"300 إسبرطي".. سينما تقرع طبول الغزو تتارستان - سعيد أبو معلا |
صفحات خاصة
|
يتعدى فيلم "300 إسبرطي" قراءة ما للتاريخ، أو عودة، ليست جديدة، للأسطورة بتجلياتها المختلفة؛ فسبقه في ذلك عشرات الأفلام التي يمكن أن نطلق عليها أفلام البطولة والمقاتلين ومثال ذلك: "حصار طروادة"، و"أوليس"، و"الفروة الذهبية" "كليوباترا" و"سبارتاكوس" و"يوليوس قيصر"، و"المصارع" و"كايجولا"، و"300" وهو فيلم قديم مماثل لهذا الجديد. وهي أفلام حقق معظمها نجاحات كبيرة عالميا وعربيا، ما جعلها تغري المنتجين والمخرجين دوما، وذلك لوحده لا يضعها في خانة الأعمال التجارية البحتة التي تغازل جمهورها الغربي بجذوره وماضيه وبطولته وشرفه وعمق حضارته وتفوقه الإنساني، وتصدر كل ذلك بطرق مباشرة وغير مباشرة لجمهورها العربي الذي يتلقى مستمتعا في الأعم الأغلب، وناقدا في حالات نادرة يكون ضحية وطرفا مباشرا بها. التذكر وأمور أخرى غير أن الفيلم الجديد "300 إسبرطي" مختلف نسبيا عن سابقيه، لأكثر من سبب منها تلك اللحظة التي يخرج علينا بها بتلك البطولة والشرف وقيم الحرية والعدالة وما يرافقها من توحش وهمجية وشيطنة للآخر على الجانب المقابل. فذلك مفهوم ومكرر في سينما هوليوود، غير أنه عندما تكون "الحضارة الفارسية" أحد طرفيه (وإيران وشعبها وحضارتها القديمة بطبيعة الحال إسقاط واضح وفج عليها) يحق لنا التوقف وتدقيق النظر في سينما لا تغازل الجمهور فقط بل وتصنع لتتناسب ومقاس الحدث السياسي وإملاءات صانعيه من دول كبرى. وهي هنا ليست سينما تضخيم الذات فقط بل سينما هدم الآخر وتدميره من جذوره القديمة وصولا إلى مستقبله، ومن يشاهد الفيلم يدرك خطورة تلك الثنائية التي دوما ما عانت وشوهت فيها الحضارة الإسلامية وأنصفها جزئيا فيلم "مملكة الجنة" في مثال غير بعيد. سيبدو واضحا وبشكل جلي أن الفيلم الجديد كما يأتي على لسان أحد أبطاله يريدنا أن نتذكر، أن نتذكر ونقارن ونسقط على الواقع، نتذكر تلك البطولة الأسطورية التي بذلها 300 مقاتل إسبرطي دفاعا عن مدينتهم الإغريقية حتى الموت، وكيف وقف اليونانيون والرومانيون ضد جيش الفرس الجرار من أجل "العدالة والحرية والكرامة" رفضا للذل والعبودية والمهانة، وذلك دون شك حق من حقوقهم، لنتذكر إذن كما يريدون، لكنه ومع هذا الطلب المتكرر لا يدعنا الفيلم نرسم صورة ما مهما كانت عن الفرس أو الإمبراطورية الفارسية، فهو حقيقة يقوم بذلك أيما قيام، يرسمها لنا ويمليها علينا صورة شيطانية تماما، وهنا مكمن الجدل والاختلاف مع سينما تجعلنا نتساءل: أي عقلية تجعل من سينما هوليوود منتجة لهكذا خصوم؟ ولنا مع ذلك وقفة مطولة. الفيلم تجاوز سابقيه منطلقا من لحظة حرجة يشهدها العالم والمنطقة العربية معا، هذا التجاوز الذي يغلف بالأسطورة ويقدم كوجبة درامية تاريخية تستحضر الزمان والمكان معا، بما تغلف به من قيم أيضا وباتهامات على الجهة الأخرى، وذلك في عمل سينمائي مبهر مليء بالحركة ومشاهد المعارك والقتال الأسطوري الخارق والشجاعة المتناهية. وهو هنا يتعدى الفرس وحضارتهم كطرف سلبي مُشيطن ظاهر في الحرب إلى طرف مشرقي أعم وأشمل وهنا بيت القصيد في ظل ما تستدعيه المعارك الطاحنة من معارك حالية وأخرى مستقبلية، والحوارات المختارة "بعناية" مفضوحة على ألسنة المقاتلين الإسبرطيين وكأنهم سياسيو الولايات المتحدة الأمريكية. الحكاية من أولها "300 إسبرطي" جديد المخرج الأمريكي "زاك سنايدر" (صاحب "مدينة الخطيئة" المنتج قبل عامين تقريبا والذي زار به مهرجان القاهرة الدولي قبل عامين) كان قد شاهد فيلم "300" لذات القصة قبل 45 عاما برفقة والده وأعجبته قصة البطولة المتخم بها، ليكبر بحلم إخراجه الذي ترافق زمنيا مع حالة سياسية تمنحه دفعه إضافية عن الأفلام السابقة من على شاكلته. الفيلم مأخوذ عن قصة قدمها الرسام "فرانك ميلر" بطريقة الجرافيك، وهو واحد من الأفلام الأسطورية المأخوذة عن الأساطير اليونانية وعما رواه "هوميروس" في نص "الإلياذة" و"الأوديسة" من جانب، وأساطير الإمبراطورية الرومانية القديمة من جانب آخر. ومركز الفيلم هو معركة "ثرموبولي" التي خاضها الملك "ليونيدس" ملك إسبرطة و300 من فرسانه ضد إله الفرس (ليس ملكا ولا قائدا تذكروا ذلك) "زير كسيس" وجيشه الضخم في حدود عام 480 قبل الميلاد. يرفض "ليونيدس" عرض "إله الفرس" بتسليم المدينة، ويقرر الخروج لمواجهته رغما عن قرار المجلس اليوناني والآلهة الذين يرون بالتسليم الحل الأمثل لتجنب الموت والدمار وذلك بعد أن يتم رشوة بعضهم من الفرس وشراء مواقفهم بالذهب، فيخرج الملك اليوناني برفقة فرسانه الـ 300 لمواجهة مصدر الشر في العالم كله حفاظا على الحرية والعدل والعزة والكرامة. وفعلا تحدث أشد المعارك على مداخل المدينة البعيد وفي ممرات ضيقة بين الجيش الجرار الذي يسد الأفق والـ 300 إسبرطي، وهناك تحدث مفاوضات بين الملك و"زير كسيس"، حيث يرفض "ليونيدس" الاستسلام برغم الوعد بأن يكون ملكا وقائدا تابعا للفرس، وكم الوعيد بتدمير المدينة ونهب خيراتها وقتل علمائها. وبعد مواجهات دامية ينتهي الفيلم بمقتل الملك "ليونيدس" وفرسانه الـ300 ماعدا مقاتل واحد يعود لقيادة الجيش اليوناني فيما بعد لصد الهجوم الفارسي، ليكون المشهد النهائي مفتوحا حيث البطل اليوناني قائدا لجيش مؤلف من 10 ألاف إسبرطي، و30 ألف جندي يوناني في صورة أثيرة ومعبرة مليئة بالحماس وخطب الحرية والكرامة والتذكر لبطولة ليونيدس، في مواجهة جيش الفرس المترامي الأطراف في مشهد خلفي وهامشي. حياة إسبرطة غير أن الفيلم لا يعرض ذلك وحده، فهو من جانب يقدم لنا طريقة تربية المقاتل الإسبرطي، ونمط الحياة السائدة في مدينة يُسعى لها أن تكون مثالية خالية من الإنسانية، وحتى هنا يجاهد المخرج لنتقبل تلك القسوة والحياة الخالية من الإنسانية في ضوء تلك الهمجية التي تقف خلف الأسوار وتسعى للافتراس والقتل وتدمير منجزات الحضارة اليونانية. فالطفل وبمجرد ولادته يُقيم لا بصفته إنسانا بل بحسب صلاحيته للحرب والقتال، فإذا ما كان مريضا أو ضعيفا يقتل، فالبقاء للأصلح وللمقاتلين المستقبليين الذين يتم تدريبهم بمنتهى القسوة، وهي قسوة مبررة في سبيل هزيمة وحوش كالفرس!! كما نرى زوجة الملك أيضا، نموذجا نسويا متفانيا، فهي التي تدفع زوجها للخروج لمواجهة الفرس على بوابات المدينة، وهي إذ تضحي بزوجها تضحي بشرفها كامرأة يونانية وكملكة في سبيل حضارة وحرية شعبها عندما تحاول إقناع احد أعضاء المجلس اليوناني (عميل للفرس) بضرورة أن يقرر المجلس إرسال الجيش لمساندة الملك ليكون جسدها طلبه نظير ذلك الموقف، حيث تقتله بعد أن ينكث وعده ويفضحها أمام أعضاء المجلس اليوناني. وهو تصرف يقود في النهاية إلى موافقة المجلس على دخول الحرب عندما تلقنهم درسا في الشجاعة والتضحية لتتفوق الروح الباعثة على الحرية والعزة على المدينة وليسقط الكهنة وعملاء الفرس فيها. اكتشاف التحيزات سيكتشف المشاهد أن المقاتلين الـ 300 لم يهزموا إلا بعد أن وشي "مسخ إسبرطي" لإله الفرس بمكان البوابة السرية التي مكنت جنود الفرس من محاصرة الإسبرطيين، وسيشاهد المدقق أن المقاتلين الـ 300 أظهرتهم الكاميرا 30 مقاتلا مقبلين على القتال والموت بشرف وشجاعة مقابل جيوش جرارة وسفن تملأ البحر ومقاتلين سودٍ جبابرة هم في حقيقتهم (كما يظهرهم الفيلم) عبيد يساقون لساحة المعركة تحت ضربات السياط. وسيتعاطف المشاهد البسيط مع تلك الوسامة واللحى الأنيقة التي يظهر عليها الإسبرطيون في مقابل تلك الأشكال المخيفة التي يظهر بها الفرس، وسيرق قلبه أيضا بتلك المواقف الإنسانية، وإن كانت قليلة، بين المقاتلين الإسبرطيين، في المقابل سيتمنى الموت لتلك اللاآدمية التي يمارسها الفرس، فهم ليسوا بشرا بل وحوشا وهمجا وكلابا مفترسة في ظل ذلك القبح والوجوه المقززة التي يظهر فيها خيرة مقاتلي الفرس "المخلدون"، فهم أمساخ مقنعة يخرج منها الدم والقيح والصديد والدخان. وستتضاد المفاهيم والقيم التي ينادي بها كل طرف، فقيم الحرية والعدالة والعزة والكرامة من جهة لا يقابلها إلا حديث العبودية والسجود وتأليه "زير كسيس" المغطى بالذهب والذي لا يسير إلا على أجساد عبيده. حتى في القتال نرى الإسبرطيين مقاتلين محترفين، "يحمون بعض، ويخافون على بعض"، ويتعاونون ويقاتلون ببسالة وشجاعة، فيما جيش الفرس عبيد أذلاء لا يخططون للمعركة بل يساقون لها وللموت لتتحول جثثهم جبالا على أيدي الإسبرطيين. ومع ذلك يرى المشاهد بوضوح أن الفرس دوما ما كانوا في خلفية الفيلم، وإن حضروا فذلك لتأكيد توحشهم ولا إنسانيتهم، فلا تفاصيل ولا علاقات إنسانية ولا قادة ولا نساء إلا في إطار العبيد والمومسات وفي أشكال غريبة بين آدمية وحيوانية. هنا لم نر صورة العدو العادي، أو الغازي فقط، بلى رأينا عدوا منزوعا من إنسانيته بشكل مطلق وذلك على صعيد الشكل أو الصوت أو السلوك... إلخ. وليكون الحكم على الفيلم بأنه عنصري حتى النخاع بالأمر اليسير، إنها عنصرية تستمد قبحها من سطوة الأسطورة التي أصبحت تسيطر على الغرب التي أصبح يستمد منها جزء من مبررات وجوده وممارساته في محاولة للإقناع والسيطرة، بعد أن تلطخت سمعته بفعل ممارسات حكوماته في دول كثيرة نحن العرب رحاها وضحاياها. سينما العنصرية سيرفض الكثيرون هذا النمط من سينما التفوق والعنصرية وتشويه الآخر والتي تتكئ على التاريخ، وتختبئ خلف الأسطورة في تمرير رسائلها في محاول جاهدة للاستفادة من الواقع السياسي وحالة الشد بين معسكرات المنطقة للسيطرة على الجمهور بتقديم صورة تستثمر كجزء من حرب ثقافية ونفسية ضد منطقة بعينها. وهكذا نلحظ أن المخرج أحسن الاختيار في نهاية فيلمه، فأبقاه مفتوحا النتائج بعكس أفلام كثيرة تشبهه، لكن بعد أن يكون قد عمل طوال ساعة ونصف، وهي مدة الفيلم، على حقن المشاهد بمسببات التعاطف مع طرف وضد آخر، وهذا جعلنا لا نتفاجأ من أن جزءا كبيرا من جمهور صالة السينما وقف إلى جانب "الحرية والعدالة!!". وهنا يحق للمشاهد الذكي أن يستغرب حد الدهشة من تلك الأصوات العربية المنددة باستنكارات إيران للفيلم، على اعتبار أن الحضارة الفارسية هي حضارة مجوسية لا يبكى عليها وهي اليوم إسلامية، لكن المشكلة أعمق من تلك البساطة التي يدعمون بها موقفهم، فلا حضارة شر محض كما قدمها صناع الفيلم ليكون السؤال عن السر في ذلك؟ والجهات التي يخدمها في ظل الحملة الدعائية الضخمة التي تروج للفيلم؟ بقي أن نقول تذكروا.. أنه فيلم يقول إن التضحية حمت الإغريق والعالم الغربي من الوحشية والبربرية والعبودية، تماما كما حمت الجيوش الأمريكية والبريطانية العالم من سلاح العراق النووي!!، ومثلما ستحميه أيضا من خطر إيراني قادم!!!. إنه فيلم يريدنا أن نتذكر، لكن دون أن ننظر للحاضر أيضا إلا من الزاوية التي تريدها هوليوود. وهنا لا بد من تذكير هوليوود أيضا بحقيقة أنه فيلم مكشوف تماما، لكنه بحاجة لمشاهد واعٍ لا تنطلي عليه عدالة وحرية نتابع تداعياتها يوميا بصيغها المسخ أيضا. إسلام أنلاين في 1 أبريل 2007
|