زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

مهرجان كان السينمائي الدولي الـ77

فيلم الجائزة الكبرى للجنة التحكيم

(All We Imagine as Light)

"كُلّ ما نتخيَّله كما الضَّوء" للهندية بايال كاباديا... أرحام شرّيرة

بقلم: زياد الخزاعي/ خاص بـ"سينماتك"

 
 

" *ماذا تعني كلمة "نحن" في العنوان (بالإنكليزية) بالنسبة لك؟.

بايال كاباديا: جميعنا. ليس فقط في الهند، بل في كُلّ مكان. الكثير من النساء لا يستطعن التَّفكير في طريقة للخروج من حالاتهن، أو إيجاد خلاص آخر يُمكنهنَّ بفضله عيش حياتهن. سعيت الى أن أتخيل مسابر أخرى، رغم أنَّ الحكايات قد لَّا تكون قصتي تماماً، لكن هناك الكثير من النساء المختلفات اللَّواتي أعرفهن، وربما يقمن في مكان ما، تلح معاناتهن على أن تروى. بالنّسبة لي، تدور السينما حول فهم العالم من حولنا، وفهم أنفسنا. لذا، يجب أن يكون هناك جزء منّي في الفيلم أيضاً"(حديث الى منصة "أي ربِت فوت" الإلكترونية، 25 مايو 2024)

*****

"رحم شرّير"، هو وصف صاعق وغير مسبوق اخترعته المفكرة النسوية الأسترالية جيرمين غرير في كتابها التأسيسي "المرأة المخصيّة" (1970)، لتوصف به وعبره وصمة أزليَة ومتوارثة بالمرأة، حين تفكر وتحاول وتبادر وتتكلم، إن لم تتجرأ وتعترض. فالحتمية البيولوجية التي خُلقت بها وعليها، تفرض تحيزاً جنسياً بينها والرجال الذين "هم بيدهم أمر الكلام" حسب الدنماركي أوتو جيسبرسن، بمعنى أن حياداً مزيفاً يرعى تكويننا(وتدرجنا) الاجتماعيين، ويحقق بإرادته ذلك المفهوم المائع للملائمة بين الجنسين (أو كما أسمته غرير بـ"توافق الناس"). مائع، لإن الشائع في احترام المرأة كأم وزوجة وأخت وابنة وغيرها لن يمنع من وضع معايير صارمة تنظم أسبقيات القوة والهيمنة الجنسانية. مائع، لأن المكانة الجندرية رُسمت وفُرضت بقوانين نظام أبويّ قديم، توارثتها سلطات وضعية لاحقة، جعلت منها سلوكاً رعائياً، تكون فيه المرأة كائناً تابعاً (أو ناقصاً لا فرق) بلا وجاهات وعرضة للشكوك والمسَّ السهل بالطهارات والرزانات والأعراض. مائع، لأن خِيار المرأة لحياتها يتطلب اشتراطات جمعية هي في الغالب بيد أولياء أمر سواء أفراداً كانوا أم قيادة أم إفتاء... وجميعها ذكورية، ولن تحكمها أبداً نزعتها الشخصية الصافية التي تنتهي عاراً على ألسنة وشاة وقوالين وأهل ضِرار وحيل سيئة.

عن هذا "الحكم العاسف" تحديداً، صاغت الهندية الموهوبة بايال كاباديا باكورتها الروائية الهجينة بروح الفيلم الوثائقي "كُلّ ما نتخيَّله كما الضوء"، الحائزة على الجائزة الكبرى للجنة تحكيم الدورة الـ77 (13 ـ 25 مايو 2024) لمهرجان كانّ السينمائي، متناً سينمائياً سجالياً وطموحاً حول الانتقاص الاجتماعي والعائلي كأداة جَبْر، واضعة بطلاتها الثلاث بأعمارهن المختلفة داخل دائرة إرهاب مستتر، متتبعة خطوات احترازهن من الزلات وويلاتها، مضيفة على نصّها وحكايتهن تعميماً إنسانياً كونياً، لن يخص مواطنات هنديات مجالدات في حاضرة متضخمة بلا تواصل، وعدائية بلا جَمَام، وسالبة للاستقلالية الفردية والقوت الشخصي، إنما ينطبق على نظيراتهن في أي مجتمع آخر، وإن اختلفت الظروف والبيئات.

إنها نظرة جارحة ـ لكن متفائلة ـ لسراري مدينيات، نظن إن مسراتهن خاسرة سلفاً، قبل أن يفاجأن أقدارهن بحسم نبيه، يقودهن الى الفوز بمساحة تأمل شديدة الأهمية لحيواتهن ومستقبلهن، تنتخب كاباديا له حيّزاً بحرياً على الطرف الغربي لشبه القارة، ينأى بهن عن مومباي ووحشيتها، وتحوله الى يمبوس شخصي لبطلاتها، تنصب فيه حواراتهن القليلة حول خلل اجتماعي يضطهدهن علناً وبلا هوادة، وهن عاجزات على مواجهته أو إلغائه أو التحايل عليه.

تسأل حكيمتهن بَرابها (كاني كوسروتي) زميلتها الصغرى المتحرّرة، أو عديمة الحياء كما تصفها امرأة غيور، وتدعى آنو(ديفيا بَرابها) وهن في مواجهة المحيط الشاسع: "أتهجسين المستقبل؟"، تجيبها: "أشعر أن مستقبلي هنا في هذه البقعة، لكنني لست مستعدة له". ردَّ ثقيل من فتاة ريفيّة هندوسيّة، تصرف شبابها في عمل مضن كممرضة، وتراوغ أعرافاً عائلية بمواعدة شاب من عائلة مسلمة. يمكن اعتباره (الردّ) تحاملاً غير مباشر على فصل عرقي يقمع حريتها في الحب، وجندرة فاسدة لأنها ضحية مؤامرة أهلها لتزويجها ضمن صفقة مرتبة من شخص دخيل، وضيم معيشي كونها "عبدة" راتب شحيح وحياة متقشفة.

إن جواب آنو هو شجب مبطن لـ"مدينة أوهام وتناقضات"، تغوي مهاجري أرياف برغد حياة كاذب، قبل أن يجدوا أنفسهم رهينة شوارع مكتظة وجريمة وفساد وعبودية يومية... "مدينة تسلبك زمنك وحياتك"، كما يقول تعليق أحد المواطنين الذين تستعرضهم كاميرة مدير التصوير رِنبير داس في مفتتح قصير ذي طابع وثائقيّ، يصور أصحاب بسطات يستعدون لضنى يوم جديد في متروبوليس رأسمالي، يشهد طفرة عقارية وحُمّى تغيير خرائط وهيكلة أحياء على يد مطوريّ بناء شرهين ومخادعين، يرغمون فقراء مومباي على هجرة قسرية، والاستيلاء على مناطق سكنهم لإنشاء ناطحات سحاب فارهة، وتأسيس مستعمرات عمرانية ترفض تواجدهم، وتخشى وضاعاتهم.

 الشابة آنو، ثالثة زمرة نسوية جمعتها المخرجة كاباديا (1986)، هي وجه درامي إشكاليّ ومباشر بتورياته الى مجتمع متضخّم وعقائدي وعرقي بامتياز، ينظر الى المرأة كعِلَّة اعتبارية، يُذكرها بواجبها في الحفاظ على عفّة جماعيّة، ويحاصرها بحزمة قوانين ضُرّ، تهددها على الدوام باستحقاقات وقِصَاص إن تجاوزت الأعراف، أو شكّل سلوكها فضيحة، أو خالطت "ديانات مشبوهة". من هنا، تصبح مشاهد عري آنو وبُوسَاتها الحارة التي تجمع شفاهها بمَبْسِم شاب من غير ملتها، اختراقاً هائلاً من صاحبة "وماذا يقول الصيف" (2018)، لمحرمات تقليدية هندية، وهي جرأة تفجرها حداثات وافدة، تخترق ببطء لئيم تراتبات أخلاقيّة وعائليّة ضاربة في القدم. توكد تلك المشاهد القصيرة غير المسبوقة على أن نفاذ التحرّر كسلوك عام في نسيج شبابي لا مناص منه، وإن عدّته قوانين أكبر منظومة ديمقراطية في العالم، جرماً لا يُغتفر.

 
 

في أفعالها، تصبح آنو كما النُّور الذي سيقود هزّات متوالية وعنيدة الى أن تكبر تأثيراتها جيلاً بعد أخر. أيضاً، تضع كاباديا هذه الفتاة، المتحدية للتوازنات وتقاليدها وأحكامها، كـ"إفلات" غير متحقَّق للمرأتين الآخريين. فالأربعينية برابها ـ كما شريكتها في السكن المؤجر آنو ـ أتية من ولاية كيرالا الجنوبية للعمل كممرضة في مستشفى مكتظ، وهي وحيدة "هاجر" زوجها الى أوروبا بحجة العمل، وقطع تواصله معها. تساكن هذه المرأة الصموتة والمكلومة وضعاً معقداً، فأيّ ارتباط عاطفيّ عابر، يحولها الى امرأة زانية على الفور. تتعرض الى اهتمامات زميل طبيب يسعى الى علاقة سريعة، مفتاحها الشعر، لكن الوَيْلَة وملامحها على وجوه وعيون غدارة، تقف عثرة أمام حقَّ رغبة مجهضة مسبقاً. تظن برابها أن هناك هامشاً من حرية مضمونة لها، قبل سماعها نميمة/ تحذير من زميلة لها حول الفتاة وسيرتها، يضعها أمام وهمها وتحفظها ومعضلة تناقض حياتها كأجيرة وزوجة معلَّقة.

هذه الشخصية عنوان عريض لاغتراب متداخل ومركب، ذلك أن لغتها المالايالامية تجعل النفور منها حتمياً، فيما يُعتبر غياب الزوج تعطيلاً حياتيّاً نافذاً. برابها، أضحية داخل قفص بجدران خفية، نتعرف عليها في لقطة موحية، وهي تزيح ستارة حمراء خلف زجاج شباك واسع، يعكس لوناً سماوياً أزرق. صبغة تكتسح مشاهد الفصل الأول الطويل في مومباي، مضفية مسحة حزن شفيفة على عوالم سيدة، تهتزّ حين تتسلم ذات يوم رزمة بريدية، تضم طنجرة كهربائية لإعداد الرز. الطرد قادم من ألمانيا بما يُفترض إنها بلد إقامة رجل نازح لم يتواصل معها منذ عام، بعد أنَّ عقدت قرانها به ـ عبر صفقة بينه ووالدها ـ ليتركها على الفور، لكن المرسل لم يرفق هديته بخطاب أو إشعار تواصل، وكأنه يوصي عبر جهاز يشبه قنبلة حمراء أنيقة بـ"ارتهانها" له، وهو في بعاده!. "كيف لك الاقتران بغريب؟"، تسألها سيدة، قبل أن تكون إجابتها أقرب الى انتفاضة متأخرة: "لا أظن أنني سأقبل". رغم هذا، فحجتها لن تلغي غمزاً شائعاً لها كـ"رحم شرّير"، طارد لمُجاورة أسريّة، وإنها امرأة بلا خيار شخصي أو استقلالية ناجزة. هذه الأخيرة، هي ما يستكمل تنوع الحكاية المترابطة للشخصيات الثلاثة، إذ تصبح الأرملة والمهاجرة بارافاتي (تشايا كادام)، وهي طاهية المستشفى تم الاستغناء عن خدماتها، ذاتاً مُهانة من قوة استثمارية نافذة، قررت طردها من دارتها الفقيرة "لأنها لا تملك وثائق تُثبت حقها في الإقامة!"، لإفساح المجال أمام مشروع سكني عملاق. تواجه هذه المرأة الستينية بعناد "سرقة" استقلاليتها، رافضة الانتقال والعيش مع ابنها وعائلته "سأكون عالة (هم)" تقول بحسرة، قبل أن ترمي حجارة مرارتها على لوح إعلاني لشقق فاخرة، كآخر فعل احتجاجي لن يغير شيئاً.

*****

تربط المخرجة كاباديا ـ وهي على خطى الجهبذ ساتياجيت راي خصوصا في جوهرته السينمائية "شارولاتا" (1964)، ومعه زميله الملتزم بماركسيته حتى مماته ريتوك غاتاك وبالذات في نصّه السجالي "كوكب الغيمة المُكلَّلة" (1960) ـ عُسرهن الاجتماعيّ ومصيرهن مع بعضهن البعض، وكأن بهن شخصية واحدة بحالات متعددة: برابها، هي شعار شوق مقموع ومكابداته. آنو، علامة وهج فتوة وطيشها. بارافاتي، سمة شَكَاسَة وصلفها. هذا الكائن الدرامي برؤوسه الثلاث يعاني انعدام أمان ذاتي ومثله رومانسي، تقرر سطوة غاشمة لدى دولة عميقة، لن تُظهرها كاباديا بفطنة عالية، أنهن مواطنات بلا تعريف أو تمايز، وهن أقرب الى "إنسان حرام" (هومو ساتشير)، وهو عنوان أساسي لرباعية الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين والمنشورة ما بين أعوام 1995 و2014، حيث تقود مراسم تسلطية حياته العارية أو المستباحة، وتشترط عليه العمل والولاء، في وقت تنكر ذمته القانونية وحماياتها. ترى ما الذي عليهن فعله كي تستعيد ذواتهن حالة "الكارما" السامية، وتتحقق ولادتهن الجديدة؟. يكمن الجواب كما هو في تعريف المفهوم الهندوسي بـ"الصنيع" و"النية". حين تقرر بارافاتي النزوح المعاكس الى قريتها البحرية، تجد زميلتيها الأخريتان ضآلتهن بعطيَّة طريق / رحلة، واثقات من إن نور كينوناتهن سيكون في انتظارهن تحت سماء مكتظة بالنجوم. تنقذ بَرابها صياد أسماك شاباّ من موت محقق بـ"إعادة تنشيط" قلبه بعد غرقه، ليصبح تصرفها إيمان جماعي بقوّة الحياة و"شراسة" جلبها ثانية الى العالم، بينما ترسم آنو مساحة حريتها بأوسع ما يسعى إليه عشقها حين أحضرت معها حبيبها الى بقعة أمْن، لا تتطلب منها تكاذباً في ارتداء برقع أسود كي تموه على عقيدتها!، أما العجوز فتنغمر في الحال بمبرة مكانية وهِبات محيط مُترام وقناعة ذاتية في أنَّ أرض أجدادها ستحتضن جدثها يوماً ما.

*****

في باكورتها الوثائقية الطويلة "ليلة الجهل بكُلّ شيء" (2021)، حول قمع حكومي دموي لأول إضراب طالبي في معهد السينما بدلهي، مارست المخرجة كاباديا ابتكاراً مرئيّاً بالغ الشجاعة، حين صوّرت جميع فصوله بلا ضوء كاف. لم تخش من غمر الظلام لمشهديات ليليّة وداخليّة طويلة، تسترجع فيها يوميات قهر وارتعاب عبر قراءة رسائل عاشق الى حبيبته، ضمَّنها رؤيته تحت حصار جائر للنضال والحب والمستقبل والسينما ورموزها. في "كُلّ ما نتخيَّله ..." (115 د)، استعارت هذا النهج البصريّ وضمنته في غالبية المقطع الثاني البحريّ، حيث يعم الدجى سماء واسعة وهادئة ورَبّانيّة وشاعريّة، وينتصر الى ضياء كواكب مجرات تطفو فوق رؤوس بطلات، عرفن أن أفعالهن الحميدة حسب مبدأ التخليق في "الكارما"، وباعتبارهن كائنات مهضومات الحقوق، ستؤدي حتماً الى عواقب إيجابية، تطال شجاعتهن وصلابتهن ونظراتهن الى الحياة ومصائرها.

يقف هذا الفصل على نقيض من المقطع المديني، إذ يغمر لون نيلي نقيّ كُلّ شيء. يُزهر على ملابس الممرضات ومناشف المستشفيات وسلال المهملات وحواف الأبواب. يصبغ صباحات موسم الرياح الموسمية (المونسون الهندي)، وتلك الأغطية البلاستيكية التي تحتضن عمارات مومباي، وتحصَّنها من الرطوبة والهشاشة واختراقاتهما، انتهاء بتلك الزرقة البهية لمياه المحيط وأمواجه، ليضفي (الأزرق) إحساساً ضاغطاً وتأملياً بالبطء وحالات انتظار جليلة، تخترق دنيا نساء كاباديا في مدينة قيل عنها جملة بدأت كلعنة سياسيّة: "كُلّ عائلة في القرى لديها شخص واحد في الأقل يعيش في مومباي"، ما يجعلها رحماً (جغرافياً) شرّيراً لن يلد خطاياه بل يزدَرَدهم بالجملة كضحايا كوزموبوليتيه أسيوية، تتعجل الثروة والمكانة بين الاقتصادات الإمبريالية... ولكن بعمامة هندوسية متعصبة، تعتبر المرأة سَوْأة.

سينماتك في ـ  19 يونيو 2024

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004