ربما هي رؤية اخرى ، ومعالجة اخرى تلك التي تجعل من شخصية ما محورا لكل
شيء ليس لأنها البطل الذي لايقهر بل ربما بالعكس ، قد يكون او تكون البطل
الهش ، لكنه البطل في صنع تأثيره وسحره الخاص وبثه على كل من هم من حوله .
يقودنا ذلك الى الكيفية التي يتم فيها ومن خلالها صنع الشخصية الفيلمية
والشخصية الدرامية على العموم ، هو ذلك الخليط الأخاذ من التجاذبات
والصراعات التي تفعل فعلها في مسارات الشخصية وخياراتها وهو العنصر الفاعل
والأهم الذي بالأمكان التوصل اليه من بين الأشكال النمطية لشخصيات نشاهد
منها الكثير ثم مانلبث ان ننساها او تغيب عن اذهاننا ، لكن شخصية ما ليس
بسبب خارقيتها وانها استثنائية بفضل مايحيط بها من ضجيج بل بقدر ما تحمله
من سحر وتأثير ساحر ، تأثير بسيط ولكنه فاعل وعميق ، بصرف النظر عن قوة
الأفعال والأحداث الا ان هنالك مساحات اخرى للشخصية قد لانراها مباشرة
ولكننا نستشعرها ونتفاعل معها .. من هنا سيكون الحديث عن الشخصية هو حديث
عن المهارة والتمكن من صنع شخصية استثنائية تتكلم حين يصمت الآخرون وتصمت
حين يتكلمون ، تحضر في لحظة الغياب الأنساني ، وتتمرد على ذاتها والقوقعة
التي وجدت نفسها فيها .
وبالطبع يأتي كل ذلك متساوقا مع كلام كثير عن البنية الدرامية وعن بناء
الشخصيات وابعادها وهي اولى اسس ومهارات كاتب السيناريو ، لكن المشكل يكمن
ليس في تأسيس هياكل الشخصية البنائية ودافعياتها الشعورية واللاشعورية
واهوائها واهدافها وتحولاتها بل في نحت شخصية ليست نمطية وليس من السهل ان
تتكرر او تتشابه مع اخرى ، ربما كان ذلك هو احد المشكلات في كتابة الدراما
الفيلمية : انك تمتلك الأدوات التقليدية لصنع الشخصية الفيلمية في الفيلم
الروائي ولكنك تؤسس تكرارا ونمطية ولاتجد في تلك الشخصية الجديدة اختلافا
عن عشرات اومئات غيرها ، فالقواعد التقليدية لصنع الشخصية الفيلمية من جهة
والأمتداد الواقعي للشخصيات هما تحديان مع انهما عنصران دافعان مهمان
لأنهما يقودان اما الى صنع شخصية استثنائية ساحرة ومؤثرة وتتميز بابعاد
جمالية مميزة او انها تسقط في دوامة التكرار واللاجديد..
ولعل الفيلم الأسباني " انجريد" المصنوع حديثا لمخرجه (ادوارد كورتيس) يدفع
الى مزيد ومزيد من القراءات والحديث عن الشخصية الفيلمية وبنائها ودوافعها
وافعالها ، فالفيلم يقدم مجموعة من الشخصيات التي لن تشكل في النهاية الا
كورالا يردد اصداء الأصوات التي تطلقها انجريد ، فهذه الفتاة ليست الا فتاة
عادية في ملامحها ودورها وعلاقاتها لكنها في الوقت نفسه تصنع من البساطة
ابعادا اخرى مختلفة تجعلها محورا فاعلا مهما ليس في تغيير مسارات الصراع او
الدراما الفيلمية بل في العزف على اوتار حياة موازية لتلك الحياة اليومية
الروتينية .
يعيش ( اليكس ) فصلا جديدا من فصول حياته الزوجية التي لايكتب لها النجاح
وتختتم بلقاء عابر مع الزوجة التي تطلب منه ان يغادر ، ان يجمع اغراضه من
المكان الذي يتقاسمان العيش فيه لأن بقائهما معا اصبح مستحيلا والمسألة
ليست فيها عدوانية وشجار ازواج لكن ( اليكس) يجد نفسه في مواجهة قدره الذي
لامفر منه ولهذا يبدو حائرا مرتبكا في كيفية تصريف شؤون حياته وحتى ان
طليقته التي وجدت ظالتها في شخص آخر تجد له سكنا آخر وتكون قد استأجرته
ليسكن فيه . في اللحظة الأولى لوصوله لمكانه الجديد يلتقي (انجريد) التي
ترحب به وبلا تكلف تعده صديقا ثم تعرض عليه ان يستخدم سيارتها الخاصة ان هو
احتاج الى ذلك ...وبزوال تلك العوائق الشكلية لتعرف الناس ببعضهم للوهلة
الأولى تتدفق صور تلك الحياة المجهولة لأنجريد ، فهي تعيش ذكرى المشاهد
الأولى من طفولتها واسألتها المدوية عن الموت والحياة وانها كلما اغمضت
عينيها سيكون هنالك انسان آخر قد مات واناس يعذبون في مكان ما من الأرض او
تحت الأرض ومع احدى اغماضاتها ستغيب الأم والأب والعائلة جميعا وتجد انجريد
نفسها وحيدة لكن اصداء الموت والموتى والحياة الأخرى تتردد اصداؤها في
مسامعها ، هي انسانة قررت ان تزيل الحواجز عما حولها وتجعل الأشياء تمضي
الى طبيعتها : بيتها بلا ابواب ، قررت رفع الأبواب الداخلية ماعدا الباب
الخارجي ، هي صانعة للأبداع ، يتخطى الفن بالنسبة لها كل الحدود والحواجز
ويكتشف ( اليكس ) صور ذلك الفن وتجلياته في حضوره حفلات انجريد
الصاخبة ، هي تصنع مشاهد وعروضا مسرحية قوية وبالغة الحدة والـتأثير وتلهم
زملائها ذلك الأبداع في الصورة والسنوغرافيا وتمثلات الجسد دون ان تستطيع
ان تكون لرجل واحد بعجزها عن ان تحب انسانا حبا يمثله العشق والأمتلاك
الجسدي ، في عرفها ان الحواس تعبر عن نفسها بطريقة آنية ما دون ان يغدو
الوقت كله للحواس وهوما يعذب عشاقها الذين تجد واحدهم اسير حب تقليدي عرفه
وعاشه بينما لايمكن لأنجريد ان تعيشه ، وهو مايبعث اولئك المحبين لفتنتها
وسحرها وعذوبة شخصيتها الى الهياج والصراخ والأحساس بألم من عدم القدرة على
الأحتفاظ بأنجريد المحلقة في فضاء ذاتها غير القادرة ان تكون جسدا لشخص
واحد يمتلكها وقتما يشاء ، حواسها تتلمس طرقا ابعد وعوالم ابعد الى تخوم
غير مرئية وعوالم تتدرج كألوان الطيف ، لكن تلك الأكتشافات التي يصنعها
الفيلم والأبداع ليست بالضرورة مريحة وممتعة ولذيذة دوما ، بل قد تكون
خبرات مؤلمة ايضا ، ولهذا لاتتردد هي عن تجربة الألم ، وتبحث عن من يمنحها
ذلك الألم ، ذلك العجوز الألماني المتخصص في صنع تلك المشاهد السادية
بأستخدام الكلاليب التي تخترق الجلد ، لااحد يستطيع ان يوقف رحلة انجريد
الى عالم الألم هذا ، انه عالم مكمل للذات الحالمة بالفن والأبداع ، يتكامل
الألم مع اللذة غير المرئية ، ورغم شقاء اصدقائها مما تصنعه وشعورهم
بالألم من جراء ذلك الا انهم لايملكون الا البقاء قريبا منها ، ربما
رعايتها وحبها دون ان يستطيعوا ان يوقفوا جموحها ‘ فهي اذ تصنع الجمال ولذة
الأبداع فأنها تشرك اصدقائها ، تريدهم ان يعيشوا معها ذلك وفي الوقت نفسه
هي تسعى الى اشراكهم معها لحظات الألم ايضا لأن الحياة ليست متعة وسعادة
فقط بل هنالك مناطق للألم ايضا .
كل هذا يرصده الجار الطيب المسالم (اليكس) الذي يدهشه هذا العالم ويجد في
انجريد صورة اخرى للمرأة التي فقدها توا ، بطلاقه وانفضاله النهائي ، لكنها
امرأة استثنائية هو يشعر انه لايستطيع بسهولة الأحاطة بعالمها والأمساك
بحدود شخصيتها وموقعها بالنسبة له ، فهي تبادله مشاعر انسانية رقيقة دون ان
تلمسه او يلمسها ، هما صديقان حميمان وهو قريب منها جدا لكنه ليس حبيبها
ولاعشيقها ، بل هو كل هذا حينا وهو ليس اكثر من عين راصدة وشخص يراقب
ماحوله فيما يخص انجريد دون ان يكون له دور او تأثير خاص ، هي تقربه من
عالمها وتعرفه بجميع اصدقائها ويعيش معها الفصول شبه اليويمة في بيت بلا
ابواب وفنانون بلا حدود وحب بلا انانية الأمتلاك ، يتجلى ذلك في ورشة
متواصلة للأبداع في داخل بيتها ، هنالك دوما الموسيقى الغناء والرقص
والتمثيل وكل شيء ، لكن انجريد قد تثور وقد تسخط ، وتجدها عجلى غير قادرة
على التوقف مع حالة شخص او شاب ما يخطب ودها لأنها تريد الرحيل الى عوالم
اخرى قد لايرونها وتلك هي الصدمة الجديدة التي يكتشفها الجار المسالم عندما
تخبره يوما انها اكتشفت انها تصحو من نومها بعد انتصاف الليل او مع الفجر
وتخرج بملابس النوم وتركب سيارتها دون ان تعرف الى اين تذهب فترجو منه ان
ينصب كاميرا عبر النافذة وفي مواجهة سيارتها لتصويرها وهي خارجة ، لكن
الفضول من جهة والقلق عليها من جهة اخرى يدفعه الى تتبعها واقتفاء اثرها ،
فيلاحقها بسيارته ليجدها تدخل وهي حافية القدمين وكمثل السائر في نومه غير
شاعرة بشيء ، يجدها تدخل نفقا طويلا ينتهي بالدخول في مكان يوصد بابه تماما
بعد دخوله لتجد نفسها مع مجموعة من الأشخاص المسنين الذين يجلسونها في
وسطهم وكمن يحاكمها وماتلبث ان تخرج بعد ان يعجز هو عن الدخول الى ذلك
المكان ، وتتكرر القصة مرارا ودون ان يجد هو لمايحصل تفسيرا كما تمتنع هي
عن تفسير مايقع .
وتبدو بعد هذا كمثل الزائر المتعجل الذي يريد انهاء مهمة بقائه سريعا دون
ان يكون له ارتباط عميق ووثيق بأي كان وهي خلال ذلك في كلماتها الموجزة
والمنتقاة تطرق على اكثر من وتر مخلفة سحرا خاصا وتأثيرا ملفتا تتركه على
كل من هم حولها .
تمضي يومياتها فصولا من اكتشاف الذات عبر الفن وامتزاج الأصوات مع الموسيقى
مع الرسم مع النحت من الألوان الشفافة التي تحيط بها ، وفي موازاة ذلك رسم
خط النهاية بالنسبة لها ، وهي تلك اللحظة الفاصلة في حياتها عندما تخرج
للمرة الأخيرة والنهائية فتلاحقها صديقتها في هذه المرة’ وتذهب انجريد الى
المكان نفسه ليتم احراقها هناك ...لكنها وقبل زمن كانت قد اسرت صديقتها ان
تحتفظ بشريط فيديو لديها وان لاتعطيه الا الى ( اليكس) ولكن ليس قبل موتها
...لايصرخ ( اليكس ) ولايبكيها ، لكنك تشعر ان موتها قد سحقه ووجه له
ضربة عنيفة فهي متغلغلة لاشعوريا في اعماقه وشخصيتها متجذرة في وعيه
ولاوعيه ...في اللحظة التي ينتظر فيه امرا يجهله مما يحمله شريط الفيديو
الذي تركته انجريد له ...يجدها وهي تطل عليه بوجهها الطفولي على الشاشة
وبابتسامة غامضة ..قائلة : لقد انتهى كل شيء . ويتلك النهاية ينتهي الفيلم
.
الممثلة ( ايلينا سيرانو ) التي جسدت دور انجريد بهذه البراعة والتمكن ،
هذا الفيلم هو فيلمها الأول ، الذي تفوقت فيه على نفسها وتجلت مهارات
المخرج المتمكن الذي ادار تلك اللعبة الغرائبية ببراعة ، لاشك ان مساحة
الغرائبية في الفيلم لاتشكل الا مساحة محدودة بالقياس الى مساحات اوسع تجلت
من خلالها انجريد وقدمت دورا مؤثرا ، غاصت فيه في اللاجدوى واللاشعور
والوعي السالب وازمات المبدع وتجلياته وجنونه وعزلته وانانيته ونرجسيته
احيانا وحنوه وعاطفيته وانسانيته في احايين كثيرة ، انجريد هي انسان الأزمة
، المرأة – الطفلة المحاصرة بذاتها وبالألم ، والحيرة والوحدة وعدم القدرة
على الأنتماء القائم على الأمتلاك والأنانية ...
ولعل قراءتي لهذا الفيلم تختلف عن قراءات لأفلام اخرى من ناحية تلمس
العناصر الجمالية والحلول الأخراجية وماالى ذلك ، لأن هذا الفيلم عصي على
التوقف عند اخراجه او تصويره بشكل مجرد بقدر ما يكون الأقتراب من عالم
انجريد الشاعري الأبداعي الأنساني الواقعي الرومانسي الوحشي في آن معا
بمثابة قراءة لكل العناصر الفيلمية التي امتزجت واتحدت لتقدم هذه الشخصية
وهذه الدراما المتميزة في كل شيء لدرجة انك ومع كل جنون انجريد ورعونتها
وطيشها احيانا لاتملك الا ان تحبها وتتمنى ان تشاهدها مرات ومرات بسبب
السحر والجمال والمتعة الذي تتركه .
الفيلم انجرد
اخراج ادوارد كورتيس
تمثيل ايدوارد فاريلو ( اليكس) ، ايلينا سيرانو (انجريد )
انتاج 2009
* ينشر بالتعاون مع ورشة سينما
www.cineworkinst.eu
سينماتك في 24
أبريل 2010
|