زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

مالمو التاسع للسينما العربية - 2019

"أمباركة" للمغربي محمد زين الدين...

ديوراما الجهالة والجبروت

بقلم: زياد الخزاعي

 

   
 
 

الشخصيات الثلاث في جديد المخرج المغربي المقيم في إيطاليا محمد زين الدين "أمباركة" (102 د) تعيش حياة معكوسة. حيّة، في عالمنا لكنها بحكم الميتة في أعراف عالم مهزوم وموغل بالجهل وعُزلاته، فاحش بالظلم والقهر والجبروت ونوائبها. حيّة، لإن قدرها يجعل منها أمثولة شعبية عن الخسران. ميتة، لإن جغرافية المكان التي تحتلها، وتتحرك ضمن عوالمها السوداوية/ المتهالكة، هي أقرب الى قرارة جحيم لا نيران سعيرة فيه، وإنما حروب مستدامة بين طبقية سوريالية، وإستغلالات عقيمة، وإيمان منزوع الجذور، وغدر متأصل. هذه التوصيفات أساسية لفهم حصافة المخرج محمد زين الدين في إختيار حي شعبي شديد الفقر، كأنه مستول من عوالم أثرية، يقع عند "أقدام" وحش حداثي هو مصنع تعدين فوسفات، يقع في مدينة صحراوية (خريبكة)، يحاصر الجميع بضوضائه وبناياته العالية وجدرانه المحمية.

عالمان متناقضان، أول يشرف بهيمنة سلطوية على ثان هو أقرب الى زريبة إنسانية، يعيش فيها أفراد يراكمون كراهياتهم، ويلوكون كلمات مدهشة بحكمتها ومرجعياتها الفلسفية، على شاكلة قول البطلة أمباركة (إداء لافت من فاطمة عاطف، حازت عنه جائزة أفضل ممثلة في الدورة التاسعة (4 ـ 8 أكتوبر 2019) لمهرجان مالمو للسينما العربية بالسويد) الى عشيقها الشاب بائع السمك والنشال المدعو إشعيبة: "أنا هو مستقبلك"، بعد أن يتبرّم لها من حظه: "شوفي شني مخبيالي الوقت" (إنظري ما الذي يخبئه لي الزمن). يلعب هذا الأخير (الزمن) أدواره كمخرج سينمائي متخف، يتلّبس إدارة زين الدين وتوجيهاته، ضمن معادلة درامية مقولبة، تتضارب عناصرها بين جود في مواجهة باطل، أو حداثة في مواجهة موروثات راسخة، أو جندرية باغية في مواجهة عقائد إجتماعية لا تُهادن، أو أوتُوقراطيّة متجبَّرة في مواجهة رعايا يجهلون بأسهم النضالي ومقاومتهم، أو نصيب شخصي عاثر في مواجهة لا عدالة زجرية.

يقع مكان المخرج محمد زين الدين خارج ديوراما ممسرحة، صورها الإيطالي لوكا كواسيني بعين صحراوية مشعّة الضوء واللون. هو صانعها ومهندسها ومزخرفها من إيديولوجيا تحريضية بحتة لكن من دون إسفاف أو نزوع متعجل. يمكن إعتبار كل من أمباركة/ إشعيبة كيان عائلي، يستكمل بعضه الأخر، في مواجهة الفتى عبدو المُتبنى من قبل البطلة ذات الشخصية الماحقة. تتعرض هذه الثنائية الهشّة الى إمتحانات متعددة الأطراف، أولها أخلاقي، حين يقع فعل الزنا بين المرأة والنشال. وثانيها قيمي، حين يجد "الإبن" نفسه خارج دائرة إهتمام عواطفها، وداخل شكوكها. وثالثها تجريمي، حين تجد أمباركة نفسها محكومة بإتهام صبيها في إرتكاب جنحة قتل العشيق (عقوبة عقوقه؟). إذن، أهي جريمة شخص أم سلطة؟ أهي غدر فردي أم إشارة الى معصية جماعية؟. يجعل زين الدين من بطلته غُولاَ يظهر داخل فلاة سينمائية ضيقة، قالما نراها تسير في شوارع، أو تلتقي ببشر عاديين. كائن يملك قدرات عجائبية في صنع سموم وإستغلال جهالات مواطنين عاديين، تدفع بالمرض وتوهم بالشفاءات. أي إنها ترصد ضعف البشر فيما يتعلق بأعمارهم وأطوالها، ووجلهم من الموت وغُلُوله. وهي قضية أساسية في حكاية الشاب إشعيبة المُكابد من مرض جلدي (الأكزيما)، والساعي الى الخلاص من محنته المزدوجة: العوز/ السقم. حين يقع بين يديها، بعد نصيحة من إبنها عبدو (16عاماً)، وهو "فتى ودود يحبّ الخير للآخرين، وإنسان بسيطٌ ومتواضع لا يُضمر في نفسه شرّاً لأي أحد، وكل ما يصبو لأجله هو أن يستعيد نعمة الكرامة البشرية عن طريق تعلم القراءة والكتابة"، تفترس فيه قوّة شبقه ورجولته. تشفي إمباركة عشيقها الذي يملأ قلبه تشاؤم أعمى، ويحترف سرقة جيوب الناس، من الآفة لكنها تفشل في تصحيح "قوّة" عمله وعبوديته، مثلما إصرارها على إقصائها لمراهقها (المهدي العروبي) بحجة "تجسسه عليها"، معلنة خسارتها لإمومة ناقصة وآثمة، قبل إن تتهمه جوراً بسفك الدّم، لتدفعه الى فرار غير محسوب العواقب، في وقت تستغل التهمة للإفلات من قصاص جناية إرتكبتها إثر إكتشاف سرقة العشيق أموالها وعدّة النصب، أيّ خيانته لثقتها به، وتطبيقاً لشعار الفيلم إن: "السطوة بكل أشكالها، هي وحش يأكل أبناءه".

الجلي في فيلم زين الدين إن تواريخ شخصياته وخلفياتهم لا تُطرح الى مشاهدها ضمن مقدمات توصيفية، وإنما ينثرها بمكائد درامية وعبر شخصيات موازية. فبعد مشاهد إفتتاحية لقطارات نقل الفوسفات، وجيلان سريع في أزقة بلدة بني زم، نلتقي بصبية متشردة، تتواجد في كل مكان، وتراقب كل شيء. وحسب التورية، إنما هي تاريخ أمباركة بشكل أو أخر، تختتم صورتها وسط عراء مفتوح وقطار عابر ديوراما زين الدين، معلنة إن المرأة المهيمنة لن تتنازل عن صولاتها. فيما يصبح أطفال الشوارع كنايات جماعية عن شخصية إشعيبة (أحمد مستفيد) الذين يولدون جزافاً، ويرمون الى حياة بؤس وجريمة وشطط. وحده الصبي عبدو الذي نلتقيه وهو مقطوع الجذر، ينتهي مقطوع المستقبل شأنه شأن ملايين من أقرانه الذين تدفعهم عزومهم الى تجاوز خللهم الإجتماعي بالتعلم أو الإحتراف بيد إن بختهم وعثراته يحولهم الى هباء إنساني.

شريط زين الدين مسجُور بروح السينما الإيطالية خصوصا نصّ المعلم بيير باولو بازوليني "أكاتوني" (1961)، من حيث تفردهما بميزانسين مركب وقائم على شفرات سينمائية متعددة المستويات، رغم المسحات الواقعية على أحداثهما وشخوصهما. إن النشال المغربي يشارك نظيره الإيطالي، وكلاهما "يتسول" خلاصاً بلا أفق داخل وسط إجتماعي عدائي ونافر، قدراً أعمى يقود الأول الى الإعتصام بمئذنة جامع، معلناً عن إنتفاضة مؤوودة مسبقاً، بينما يموت الثاني في حادث سير بعد سرقة دراجة نارية، كإعلان عن فشل إنخراطه في فعل الخير. الى ذلك، إن إشعيبة وفيتوريو هما كائنان يعيشان وسط حيين جهنميين، ويحيط بهما بشر لا يخفون إشمئزازهم منهما. ففي نهاية المطاف، كلّ مقاربات صاحب "يقظة"  (2003) و"واش عقلتي على عادل؟" (2008)، و"غضب"  (2013) معنية بأطراف مجتمعية وطبقية وأهلها المهمشين، أولئك الذين يحصدون بلاياهم، ما إن يزرعوا آثامهم.

سينماتك في ـ  15 أكتوبر 2019

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004