تناقض حاد بين النور والظلمة
أحمد يوسف |
صفحات خاصة
|
عندما كنا صغاراً، كان من المؤكد أننا نعلم أن طرزان ليس شخصية حقيقية وأنه وقردته العزيزة التى أسميناها شيتا ليسا إلا محض خيال، ومع ذلك فإننا كنا نخرج من أفلامه وقد استقر فى وجداننا أن أعداءه من الأفارقة هم حفنة من الهمج أكلة لحوم البشر، لذلك كنا نستمتع بينما طرازان يقتلهم الواحد بعد الآخر، دون أن نعلم أن أقران طرزان من الأوربيين قد جاءوا إلى القارة السوداء لكى يجعلوا من أبنائها عبيداً، وينهبوا ثرواتها التى تخفى كنوزاً من الذهب والماس واليوارنيوم. وهذا ما كان يحدث تماماً فى أفلام الشجيع الأمريكى، الذى كانت قلوبنا تخفق خوفاً عليه هو ورفاقه عندما يمرون فى واد ضيق يختفى فيه الهنود الحمر الأشرار انتظاراً للحظة الانقضاض على الشجيع، بينما كانت تغيب عن أذهاننا أن هذا الشجيع ذاته قد استلب من الهنود الحمر أرضهم بعد أن أبادهم، ليقيم عليها ما أسماه العالم الجديد. تلك هى اللعبة المبهرة والشريرة للسينما، إنها تجعلنا أكاد أقول بلا وعى نتوحد مع جانب نعتبره الخير المطلق ضد جانب آخر هو الشر المحض، تماماً مثل السياسة الأمريكية التى تصور نفسها على أنها الملاك الحارس الذى يدفع عن العالم كل الشياطين المارقين، وإن كان إبليس شخصياً لا يستطيع أن يقترف ما تفعله السياسة الأمريكية. إن هذه اللعبة من التوحد مع وضد سوف تجدها مجسدة فى فيلم 300 إسبرطى، وكيف لك ألا تتعاطف مع حفنة قليلة من الرجال قرروا مواجهة جيش جرار دفاعاً عن الأرض والوطن؟! تلك هى القصة التى ربما شاهدها البعض فى طفولتنا فى فيلم يعود إنتاجه إلى عام 1962، لكن الفيلم هذه المرة مستوحى من قصة مصورة للفنان الأمريكى فرانك ميللر الذى اشتهر برسم لوحات مثل هذه القصص، بأسلوب يجمع بين الكلاسيكية والبوب آرت فى آن واحد، إذ ترى فيه تلك الأوضاع المسرحية للشخصيات مع تناقض حاد بين الضوء والظل يكاد يبعث الحركة فى اللوحة المصورة. ليست هذه هى المرة الأولى التى تقتبس فيها هوليوود أفلامها عن قصص مصورة، فمن قصص فرانك ميللر نفسه أخذ روبرتو رودريجيز فيلمه مدينة الخطيئة 2005، لكن لأن رودريجيز فى الأصل تلميذ الطفل المعجزة كوينتين تارانتينو، فقد جذبه إلى عالم القصص المصورة عنصران أصيلان وموجودان فى أفلامه السابقة: الأسلوبية والعنف، أو فلتقل العنف الأسلوبى، غير أن ذلك ليس هو حال قصته وقصة فيلم 300 إسبرطى، فإن ما دعا إلى صنعه الآن هو ذلك التناقض الحاد بين النور والظلمة، أو الخير والشر، فى القصة والصورة والمزاج الأمريكى السائد فى الفترة الأخيرة، وهو ما تراه واضحاً فى الحبكة الرئيسية للفيلم: ليونيداس جيرارد باتلر ملك إسبرطة يجمع حرسه الخاص المكون من ثلاثمائة جندى، ويذهبون وحدهم لملاقاة مئات الآلاف الذين يشكلون جيش الفرس بقيادة الملك زيركسيس رودريجو سانتورو الذى نصب نفسه إلهاً، بينما تبقى فى إسبرطة الملكة جورجو لينا هايدى الوفية لزوجها والتى تحاول إقناع الحكماء بحشد الجيش، لكنهم يقررون ذلك بعد أن يكون يونيداس والثلاثمائة إسبرطى قد لقوا حتفهم المحتوم أمام زحف جحافل الفرس. قد يقول لك البعض إن هذه الحدوتة تستند إلى أصل تاريخى، وأرجو ألا يتعدى تصديقك لهم إلى الإيمان بأن ما تراه على الشاشة حقيقى، سواء فى الشكل أو المضمون، وإلا سوف تفعل ما كنا نفعله فى طفولتنا مع طرزان والشجيع، فالفيلم يحتشد بتخريف لاشك أن صناعه يعترفون به، خاصة فى تصوير جيش الفرس على أنه مجموعة من الوحوش القادمة لتوها من عالم ملك الخواتم، لكن التخريف يهون أمام التحريف، فالصورة اللاواعية التى يريد صناع الفيلم لها أن تستقر فى ذهنك هى أن الشرق- بالمعنى الحرفى للكلمة وكما جاء فى الفيلم - يحتشد بقوى الشر والسحر والظلام، لكن الغرب يتسم بالعقلانية والشجاعة والنبل والكرامة، ليس فقط لأنه ليس هناك وحوش خرافية يستعين بها الإسبرطيون كما يفعل الفرس، ولكن لأنهم قلة شجاعة تواجه كثرة غاشمة، وهم يقبلون الموت الجميل دفاعاً عن الوطن، ولا أدرى لماذا يحتكرون المقاومة والاستشهاد لأنفسهم بينما يطلقون عليها إرهاباً إذا استخدمناها؟! إن هذا التناقض الصارخ بين معسكرى الخير والشر كما يصورهما الفيلم هو رسالته المتضمنة الخفية، وأرجو ألا تنسى أن جيش الفرس ليس إلا مجموعة من العبيد، وهم لا علاقة لهم بالجندية الحقيقية، يحرقون المدن والقرى فى وحشية، ويحكمهم ملك إله مخنث يثير الضحك كلما ظهر على الشاشة، بتلك السلاسل الطويلة فى عنقه، والأقراط فى أذنيه وأنفه، وجسده العارى وصوته الخشن العميق! فى المقابل فإن الإسبرطيين يمثلون التحضر، ملكهم لم يصل إلى العرش إلا لأنه استطاع فى شبابه أن يقتل وحده ذئباً متوحشاً دون أن يعرف قلبه الخوف، والديمقراطية تسود عالمهم كما يبدو فى تحرر النساء حتى إن الملكة تكاد تشارك زوجها فى صنع القرار، وهو أمر يتنافى مع أقل قدر من الحقيقة التاريخية التى تقول إن العبودية، واعتبار المرأة مواطناً من الدرجة الثانية، كانا من ركائز المجتمع الإغريقى! وربما يدهشك أسلوب الفيلم الذى يكاد ينتزع اللوحات من القصة المصورة انتزاعاً، ليصبح صوراً تشكيلية تحتوى على أوضاع مسرحية لرجال تشكل عضلاتهم خطوطاً أفقية متصلة، لذلك فإن صناع الفيلم عمدوا فى مشاهد عديدة - خاصة تلك التى تحتشد بعنف بالغ - إلى استخدام الحركة البطيئة التى تزداد بطئاً حتى تكاد تتجمد فى لوحات تشكيلية، ناهيك عن تقنية الشاشة الزرقاء حيث تم تصوير الأغلب من المشاهد داخل استوديو ذى حوائط زرقاء عارية، لتضاف فيما بعد - من خلال المؤثرات الكمبيوترية - ما تراه على الشاشة من صور الجبال أو الغابات أو البنايات أو المدن، كما أن الألوان بدت أقرب إلى الأبيض والأسود، حتى يكتسب اللون معنى خاصاً عندما نراه على الشاشة مثل العينين الحمراوين للذئب المتوحش، ولتضف إلى ذلك كله الموسيقى الشجية ذات النزعة الشرقية الأسيانة على شريط الصوت. لكن سحر هذا الأسلوب يزول بعد دقائق من بداية الفيلم ليصبح تكراراً مملاً، لولا القصة المثيرة التى تحكى عن شجاعة رجال قرروا الموت فى سبيل الوطن. فى المقابل فإن رسالة الفيلم التى تتكرر عشرات المرات هى: أرسلوا الجيش للحرب، وكأنه يتحدث بلسان جورج بوش والمحافظين الجدد، ومن يرفض الحرب ليس إلا خائناً متخاذلاً. المثير بحق فى هذا كله ولا أدرى إن كان صناع الفيلم على وعى كامل به هو أن إسبرطة لا يمكن أن تكون نموذجاً للوطن أو النظام الذى يجب الدفاع عنه، إن الفيلم يبدأ بتل من الجماجم التى تراكمت فوق بعضها البعض، فهل تدرى ما سرها؟ إنها الهياكل العظمية للأطفال ضعاف البنية الذين ترمى بهم إسبرطة إلى المقبرة بمجرد ميلادهم، لأنها لا تريد إلا الأقوياء القادرين على الدفاع عن الوطن، وهى فكرة مغرقة فى النازية فى جوهرها وتتناقض مع أى معيار إنسانى، لكنها يا قارئى العزيز السياسة الأمريكية المعاصرة، التى ترفع شعارات الديمقراطية والحرية، بينما قد يتوارى أمامها هتلر خجلاً وتواضعاً. العربي المصرية في 15 أبريل 2007
|