حدث ذات مرة في الأناضول
ONCE UPON A TIME IN ANATOLIA
تركيا / 2011 / 157 دقيقة / 35 ملم
إخراج: نوري بيلغي جيلان ـ إنتاج: زينب أوزباتور أتاكان ـ تأليف: محمد
إريلمز ـ تصوير: غوخان ترياكي ـ تمثيل (بالترتيب الأبجدي): ايركان
كيسال, يلمز إردوغان
ملخص الفيلم: يحكي هذا الفيلم قصة تحقيق
تجريه الشرطة عن جريمة قتل غامضة، يعترف مُرتكبها بجرمه، ويدلّ
المحققين على مكان الجثة. تمشط فرقة البحث المنطقة الريفية المرعبة
طيلة الليل، دون جدوى، بعد أن يخفق الجاني في تحديد المكان الذي دفن
فيه ضحيته. لكن، إن رغب المشاهد في أن يتبنى دور المحقق، سيلاحظ أن
مفتاح اللغز يكمن في الأحاديث التي تبدو لأول وهلة هامشية. لقد أجاد
المخرج في هذا الفيلم الجمع بين الحبكة البوليسية الغامضة وبيئة تنضح
بجمال مخيف، في رحلة مشوقة لاستكشاف ما قد يعتمل في قلوب البشر. |
تتميز أفلام المخرج التركي نوري بيليج جيلان بالاتقان والانضباط
الإخراجي إلى جانب كثافتها الروائية بتعدد مستويات القراءة فيها وكذلك
أصالة شخصياتها.
لا خروج في الفيلم الأخير لنوري جيلان عن هذه القاعدة، هناك ذات
التركيز في أحداث الفيلم ونفس التوفيق في الشحن العاطفي والنفسي والضغط إلى
الحد الذي يصبح معه هذا الفيلم من غير المنصوح به لأصحاب النفوس الحساسة.
ويجند نوري جيلان من أجل تحقيق هذه الانفعالات والأحاسيس القوية خبرة
حقيقية في التقنيات السينمائية، البصرية منها وخاصة السمعية.
على مستوى الصورة يواصل نوري جيلان العمل بذاك "الكونتراست" الذي يقسم
الصورة إلى مناطق مضاءة وأخرى غير مضاءة مع استعمال ألوان ساخنة غالبا.
ميزة سينما جيلان أنها تعتمد نفس "الكونتراست" في المرئي على مستوى
السمعي، فهناك الأصوات القوية التي تأتي على خلفية هادئة، مثل إعتماده صوت
البرق، هذا الحدث الطبيعي-السينمائي الذي لا يكاد يغيب عن أفلام جيلان
والذي دائما ما يصاحبه لمعان البرق فيدخلا على صورة جيلان حيوية تبلغ حد
العنف. ليس هذا فقط بل إن الرعد والبرق دائما ما تصاحبهما ريح شديدة العصف
لتزيد من قوة الشحن والضغط على الجمهور الذي يكتسحه الخوف الذي يتأكد لديه
حين يسبقه إليه أحد الممثلين كما الطبيب في ذلك المشهد الخارجي في فيلم
"حدث ذات مرة في الأناظول".
إن المؤثرات الصوتية المتقنة والتي فيها قوة ورهبة والعمل المتقن على
الصورة ذات الألوان الحارة غالبا والمنبنية على أساس "الكونتراس" هي من أهم
العناصر السينمائية الآسرة في أفلام نوري جيلان، وهي تعمل على ملئ صوره
السينمائية بحيث تحتوي وتمتلك كل حواس الجمهور، وحينئذ يصبح من السهل على
نوري جيلان سرد أيا من حكاياه أراد.
حكايا نوري جيلان تجيء دائما متناسقة مع لغته السينمائية، فبها مثلها
عنف وقوة وتتميز بأحداث استثنائية، إنه من النادر أن تغيب الجريمة -وما
يحيط بها أحيانا كثيرة من عنف- عن أفلام جيلان. إن سينما جيلان هي سينما
العنف ولكن بلغة جيلانية وليس بلغة سكورسازية أو طارنتينية، لأن العنف عند
جيلان يحيل إلى عنف دفين وعميق مرتبط بتكوين النفس الإنسانية المعقدة
وممزوجا بعوامل ثقافية واعتقادية خاصة.
في فيلم "حدث ذات مرة في الأناضول" استلهم جيلان حكايته من جريمة قتل
حقيقية، وحسب الحكاية فقد اعترف القاتل بجريمته وخرج مع الشرطة وحاكم
التحقيق والطبيب الجنائي ليدلهم على مكان مواراته جثة ضحيته، كان الخروج في
الليل وكان العثور على مكان الدفن بسبب الظلام ومراوغات المجرم وتعلله على
عدم استدلاله على المكان بالسكر يوم الجريمة حال دون العثور على الجثة إلا
مع طلوع النهار.
كان
التشويق من حول الفترة "المظلمة" في الفيلم على أشده كما في كل أفلام
جيلان، ولكن لم يكن ذلك إلا خيط واحد من خيوط الحكاية، وهو ليس الخيط
الأهم، إنه مهم من باب أنه يشد الجمهور ويفرض عليه الإنتظار لمعرفة نهاية
حكاية القاتل والمقتول، أما من حول هذا الخيط الروائي كانت هناك حكايا أخرى
تأتي على طول الحكاية الأولى وليس على عرضها. فهي ترتبط بها ليس على مستوى
الحدث وإنما على مستوى الموضوع.
الترابط الموضوعي بين كل حكايا "حدث ذات مرة في الأناظول" تتعلق بقضية
العلاقة بين الرجل والمرأة، العلاقة التي كان من المفروض أن تكون علاقة أنس
ورحمة ودفئ فإذا هي تتحول إلى علاقة صراع وجريمة وقتل وانتحار... نعم
انتحار لأن من بين حكايا الفيلم توجد حكاية انتحار، وهذه الجريمة حدثت
لإحدى نساء الفيلم الذين لم نرى أغلبهم. وفي الحقيقة لم نرى من النساء
اللائي ذُكِرْنَ في الفيلم سوى إثنين، رأينا واحدة أخرى على الصور، واحدة
رابعة تعرفنا عليها من خلال صوتها على محمول زوجها قائد الشرطة.
زوجة حاكم التحقيق التي انتحرت لم نرها، لم نرى أيضا المرأة التي جرت
بسببها جريمة القتل.
إذن الفيلم الذي يتطرق بشكل قوي إلى العلاقة بين الرجل والمرأة في
المجتمع التركي يقصي صوريا -في فعل "كنتراستي" قطعي- المرأة التي اختُصِر
حضورها الفعلي في الفيلم في بعض دقائق.
يبدأ الفيلم مع رجال محشورين في الظلام داخل سيارة بحيث نرى داخل إطار
صورة جيلان شحنا للوجوه والرؤوس الرجالية غير المرتاحة تتوسطها صورة
القاتل، كانت الوجوه عابسة وكانت الأحاديث تدور من حول مشاغل قائد الشرطة
المتشائمة والسوداء.
وجوه
رجال السيارة كانت تتميز بخشونة القسمات وإطلاق الشوارب وإعفاء اللحى وعدم
حلقها لأيام إلى جانب وجه المجرم الذي على أنفه أثر ضرب، بحيث يرسل كل هذا
أحساسا كئيبا ورهيبا وأسودا، وحتى حاكم التحقيق ذاك الرجل الأنيق الحالق
لحيته فقد كانت على خديه ندوب زادت من حدة نظرته رغم ابتساماته المتكررة
والتي تحولت في آخر الفيلم إلى ابتسامات رثة عكست شخصية مهزوزة.
كان هناك ضغط آخر تسبب فيه بعد الشقة النفسية بين كل هؤلاء المحشورين
في السيارة رغم تقاربهم وتزاحمهم في المكان، هناك ضغط السيارة التي في وقت
من الأوقات لم تعمل وتطلب الأمر دفعها حتى تشتغل.
ويحدث في الفيلم بمناسبة توقف السيارة من أجل البحث عن الجثة أن يتفرق
الطبيب وحاكم التحقيق وسائق السيارة في الآفاق وينفرد كل واحد منهم بشؤونه
وأفكاره، سائق السيارة كان دائما ما يقضي وقته في قطف بعض الثمار أو
بالأحرى "سرقة" الحقول المجاورة.
في إحدى هذه المحطات تحدث الطبيب وحاكم التحقيق عن القتل في علاقته
بالمرأة، وحكى الثاني عن واقعة تعرفها خلال عمله عن امرأة كانت تعلم بساعة
موتها وقد حددتها بوقت ما بعد وضعها لصغيرها، هذا الأمر بقي موضوع استغراب
حاكم التحقيق بحيث لم ينسه ورواه للطبيب، الأخير سأل حاكم التحقيق إن كان
قد تم تشريح الجثة ومعرفة إن كان هناك سببا وجيها لهذا الموت الموقوت..
حاكم التحقيق قال أنه لم يكن هناك داع للتشريح لأن الموت جرى في ظروف
طبيعية ولا أحد من أهل الميتة طالب أو حتى فكر فيه.
هذه الحكاية كنا نتعرفها على طول الفيلم، أثناء عملية البحث عن الجثة،
وحتى بعد اكتشافها عندما وصلنا بها إلى المستشفى والتقى الطبيب بحاكم
التحقيق ثانية، وفي هذه الفترة بدأنا نتعرف على تفاصيل أكثر للحكاية وبدأنا
نعلم بكونها ليست مما قابل حاكم التحقيق أثناء أدائه لعمله وإنما حدثت له
مع زوجته، وهي ربما تكون قد قررت الانتحار بسبب تعرفها على خيانة زوجها
لها، وذلك وقتا طويلا قبل اختيارها الانتحار، رأي الطبيب أن مسألة الخيانة
ليست بالمسألة الهينة عند المرأة بحيث تنساها بسهولة، كان الطبيب واثقا من
قوة هذا الرأي، وهو ما يمكن أن يفتحنا على قصة خيانة من نوع آخر ربما تكون
حدثت للطبيب نفسه مع تلك السيدة الجميلة التي تعرفنا عليها في الصور التي
كان أخرجها في مكان إقامته في المستشفى.
نرجع الآن إلى عملية البحث عن الجثة في الليل، فقد أعطانا الفيلم
أثناء ذلك فسحة من الوقت ليريحنا قليلا من ذاك الضغط للظلام المسيطر إلا من
أضواء السيارات، أخذنا الفيلم إلى بيت ذاك مختار القرية الذي أحسن ضيافة
أصحابنا، دراميا أهم ما حدث في هذه الفترة من الفيلم تعرفنا تقريبا على سبب
الجريمة وحضورنا تلك الجلسة التي تحدث فيها مختار القرية عن حاجة القرية
إلى بناء سور للمقبرة وإيجاد مكان لوضع جثث الموتى قبل دفنها. هذا الحديث
قوى من حضور الموت وجثث الموتى في الفيلم، العنصر المهم الآخر في هذه
الفترة من الفيلم هو ذلك الظهور المثالي للمرأة ممثلة في "جميلة" ابنة
مختار القرية، وقد رمز بها جيلان إلى الصورة النموجية للمرأة الجميلة البكر
التي يحلم بها كل واحد من شخصيات فيلمنا الرجالية.
وقد
صور جيلان ظهور جميلة بشكل مثالي-تجريدي حيث طلعت على رجال فيلمنا بعد
انقطاع الضوء الكهربائي وهي تحمل طبقا فيه أكواب الشاي ومصباحا منيرا، فكان
وجهها –بسبب ذاك المصباح وعلى خلفية الظلام المحيط- وحده المنير، فبدت كذلك
مثل القديسين والقديسات في الأيقونات التشكيلية الدينية، حيث تصور رؤوسهم
وسط هالة من نور. كما عمل جيلان على هذا الحدث على مستوى كيفية استقبال
الرجال لمشهد هذه الفتاة، لقد نظروا إليها كما ينظر البشر إلى ملك كريم،
وذلك فيما يشبه نظرة أولئك النساء اللاتي قطعن أيديهن حين طلع عليهن سيدنا
يوسف في مجلس إمرأة العزيز وقلن "ما هذا بشر إن هذا إلا ملك كريم".
بعد ذلك وقد غادرنا بيت مختار القرية ورجالنا مرصوصين كالعادة داخل
تلك السيارة ذَكَّرَنا جيلان بأن تلك الصورة المثالية للمرأة لم تمحى بعد
من ذاكرة أصحاب السيارة، حيث تنهد ذاك "الدريول" (الذي كان مثال الرجل
الفاقد لماء الوجه) وقال كم هي جميلة الفتاة التي عند مختار القرية، وهنا
أرانا جيلان وجه الطبيب الذي تبدلت ملامحه وزاد شروده الذي عمقه أصلا ظهور
الفتاة. هذه النظرات والاهتمام من الطبيب وكذلك من كل الباقين أراد جيلان
أن يعبر به عن قضية المرأة ومشكليتها في حيواتهم.
هذه إذن الصورة التي يمكن أن نخرج بها من مشاهدة فيلم نوري جيلان
الأخير، وهي تعكس عالم جيلان السينمائي عموما، وهو عالم لم يعتريه التغير
وبقي محكوما بالعنف العميق ومشاعر الإخفاق والإحساس بالذنب فيما يخص
الحكاية، وبالإتقان السينمائي فيما يخص الصورة وإيقاعاتها.
في آخر الفيلم لم ينسى نوري جيلان أن يهدينا بعد فيلم عنيف وبعد مشهد
هو الأعنف بين كل مشاهد الفيلم، وهو مشهد التشريح بمؤثراته الصوتية القوية
وبنتيجة التشريح المقززة التي سوف لن نفصح عنها، لم ينسى جيلان أن يهدينا
بعد ذلك مشهدا حميميا متفائلا وجميلا رأينا فيه من خلال نافذة المشرحة
وعيني الطبيب أطفالا يلعبون بالكرة على امتداد ساحة مدرسة وسيع متراوح
الارتفاعات، وقد شارك في اللعب طفل المقتول، لقد كان المشهد أقرب إلى
العالم السينمائي للتركي سميح كابلانوغلو منه إلى عالم جيلان.
نأتي إلى الأداء التمثيلي في الفيلم لنقول أنه كان -مثل العادة- إحدى
أقوى مميزات سينما نوري جيلان. الحوارات بين الممثلين كانت مستقطعة بأوقات
صمت طالعنا فيها وجوه الممثلين المعبرة جدا، ما عمق من البعد الإشكالي
والدرامي للحكاية وشخصياتها.
أداء الطبيب ثم حاكم التحقيق كان الأجمل من بين الممثلين، ويأتي
بعدهما من حيث جمالية أسلوب الأداء رئيس الشرطة وسائقه.
في آخر هذا المقال أحب أن أتوقف قليلا عند التسميات التي أطلقها جيلان
على شخوص فيلمه. كما سبق وقلت فإن كل عناصر الفيلم لدى نوري جيلان تتحرك
حسب منطق ورمزية دقيقة لا تخطؤها، لذا فإن تسميات شخوص أفلامه تأتي هي
الأخرى ضمن هذا الإطار الفني والدرامي المحكم والذي نادرا ما يغفله جيلان.
في فيلم "حدث ذات مرة في الأناظول" أطلق جيلان على بنت مختار القرية -التي
رمز بها إلى جمال المرأة- اسم جميلة، وقد تم –بالفعل- التعامل معها
سينمائيا ودراميا على هذا الأساس، لذا من المعقول أن أتساءل حول تسمية
السائق باسم "عرب"، لماذا "عرب" وهو يتميز بكل تلك الصفات السلبية من تطفل
وتملق وقلة حياء وسرقة، إنه في نظري شخصية الفيلم الأكثر مدعاة للسخرية
والرثاء، أكثر حتى من القاتل نفسه، نقول هذا رغم طرافة هذه الشخصية وتميزها
بحميمية محببة دراميا.
ولعلي
لا أكون عنيفا مع جيلان حين أسأل حول خلفيات هذه التسمية، فهل هي في إطار
دغدغة عواطف الجمهور التركي الذي يعرف عموما بعدائه لبعض الأقليات العربية
والكردية على سبيل المثال أم أن ذلك دغدغة لعواطف بعض الأوساط المعادية
للعرب في الغرب. وربما يقول جيلان أن القصة حقيقية وأن شخصية السائق كانت
تحمل بالفعل اسم "عرب"، حينئذ أقول أنه لو افترضنا -وإن جدلا- أن اسم
الشخصية في القصة الحقيقية "يهود" هل كان جيلان سينزلها في الفيلم كما هي؟
هناك مآخذة أخرى فنية على فيلم نوري جيلان وتتعلق بكثافة الظلام أو
السواد في الصورة، فقد كانت الصورة أثناء تحرك السيارات في الظلام تبدو
أحيانا فاتحة وأحيانا أخرى داكنة، في إحدى المرات أمكن لجيلان أن يرينا
الصورة في شكل صفحة سوداء داكنة لا يفسد "صفوها" إلا تلك النقاط الضوئية
المنحسرة التي مثلتها فوانيس السيارات، كانت الصورة لوحة تجريدية سوداء مع
نقاط لونية ساخنة. ولكن هذه الصورة الجميلة كانت تتناقض مع الصورة التي
سبقتها والتي جاءت بعدها، لأنهما كانتا فاتحتين وكأنهما صورتا خارج وقت
الليل الدامس.
آخرا أقول بأن فيلم نوري جيلان "حدث ذات مرة في الأناظول" أمتعنا
بمستواه السينمائي العالي، وهو درس في السينما من منظار جماليات الصورة
والاستعمال الناجع للمؤثرات الصوتية والأداء التمثيلي المتكامل وكذلك
السيناريو المحبوك والثري من حيث الحكايا والمفاجئات التي صنعتها الأحداث
الحسنة التوقيت في الفيلم.
سينماتك في 17
ديسمبر 2011
|