مكتبة سينماتك

 
 

               

 

 

 
 

جديد الكتاب

 
 
 

أكثر الرجال ضحالة

ترجمة:

عصام زكريا

إصدار الكتب خان

القاهرة 2024

 

 أكثر الرجال ضحالة

عصام زكريا

 
 
 
 
 

عن الكتاب

     
     
 

«وودى آلن» كاتبًا ساخرًا ومتأملًا

محمود عبد الشكور

 
     
 

لم أستطع أن أمنع نفسى من الضحك بصوتٍ عال، وأنا أقرأ هذا الكتاب الممتع، الذى اختار فيه الناقد السينمائى عصام زكريا ترجمة مجموعة لامعة من قصص ونثر وودى آلن، السيناريست والمخرج والممثل الأمريكى الشهير.

يخطو الرجل الآن نحو سن التسعين، وما زال قادرًا على الكتابة والإخراج وصنع الأفلام، وما زال يملأ الدنيا ويشغل الناس، بأعماله الفنية، وبحياته الخاصة.

المدهش أن الكتاب الصادر عن دار الكتب خان بعنوان «أكثر الرجال ضحالة»، يترك فى النفس، بعد الضحك الصاخب، حالة من التأمل الممزوج بالشجن، لأن هذه الخفة المقصودة، التى تلتقط أبطالًا من فئات شتى، تبدو فى جوهرها موقفا فلسفيا من عبثية الحياة، ومن غرابة وتقلّب الطبيعة الإنسانية، ومن تناقضات داخلية وخارجية، لا سبيل الى التصالح بينها.

وكأنه لا يليق بهذه التناقضات سوى السخرية أو الرثاء، وآلن لا يحب الرثاء، ولا يجيده، لذلك اختار أن يسخر، وأن يقدم محاكاة ساخرة (بارودي) لكل الأشياء التى نفعلها بجدية. ولعل مختارات عصام الذكية لكتابات آلن، من خمس مجموعات قصص قصيرة، ومن كتاب رقمى يتضمن اسكتشات الستاند أب كوميدى، وآلن يُعتبر أيضًا أحد كبار نجومها، تجسد حقًا رأى ساخر آخر عظيم هو شارلى شابلن، عندما قال: «فى الجدية الكاملة يكمن السخف».

تشعر فى النصوص المختارة، وبينها مسرحية قصيرة، بمدى ثقافة ألن، وبحضور الفلسفة بالذات فى قلب اهتماماته، وبتنوع قراءاته الأدبية والعلمية، وباستخدام إحالات كثيرة إلى روايات وأفلام سينمائية وشخصيات تاريخية، كما تلمس حرية غير عادية فى الكتابة، فهو ليس مشغولًا بالشكل، وإن كان يجيده إذا أراد، ولذلك جاءت بعض النصوص كقصص قصيرة ناضجة، وبعضها أقرب إلى المقال الساخر، وبعضها أقرب إلى القصة السينمائية، لكنها فى معظمها تحتفل بالدراما، وتُعنى بالصورة والحركة والأفعال، ثم تطوّرها باتجاه عقدة وحل.
تمثل النصوص دروسًا فى الكتابة الساخرة، أما تكنيك الإضحاك عنده، مثلما هو الحال فى أفلامه، فهو يقوم على عناصر ثلاثة: اكتشاف المفارقة والتناقض فى أكثر الأعمال جدية، والخيال الخصب الذى يأخذ الموقف الى حده الأقصى، واكتشاف عبثية كامنة فى الإنسان نفسه، مثلما هى كامنة فى وجوده وظروفه الموضوعية.
لا يمكن أن تكره أبطال القصص، فكثيرون منهم يذهبون إلى الطبيب النفسى، ويحلمون بالخروج من واقعهم المحبط، وكثيرون منهم يهربون من حياة خاوية باللعب، بشتى أنواعه، ولا يمكن فى نفس الوقت أن تعجب بهؤلاء الأبطال.

يبدو لى أن ما يثير الرثاء ضمنيًا، أن البشر لا يدركون سخافة ما يرونه جادًا، ولا يدركون أن تقديرهم لذواتهم، ولأعمالهم، أكبر مما يستحقون، وأن الإنسان عمومًا يبدو أصغر كثيرًا مقارنة بالحياة، رغم توهمه أنه يمتلك الحياة.
هى إذن تنويعات على مفارقة وجودية كبرى، يقوم آلن بتعرية تناقضاتها، وهو ليس خارج اللعبة أبدًا، بل هو فى الحقيقة يكتب عن نفسه، عن مخاوفه، عن هواجس ما بعد الموت، عن لغز المرأة، عن الهروب بالخرافة وبالأمل الكاذب، كل ما فى الأمر أنه يمتلك سلاحين، هما: الجرأة والسخرية، ويستطيع أن يضع الأفكار فى قطعة شيكولاتة، وأن يصنع فنًا من الفلسفة.

أمثلة كثيرة تؤكد ماذكرت من سمات عامة: فى قصة «أكثر الرجال ضحالة»، يحكى عدة أصدقاء عن صديق لهم، ويعتبرونه أكثر الرجالة ضحالة، لأنه وقع فى غرام ممرضة، أثناء زيارة صديق مريض بالسرطان، وينتظر الموت. يتأمل آلن المفارقة، وخروج قصة حب من قلب غرفة يسكنها الموت، ويتأمل أيضًا معنى «الضحالة»، هل تنطبق على عاشق الممرضة؟ أم على أصدقائه الذين يرونه ضحلا؟ أم أنها تنطبق على الإنسان عمومًا سريع التحول والتقلب هروبًا من الموت الى الحب؟

قصتان من روائع آلن اهتم بهما النقاد، وكتبوا عنهما الكثير: «حكاية كوجيلماس» وفيها يهرب رجل من حياته الزوجية التى تخلو من العواطف، بأن يعود بالزمن، ليجد نفسه داخل رواية «مدام بوفارى»، ويتحول إلى عشيق لبطلة الرواية، ثم يعود بها إلى عالمنا المادى المعاصر، وقصة «عاهرة مينسا»، التى يستخدم فيها آلن حبكة بوليسية، لكى يكشف عن أكبر شبكة عاهرات مثقفات، تتحدثن فى الفلسفة، وتنظمن جلسات حوار تشبه منتديات المثقفين، وفى الحكايتين تعرية لتناقضات داخلية عجيبة، ولحالة مستمرة من الفراغ العاطفى والعقلى.

تتكرر حالة الهروب هذه فى قصص كثيرة، فيسخر آلن من الظواهر الخارقة، ومن العلاجات الوهمية، ومن استخدام الطاقة الكامنة، ومن جنون الريجيم والحمية الغذائية، ويتخيل العثور على كتاب مجهول لنيشته عن الريجيم، مازجًا بين المصطلحات الفلسفية، وبين أنواع الطعام، كما يتأمل تضخيم الإنسان لقدرات يعتقدها فى نفسه، فيخصص بورتريها ساخرًا للرجل الذى اخترع السندويتش، ولحلاق أودولف هتلر، الذى قرر أن يكتب مذكراته، حتى دراكولا المخيف، يقدمه آلن كرجل مأزوم مثير للسخرية، يختبئ داخل الدولاب، خوفا من الخروج، ويكتشف أحد أبطال قصصه فى نفسه فجأة أنه قد يكون ممثلًا مهمًا، بعد أن أقنعه مدير إنتاج بذلك، لكى يستغل منزله فى تصوير أحد الأفلام.

الموت حاضر أيضًا فى القصص بصورة ساخرة، أجملها تلك المسرحية القصيرة، التى تجعل رجلًا يؤجل رحيله يومًا واحدًا، بعد أن يكسب الموت فى لعب الورق، والسينما وظروف إنتاج الأفلام وسطوة المنتجين وجهلهم، كل ذلك أيضًا حاضر بتنويعاتٍ كثيرة، حتى تمرد البشر بالثورة، وجد فيه آلن تناقضات ومفارقات عبثية، أخذته كذلك إلى محاكاة فائقة السخرية لمخطوطات أثرية، ولعل فى تفكيك آلن الساخر لكل ما يمكن اعتباره تاريخًا إنسانيًا، ماديًا وروحيًا، جديرًا بالفخر، استكمالًا للفكرة المحورية التى شغلته وتشغله دومًا: نحن أصغر وأقل كثيرًا مما نظن، ونحن أسئلة بدون إجابات.

نضجت هذه الأفكار على مهل، بمزيج من موهبة استثنائية، وخبرة حياتية طويلة، وثقافة واسعة، فأهدتنا كاتبًا ساخرًا عظيما اسمه وودى آلن.

 
     
  * نقلاً عن الشروق المصرية ، بتاريخ 01.06.2024  
     
 

سينماتك في

 
 

01.06.2024

 
     
     
     
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004