من الملوك والرؤساء إلى الراقصات والمغنيات: ولع قاهري بدراما سٍيَر العظماء القاهرة ـ حمدي رزق |
صفحات خاصة
|
أزاح عبد الناصر ملك مصر الأخير فاروق عن الحكم ونفاه إلى إيطاليا، فجمعهما صناع الدراما المصرية التلفزيونية، عبر مسلسلين يصنعان في الوقت ذاته، أحدهما "فاروق الأول والأخير"، بطولة الممثل السوري تيم الحسن، وهو المسلسل الذي كتبته لميس جابر (زوجة الفنان يحيى الفخراني)، وهذا المسلسل قطع صُنّاعه شوطاً يقدر بنحو 30 في المئة من التصوير، ليلحق بقاطرة الدراما في رمضان المقبل. والمسلسل الثاني هو "جمال عبد الناصر" الذي كتبه يسري الجندي، صاحب الباع الطويل في السير الذاتية والدراما التاريخية والتراثية، وهو يحكي سيرة الزعيم الراحل منذ مولده (1918) إلى وفاته (1970)، وترشح لبطولته بصفة نهائية الفنان السوري جمال سليمان وينتجه كل من أحمد الجابري وجمال أشرف مروان، والأخير هو حفيد عبد الناصر (نجل ابنته منى) وصاحب أقنية "ميلودي" الفضائية. وهذا المسلسل الآن قيد المراجعة والتدقيق من قبل هدى ابنة الزعيم الراحل.. وسيحتاج إلى تعديلات في النص وإضافات ومحذوفات ـ بغية الوصول لأقصى درجة من الدقة، ما سيجعله من مسلسلات 2008، بخاصة مع ضخامة إنتاجه! يتنافس إذن مسلسلا فاروق وعبد الناصر في موعد البث، ويتنافسان في الدقة التاريخية التي راعاها صناعهما، وهما معاً يقدمان صورتين صادقتين لخصمين تاريخيين لدودين. والصورتان معاً تجلوان صورة تاريخية أكثر وضوحاً لمصر من عشرينات القرن الفائت إلى مطلع سبعيناته. والحق أن سير المشاهير باتت أشبه بالولع الدرامي لدى مؤلفي الدراما المصرية هذه الأيام. ولعل أبسط الأدلة على ذلك مسلسلان آخران يتم الإعداد لهما الآن، أولهما سيرة الراقصة المصرية الأشهر تحية كاريوكا، والثاني عن سيرة الراقصة الراحلة ذات المدرسة الخاصة في الرقص سامية جمال. مسلسل كاريوكا يشهد صراعاً حاداً على دورها بين نادية الجندي التي قالت إن المؤلف مصطفى محرم كتب لها السيناريو خصيصاً، وفيفي عبده تلميذة كاريوكا التي ربطتها بها علاقة قوية، فيما ترفض أسرة كاريوكا (وعلى رأسها الممثلة رجاء الجداوي ابنة شقيقتها) أن تلعب الجندي دور كاريوكا. ويشهد مسلسل سامية جمال الصراع نفسه، ولكن بين الراقصتين دينا ولوسي، والأولى معروفة بأنها الأقرب في أدائها لمدرسة سامية جمال وتعد نفسها وريثة شرعية لفنها، وهو صراع لم يحسم بعد. صراع الفنانات والراقصات على هذين المسلسلين، وضخامة إنتاج مسلسل "فاروق الأول والأخير" (الملابس وحدها في هذا المسلسل تبلغ تكلفتها قرابة نصف مليون دولار) والدقة التي يراعيها صناع مسلسل عبد الناصر (الذي ينتظره أيضاً نمط من الإنتاج الضخم) إلى جانب الشريط السينمائي "محمد علي" الذي سيضطلع ببطولته يحيى الفخراني قريباً (وتقول شركته المنتجة جودنيوز إن تكلفته 8 ملايين من الدولارات) كل هذه مؤشرات لا لبس فيها على أن دراما الشخصيات الشهيرة وسيرهم الذاتية، هي الحلبة الرئيسية الآن التي يجري وراءها المنتجون ويتنافس فيها النجوم والنجمات، ويراهن عليها المثقفون والنقاد من أجل المسلسلات وأشرطة سينمائية أرقى. نجاحات مغرية في التلفزيون وفي السينما أيضاً، تحققت نجاحات ملموسة لهذه الدراما خلال السنوات العشر الماضية، أسالت لعاب المنتجين والنجوم، لتقديم أعمال فنية، بدا أنها تنجح ـ أوتوماتيكياً ـ لمجرد حملها أسماء هؤلاء المشاهير! مسلسل "كوكب الشرق أم كلثوم" في العام 1998 الذي أخرجته إنعام محمد علي وقامت ببطولته صابرين (التي ارتدت الحجاب بعد ذلك وواصلت الاشتغال بالفن..)، حقق نجاحاً طبق الآفاق وملأ الدنيا وشغل الناس.. تماهت شخصية أم كلثوم (تلك التي يعتبرها المصريون جزءاً من هوائهم ومائهم وطمي أرضهم) وشخصية صابرين، انتشى المشاهدون من المحيط إلى الخليج بسيرة أحب المطربات إلى قلوبهم، ولفهم جو من "الوحدة المتلفزة"، مع المطربة التي خرجت من إقليميتها إلى محيطها العربي.. بالغناء! والحق أن المسلسل لم يكن سوى "دراما ناعمة" كما يقول المؤلفون في اصطلاحاتهم، أي دراما لا تقدم عيوباً، يتحول أبطاله إلى ملائكة من النور تمشي على الأرض، لا تخطىء ولا تهن! وربما هذا ما جعل المصريين، الذين لا يتعرضون لسير الموتى إلا بذكر محاسنهم، يقبلون على هذا المسلسل ويقعون في هواه، حتى أنهم يشاهدونه بذات الإقبال كلما أعاد التلفزيون بثّه، وهو أعيد عشرات المرات! وبحجم مقارب من النجاح ظفر مسلسل "إمام الدعاة.. الشيخ الشعراوي" (العام 2002)، ذلك المسلسل الذي اضطلع ببطولته حسن يوسف، وبرع من خلاله في تقمص شخصية الشيخ الذي يعده المصريون قطباً من الأولياء الصالحين ويحظى بينهم بشعبية كاسحة، وهو أيضاً من فصيلة "الدراما الناعمة"! قبل هذين المسلسلين كان النجم الراحل أحمد زكي، قد حقق نجاحاً مذهلاً بشريطه السينمائي "ناصر 56" (إنتاج 1996) وهو الشريط الذي دارت أحداثه كلها في ستة أشهر فقط.. ابتداء من تموز/ يوليو 1956، حين أعلن الزعيم الراحل تأميم قناة السويس، وإلى كانون أول/ ديسمبر من العام ذاته، حين خرج آخر جندي من جنود العدوان الثلاثي البريطاني ـ الفرنسي ـ الإسرائيلي على مصر، بعد أن ألحق عبد الناصر ببلادهم هزيمة سياسية قاسية! كان الجمهور في دور العرض يقف مصفقاً لعبد الناصر ـ أقصد أحمد زكي ـ حين يهتف من على منبر الأزهر "الله أكبر ـ الله أكبر" .... وحين يصرخ "سنقاتل...." أو"سنبني السد.. ولو بالمقاطف" انصهر أحمد زكي بعبقريته الشهيرة في التقمص، وشخصية عبد الناصر، وكان حين يتكلم أو يتحرك يتحول تلقائياً إلى عبد الناصر، وكان الناس في الحقيقة يقفون ويصفقون في هذا الشريط لزعيمهم الراحل! من زاوية خفية والحق أن من افتتنوا بنجاحات مسلسل "أم كلثوم" أو "الشعراوي" أو شريط "ناصر 56" لم يفطنوا إلى زاوية خفية في هذه الأعمال. ولو كانوا فطنوا إليها لترووا قبل أن يهرولوا هرولة وراء "استنساخ المشاهير" من دون حساب في أعمال تلفزيونية وسينمائية. الشخصيات الثلاثة يجب أن تنجح لدى المشاهد المصري والعربي بما مثلته من قيمة في حياة هذا المشاهد، ولأن المصريين كما يردد المثقفون دائماً "شعب أُسري" يقدس قيمة الأسرة، فإنه عشق في عبد الناصر والشعراوي كاريزما الأب مثلما عشق في أم كلثوم قيمة الأم. ولو كانت هذه الأعمال انطوت على أدنى انتقاد لهذه الشخصية أو تلك، لكان المشاهدون انصرفوا عمن يسيء لأبيهم أو أمهم! ومن نفس هذه الزاوية الخفية، لا يمكن أن نغفل أن هؤلاء الثلاثة يمثلون الشريحة الأعلى من رموز الحياة الحديثة في مصر. فأم كلثوم المطربة الأكثر شعبية لدى المصريين، وعبد الناصر الزعيم الأكثر شعبية لديهم، والشعراوي الذي يمثل القيمة ذاتها بين رجال الدين في مصر، وما كذب الذين قالوا إن نصف نجاح هذه الأعمال الثلاثة وراءه هؤلاء الرموز، وعدم الانتباه لتلك الزاوية النفسية الخفية، تسبب بإحباط لمعظم من سلكوا الدرب ذاته! ولعل الراحل الكبير أحمد زكي كان من أول المحبطين. فشريطه "أيام السادات" لم يحظ بنصف نجاح "ناصر 56"، لأن شخصية السادات ذاتها ليست محل إجماع لدى المشاهدين المصريين والعرب، بل هي محل خلاف معروف الأبعاد، والشريط احتوى تفاصيل مبادرة كامب دافيد ومعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وطرح للعرض خلال اندلاع انتفاضة الأقصى "2000"! واختتم أحمد زكي حياته الفنية الحافلة بالنجاحات بشريط "حليم" ذي الإنتاج الضخم، لكن القدر لم يمهله سوى لأثني عشر مشهداً فقط، هي كل ما صوره أحمد زكي من الدور، الذي استكمله نجله "هيثم". ولم يحقق الشريط نجاحاً يذكر.. برغم أن عبد الحليم حافظ هو المطرب الأعلى شعبية بين الأصوات الرجالية لدى المصريين! العندليب والسندريلا وواصلت خطة مطاردة شخصيات المشاهير فشلها، وكأن هذا النجاح انغلق على شخصيات أم كلثوم وعبد الناصر والشعراوي وحدها! فقدم التلفزيون المصري مسلسلين أحدهما "قاسم أمين" ـ بطولة كمال أبو رية (إنتاج العام 2002) ليحقق انصرافاً جماهيرياً ملحوظاً، لأن التلفزيون لم يراعِ "الزاوية الخفية" أيضاً.. فقاسم أمين محل خلاف، بخاصة في مجتمع يتراجع فيه دور المرأة وتنطلق فيه دعاوى رجعية ضدها الآن، فيما كان قاسم أمين أشهر المثقفين المصريين إنصافاً للمرأة وحقوقها ووصل في ذلك إلى إطلاقه دعوى "تحرير المرأة"! أما المسلسل الآخر فهو "فارس الرومانسية" وكان يحكي سيرة المثقف والوزير المصري الراحل يوسف السباعي الذي اغتاله فلسطينيون في قبرص قبل 30 عاماً.. "قام ببطولته محمد رياض، إنتاج العام 2003"، ولعل سبب سقوط المسلسل يعود إلى كون السباعي لا يحظى بشعبية كافية وبخاصة لدى أجيال الشباب، فبعضهم لا يعرفه من الأساس، فضلاً عن ضعف النص والإخراج! لكن العملين اللذين يلفتان النظر بحجم الهجوم عليهما من بين كل أعمال الدراما الذاتية هما مسلسل "العندليب" و"السندريلا". "العندليب" جرى اختيار الوجه والصوت الجديد "شادي شامل" لبطولته عبر مسابقة تابعها الجميع على شاشات mbc، وجرى تسخير إمكانات هائلة لإنتاجه، مع دعاية غير مسبوقة ووقت كافٍ للتحضير. لكن المسلسل المرتبط باسم عبد الحليم حافظ فشل كشريط "حليم" تماماً، بل إن فشله جاء أعظم.. فشادي شامل لم يملأ عباءة الدور، أما المؤلف مدحت العدل فإنه تفرغ تماماً من خلال هذا المسلسل ليحكي سيرة جماعة "الأخوان المسلمين" على خلفية شباب حليم في الأربعينات، من دون أن يكون لذلك أي رابط بالدراما. وبعدها تفرغ ليحكي سيرة عبد الناصر، حتى ظهرت شخصية حليم أقرب إلى "ضيف شرف" في مسلسل كان يفترض أن يحكي سيرته الذاتية هو، لا سيرة الأخوان ولا سيرة عبد الناصر! أما "السندريلا" الذي قامت ببطولته منى زكى، فإنه حصد نصيباً هائلاً من الهجوم عليه. جزء من هذا الهجوم هو تحالف ورثة سعاد حسني مع شركة "العدل" التي كانت تخطط لإنتاج مسلسل عن سعاد حسني "واشترت حق إنتاجه من الورثة بنصف مليون دولار"، وجزء آخر من أسباب الفشل كون المسلسل رفض أن يقدم حياة سعاد حسني كحياة ملائكية ناصعة الشفافية، بل قدم حلوها ومرها، وذهب إلى أن سعاد تزوجت سراً من عبد الحليم حافظ. وهكذا قضى الجمهور على هذا المسلسل بمنطق "الأسرة"، وبرغم حبه الجارف لشخصية سعاد حسني، إلا أنه لم يستوعب أن تتاح سيرتها هكذا بصراحة! دفع العندليب إذن ثمن ضعف النص وخروجه عن سياقه الطبيعي، ودفع "السندريلا" ثمن العراك مع ورثة سعاد حسني ـ وكذلك ثمنت القليل من الصراحة التي تبناها صناعه في تقديمه.. وفي الحالتين، ثبت أن الرهان على شخصية صاحب السيرة الذاتية وحده، لم يكن كافياً لتحقيق النجاح. فالدراما الناعمة عنصر حاسم في نجاح مثل هذه الأعمال، وهي كالرمال الناعمة تماماً، ربما تبتلع غير الماهر عند الخوض فيها. لكن مسلسلي "فاروق" و"عبد الناصر" ربما يلقيان مصيراً أفضل من هذه الأعمال.. أولاً، لأنهما يحملان اسمين كفيلين بجذب المشاهدين.. فاروق، الذي يتكلمون الآن عن أنه "مظلوم" تاريخياً وينبغى إنصافه من هجوم دامٍ، استمر ضده خمسة وخمسين عاماً! وعبد الناصر الذي لا يزال المتظاهرون يرفعون صوره وشعاراته في شوارع القاهرة إلى اليوم! المسلسلان كذلك يحظيان بحجم إنتاج لم تحظ به دراما سيرة ذاتية من قبل.. وثمة عنصران مهمان في انتظار مسلسلي "فاروق" و"ناصر".. كونهما راعيا الدقة التاريخية إلى أقصى حد ـ على مسؤولية كاتبي المسلسلين ـ ما يعني وقاية مسبقة من أي هجوم عليهما كالذي جرى شنه على "العندليب" و"السندريلا"، والعنصر الثاني، هو أن بطليه سوريان، وهذا ربما يزيد فضول المشاهدين بالنسبة للمسلسلين، فضلاً عن كونه يسهم في تسويقهما بشكل جيد.. فهل يستثمر صناع "فاروق" و"ناصر" جنون الدراما التي تؤرخ لشخصيات العظماء فيصنعان النجاح؟ ربما! المستقبل اللبنانية في 8 أبريل 2007
|