زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

القاهرة السينمائي الـ 41

"جدار الصوت" للبناني أحمد غُصين.. هدايات حرب

بقلم: زياد الخزاعي

 
 
 

يُبقي شريط "جدار الصوت" (عنوانه بالإنكليزية "كلّ هذا النصر"، 93د) الباكورة الروائية للبناني أحمد غُصين عقيدته السينمائية مواربة. سؤالها لا يتعلق بصور فظاعات الحروب ودمائها المسفوكة وجثثها المتناثرة، بل عن قيمتنا كضحايا لها. ضمائرنا قبل أرواحنا. حججنا قبل قناعاتنا. كربنا بفقدان أحبة وأرض وبيت قبل تبرير هزيمة ما، أو التباهي بنصر ما. كلّ حرب بالنسبة ليّ شخصياً، مهما كانت ذرائعها، هي جريمة. كل قطرة تُسفح فيها هي خطيئة جماعية. أرواح البشر أثمن بكثير من عزّة وطنية فارغة، أو الظفر بمعارك لا تؤدي إلا الى المزيد من الظلم. حكاية غُصين متباسطة للغاية. شاب يتوجه الى جنوب لبنان، مستغلاً هدنة قصيرة، للبحث عن والده العالق بالحرب التي شنتها إسرائيل في تموز 2006 على البلاد. بيد إن رحلته تتحول الى ينبوع حياة. إن الحصار الرمزي الذي يجمعه بإربع شخصيات داخل منزل، وجلل الموت الذي يداهرهم بلا هوادة من دون أن يروا عدوهم، ينتهي بمواجهة حقّ إنساني كبير وجارح: أي حرب "يتوجب" علينا عُذْرها؟. أهي حرب عدو جامح يحرق كل شيء بقرار رَّبانيّ، أم حرب أهلنا التي تدمر كل شيء فوق رؤوسنا؟ هل الأول يقين والثاني تُهمة؟. هل الأول مبرَّر كوجود وقوة لإن "مستقبل الحروب مضمون"، فيما الأخر ملعون كنظام وعائلة وتاريخ وعشيرة وطائفة لإنه نجس وشرير.

يبدأ غُصين شريطه من خرائب مسقط رأسه في بلدة فرون، وينتهي بلقطة قدرية ضمن دمار الحرب في الزبداني السورية، ليماثل بلعنة سياسية صارخة وإتهامية بين تدميرين لا إختلاف في منهجية فاشيتهما وعصابيتهما وشرّهما. بين الإثنين يصبح العيش لعبة تخاتل بين وجهين مخفيين لـ"إله حرب" متعطًش للدماء. للأول، عصبة من جنود إسرائيليين "يحتلون" طابقاً علوياً، قبل أن يواجهوا نيران من يسميهم نجيب (بطرس روحانا) بـ"الشباب" الذي يسبغ عليهم صفات بطولية معلبة "الشباب وحدن بيعرفوا شو بيصير. دائما بيجو، هله بيجو (يأتوا)"، في وقت يُترجم العجوز الأخر قاسم (الممثل الراحل عادل شاهين) عن الجنود الإسرائيليين وصفهم " شافوا خيالة راكبين على أحصنة بيضا، عمّ يخيَلوا من جبل لجبل"، بيد إن هؤلاء الشباب لن يأتوا لخلاصهم، ولن نراهم أبداً. أما بالنسبة للثانية فهي طائرة مسيرة (درون) وكاميرتها التي تراقب البطل مروان (كرم غُصين)، وهو عاجز ومحبط وسط عزلة ضميرية، فأرض "اللقطة السورية" محروقة بيد نظام صفته "قاتل"، أما أرض "اللقطة اللبنانية" فمخرّبة بعمليات جيش يُعرّف بـ"قوّة قاهرة". وكلاهما غير مرئيين قصداً، ذلك إن صوتيهما الداويان هما خطاب ترهيبي، يتداخل دائما مع تخييلات مروان، فتارة يكون ذلك الصبي الذي يسمع خلال مناماته صوت القنابل الضوئية للحرب الأولى (1993) قبل أن يقف لمشاهدة ضيائها السحري وهو شاب في حرب لاحقة، وأخرى لإصوات تفجر مرحاض البيت بمخلفات يُفترض إنها ذهبت الى "خارج" بعيد، لكن هذا الخارج يعاند على عوداته وتهديداته لكينونة لبنانية، محاصرة داخل جدران، تخترقها أصوات جنود تائهين وصراخهم ونباح كلبهم وهدير طائراتهم ولعلعة رصاصهم و ...خُوار بقرة تُدعى "صبحا"!.

شخصيات غُصين (مواليد بيروت 1981) هلاميّة بإمتياز. هم جزء من حكاية لا رموز معقَّدة فيها، ولا خلفيات سياسية متصارعة، ولا طائفية متوترة بينها. هم جيران وقعت عليهم الحرب. ذمَّم لا نعرف قواعدها الإجتماعية إلا عبر شذرات. البطل الشاب مروان صفته إنه مقيم في بيروت فقط، يشي الصليب الذي تلبسه زوجته رنا بمرجعية دينية تربطهما. نجيب هو حزبي ورفيق سلاح والد مروان المختفي. بينما يتهكم قاسم على إنه ربيب سجون إسرائيلية و"حامل دكتوراه بالعبرية"، أما الوافدان محمد (عصام بوخالد) فيُوصف دائما بإنه "أهبل وعنيد وأغبر"، وزوجته جومانا (سحر منقارة كرامي) الملتاعة على شقيقتها وغيابها، وهي شخصية تتحول الى حد ما "أماً ملفقة" لمروان، حيث تبادر الى مسح حبات العرق من فوق جبهته بتحنَّن واضح، والوحيدة التي تشهد رحيله الى داخل "اللقطة السورية". أن تكافلهم داخل معتقلهم الإجباري يجعل منهم أشبه بقاطني حي شعبي قرقوزي، يجد مرجعيته الدرامية في مشهد إفتتاحي ساخر، نرى فيه مجموعة من الأهالي وأطفالهم يتابعون ساحراً عجوزاً يقدم وصلة، يُفترض إنها مسلّية، بيد إن وجومهم ولا تفاعلهم، يصبح جزءاً من خرس مشهدي تأويلي لحالة عامة من كرب لن يجد سلواه في حركات بهلوانية، سنقابل منها العديد لاحقا في مشاهد الشقة. تارة عبر تحذيرات قاسم وصرخاته: "موتو، موتو" (مثلوا دور الموتى)، ليرقدوا كخديعة تجنباً لـ"تفتيش" الكلب العسكري. وأخرى في بحث مروان عن نفق تحت الدار، لنشاهده جاثياً على قوائمه الأربعة، متشمَّماً أرضية ميتة، ومتحسَّساً جدراناً يخترقها الصوت بيسر، ولا تمنع العين المفتوحة للجندي القتيل من "الخزر" الى وجوههم المُرْتَعِبة.

أصرَّ صاحب "والدي لا يزال شيوعياً" (2011) على الإيقاع بشخصياته في فخ ممسرح، يُذكَّر بشريط الإيطالي سافيريو كوستانزو "برايفت" (أو "خاص" 2004)، حيث تحتل فرقة عسكرية إسرائيلية الطابق الأول لبيت عائلة فلسطينية، وتُمعن في ترهيبهم. تترسَّم في كلا النصّين جغرافية متضادة بين "فوق" مدجَّج بسلاح وعنف وتوّحش، وأخر "تحت" مُحيد وخاضع وصاغر ومُهان، تجسّدها لدى غُصين كلمات تأثمية، يرميها مروان في وجه العجوزين: "صارلكن مية سنة بهل الضيعة، مش عارفين تتركوها. شو في هون غير الموت. شو في". قبل أن يقدم قاسم نفسه أضحية لرصاصة غدر إسرائيلية، بعد إن وصل الى قناعة خاطفة وقدرية الى إن وجوده، وبالذات تلاعبه مع الموت، محض عبث حياتي حيث إن "الدّم ما ينقلب مي" كما همس في أُذن مروان.

ضمن الفيلمسرحي، يمرَّر غُصين ملاحات سريعة، ومثلها حميميات قصيرة هي بمثابة إعلانات حسّية، وإن عابتها خفَّة حكي سريعة التلاشي، كما قول المرأة الوحيدة لمروان المكتئب: "حلو لمن واحد يشتاق لحدا"، هدفها توكيد الطبيعة الشعبية لشخصياته، غير إن كلامها بقي متعثراً. حين تعود الكهرباء نسمع صوت آذان، وبدلاً من الذهاب خارجاً، يوجه مدير التصوير شادي شعبان في إشتغال لافت، بصيرته الى وجه العجوز قاسم، وهو يتخذ قراره الصعب. ما أن تتبدل تعابيره، يتقطع صوت المؤذن وكلمات الآذان فجأة بسبب إحتراق الكابلات، ويتحولا الى ما يشبه ترنيمة مفاجئة ومدروسة لموت مقبل. الى ذلك، يجعل نصّ غُصين من جومانا صنواً الى زوجها بعفويتهما المبالغ فيها، التي تصبَّ في مجملها ضمن تفريغ مُموّه لكل غمز مسيَّس يرد على لسان قاسم، وهو ينقل حكاية جنود الإحتلال، ووصفهم ما مروا به: "كانوا تايهين. خمسين جندي. بركة دّم. نزل سيف وأطش لهن روسهن. سيف كتير كتير كبير، وكتير ضخم. نزل من السما". يعقب محمد بغَفْلة: "هذا سيف الإمام عليّ. الحمد لله". قبل أن تختتم جومانا المروية الطويلة بسؤال أخرق: "كل هيدي قالوه"، يجيبها زوجها بحمق أكبر: "أي. ما العبري أقصر من العربي!". لا ريب إن "جدار الصوت" لن يتساير مع ذائقة متثاقفة. إنه شريط مصنوع بإرادة موجهة نحو قطاع وسطي. مَنْ يريد السياسة فهي متوفرة ومُضْمَرة، وإن شابها قصور في ما يتعلق بالمعلومة التاريخية وتمريرها بطريقة متساهلة وملّتبسة عبر راديو أو تلفزيون (كما في مشهد بكاء رئيس الوزراء السابق فؤاد السنيورة خلال خطابه الشهير)، أما إذا سعى للظرافة اللبنانية فهي منثورة في أغلب المقاطع. وإن إستهدف هداية الحرب، فعليه الإطمئنان إن غُصين حاك نصّه من أفواه خمسة شهود عليها. بيد إن ما عليه أن يتمعن فيه حقاً هو موسيقى العراقي الشاب خيّام اللامي وموتيفاته السمعية القائمة على إيقاعية إستفزازية وتَهيّبية.

سينماتك في ـ  02 ديسمبر 2019

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004