظات التي سقناها آنفا والمتعلقة ببعض التناقضات على مستوى الخطاب
ونظام الرمزيات والتي كما أشرنا كان لها -بالرغم من ذلك- دورا إيجابيا في
صنع تعبيرية وسحرية الفيلم، المؤاخذة الأهم إذن تتمثل في المقدمة التي وإن
قبلناها لجاذبيتها البصرية ونسقها السريع فإنها بدت بالنسبة للحكاية مطولة
وغير بليغة، وإلا فما معنى أن نقضي كل ذلك الوقت ونحن نجري وراء ناصر علي
في بحثه عن فيولين جديد يعوض به تلك التي حطمتها زوجه ولكن دون تحقيق الهدف
وهو تحصيل تلك الآلة الموسيقية، إن كان كل ذلك من أجل أن يعبر لنا المخرجان
عن أهمية الفيولين التي فقدها ناصر علي لأنه حصل عليها من عند أستاذه فإن
الأمر لم يكن معلوما وقتها كما أن في الأسلوب نوع من التطويل.
شيء آخر يمكننا اعتباره من نقاط ضعف الفيلم وله علاقة بما سبق وهو مبرر
انتحار ناصر علي، لم يكن فقد هذا الأخير لفيولينه مما يبرر قراره
بالانتحار، وهو الحدث الذي تدور من حوله كل دراما الفيلم، لقد سعى المخرجان
كما ألمعنا إلى طرح هذه المسألة بطريقة هزلية لتجاوز ذلك الاشكال ومع ذلك
لم يكن عملهما مقنعا تماما في هذا الخصوص.
فيلم
"الدجاج مع البرقوق" للثنائي
(بارونود وساترابي)
هو نموذج للسينما البصرية والشعرية التي استعملت فيها تقنيات وخبرات فنية
تشكيلية ودرامية وتراجيدية متنوعة جدا وأعادتنا إلى أجواء السحر في السينما
الأولى، وهي إلى جانب ذلك لا تفتقد للمضامين الإشكالية الإنسانية في
حكايتها المأثرة رغم كلاسيكيتها...
سينماتك في 05
نوفمبر 2012
|