زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

مهرجان أنطاليا السينمائي الـ 56

"قلعة الأحلام" للإيراني رضا ميركريمي...

أقصى الأسى... ملامة

بقلم: زياد الخزاعي

 

 

 
 
 

يُبسِط الإيراني رضا ميركريمي سَطْوَته على العصب الدرامي لجديده "قلعة الأحلام" (أو "قصر شيرين")، الحائز على جائزتي أفضل مخرج وممثل في الدورة الـ56 (26 أكتوبر ـ 1 نوفمبر 2019) لمهرجان أنطاليا السينمائي في تركيا، مفَّجراً فيه قدرة خلاَّقة على لعن الإجحاف الشخصي وإستبداده، القهر وغشاماته، الجور وشراساته. هذه صفات كائن لا يرى سوى فُلكه الصغير المُعمَّد بفشله وعورته وهوانه. أب تتبعه زراية خُلُقه. عنيف، غليظ، متهور، أخرق، ماكر، ساقط الذمّة، ومراوغ. يعود الى بيت الزوجية بعد عامين ملّتبسين في غيابه وإختفائه، نفهم لاحقا إنه كان محكوماَ بالسجن، وحينما أُطلق سراحه، فضل الرحيل الى مدينة أخرى، ناكراً عودة لازمة وطبيعية الى أسرته!. سبب أوبته، إصابة أم ولديه بمرض سرطاني ينهش دماغها، وتركها شبه جثة على سرير مستشفى محلي. غرضه، الإستيلاء على ميراثها وما تبقى من أملاك، قبل رحيلها عن هذا العالم الجائر، وهي هنا سيارة دفع رباعي يسعى الى بيعها فورا، بيد إنها تتحول لاحقا الى "قصر متحرك"، تقودنا الى رحلة ضميرية على مدى الـ86 دقيقة من طول الشريط الباهر. ما يغفله هذا الرجل المنبوذ، إن إبنه أصبح غُلاماً، تحمل مسؤولية تواريه، وإبنة صغيرة ذات خفّة رُّوح وصلافة محبَّبة وطلاقة لسان لا ترحم، لا ترى في عودته ما يلزمها على طاعته أو البحث عن جُذوة مودة ميتة في دواخله. الشقيق وأخته، هما مقابل إنساني لشرور والدهما الملام على الدوام. ملاكان في وجه سونامي عاصف من غضب وعصابية وعنف، ينثرها الرجل الأربعيني في كل مكان يحل فيه، وفي وجه كل مَنْ يقابله.

يبسط ميركريمي سطوته على حكاية مفعمة بالأسى، منذ مشهدها الإفتتاحي، حيث يعي مشاهدها أن مخرج "تحت ضوء القمر" (2001)، و"مكعب من السكر" (2011) لن يلتفت الى تقليدية تقديم شخوصه أو التعريف بمحيطها كما فعل في نصوصه السابقة. هذا ليست غايته الآن. سهامه الأساسية تنطلق مباشرة الى قلب البطل ـ الضد ( أو اللا بطل) وقصاصه. في لقطة مقربة جداً لسحنته الرَّثة وصراخه ولا ودّيّته، يقدم ميركريمي وحشاً أدمياً لا يلوي على شيء. صدامي وبلا ضمير. نراه في مشاحنة مع شقيقة زوجته الساعية الى "تحميله" مسؤولية حضانة طفليه. يعتصم بالرفض والإصرار على المغادرة من دونهما، لكن ميركريمي، وبفطنة سينمائية بليغة التقشَّف، يضع أمام سفرته المفترضة موانع صغيرة لكنها مؤثرة، تقلب خططه ومثلها مسيرة حياته. أولها، مطاردة الدائن له ومطالبته أما بإسترجاع ماله، أوإستحواذه على السيارة غالية الثمن. ثانيها، لغو الصغيرة سارة (نيوشا عليبور) وحماساتها التي تنثر روح دعابة لا يطيقها الأب، لكنها تُظهر عدم فهمها لحالة عائلية معقدة، وسائرة نحو عنف، تشهد شدَّته لاحقا تحت دموعها ورعبها. في المقابل، يضْحى صمت الإبن علي (يونا تدين) قرباناً أخلاقياً، يقود والده في كل مشاحنة بينهما الى الكشف عن مصاب طال الأم وأولادها. ولكي يضع هذا الإختبار في موقع أسري يحسم جماعيتهم ومستقبل إرتباطهم الوجداني، أَوْجد ميركريمي شخصية عابرة، لكنها أساسية في توريتها بشأن الأب الجاحد وسلوكه العام، والمتمثلة برفيقته (زيلا شاهي) التي تتكلم باللغة الأذرية، وهي تفصيلة غريبة، تجعل منها "أجنبية" بلا حقوق، وجاهزة لمهانات يوجهها لها جلال (إداء قوي من حامد بهداد) بلؤم مستمر، بدءاً من تحاملاته على مكياجها الثقيل، وإنتهاء بتعاطفها مع الصغيرين، قبل أن تشتم عشيقها لاحقا بنعوت مخجلة. هذه المرأة الغريبة التي سترفض "حمايته" ووعوده، تحقق نصرها في التخلي عنه عند أول "تقاطع" مصيري، حينما توقفه الشرطة لمسائلته بشأن سياقة سيارته بهوج أعمى، من دون مراعاة صحبة طفلين.

يمكن إعتبار شريط ميركريمي سفرة نيّات (أو "فيلم طريق" حسب ترجمة البعض)، تجمع ثلاث شخصيات داخل سيارة، إلا إن الهاجس الإخراجي يُفشل أيّ نيّة بشأن تأويلها أو تجييرها الى حالة مسيّسة، تغمز الى ناحية الوضع الإيراني اليوم. فيلم "قلعة الأحلام" (قصر شيرين) أبلغ من الوقوع في طامة مُتساهَلة. برُمَّتِه، يصبح العمل سؤالاً لاذعاً حول إنسانية مشوَّهة وعدوانية وغير مُنصِفة. عن روح مكلومة بفشلها الشخصي، وغباء إستئثارها لإنتصارات مزعومة، وإن أقصى أساها يكمن في ملامات الأخرين لها، التي تتجلى لاحقا على شكل قسوة دموية، تنتظم  كشجار/ إنتقام، يتعرض له جلال على يد شقيقيّ زوجته المريضة. وهو مشهد موغل بالإهانة للجميع، حين يتحولون الى ثلة من حيوانات بشرية، يأكلون لحم بعضهم من دون الوصول الى خلاص حقيقي لمشكلة عائلية مركَّبة، غافلين عن واقع يومي فسيح بآلامه، وصادم بهوانه وعجزه وفقره، قطبيه كل من علي وسارة. في المقطع الأخير من الرحلة، يحسم ميركريمي سطوته السينمائية في الإنتصار الى ما يملكه الطفلان من حق في "السماح" بعودة والدهما الوضيع الى عالمها وبرائتهما. يأتي الإنقلاب الباهر مع لؤم الطفل علي ومؤامرة صمته المرعبة حين يشهد على غفوة والده خلف المقود. هذا قرار معاقبة أعمى، لا يريد أن يرى مخاطره عليهم الثلاثة. ما هو حاسم هنا، إن شخصية علي كفيلة بتطهير هذه الفوضى وإستذلالاتها، المذلَّة ومخازيها، الضراعة وخساساتها. يغضّ علي طرفه عن موت محقَّق لهم جميعا، غير إن سطوة ميركريمي تنتقي حيواناً بريّاً ليُصبح أُضحية تعميدهم، يعلن صوت إحتضارها عن نشر نور إنساني مفاجيء في مهجة مواطن يصرّ على صلافاته. وحدها دموع الطفل علي وكلمات مناشدته: "بابا، أرجوك إنقذه محبة بالله"، تدفع بالرجل الى الإستجابة والخُنُوع. في الصورة الأخيرة لهذه التحفة المدهشة بعواطفها وإلتزامها الكوني، نرى البطل يفتح باب السيارة ليؤذن في دخوله الى محجَّة صوابه، ويصبح أدمياً لمرَّة سينمائية أبدية!.

سينماتك في ـ  11 نوفمبر 2019

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004