السينما بين الواقع والخيال بقلم : عدنان مدانات |
صفحات خاصة
|
قبل قرن ونيف وفي أول عرض سينمائي للجمهور العام عُدّ بداية لتاريخ السينما، كان ثمة قطار يقترب من مقدمة الشاشة ففزع المشاهدون، إذ رأوه يكاد يخرج من الشاشة نحوهم مهددا بسحقهم، لكن القطار لم يفعل ذلك، فالتهديد او الخطر الذي شعر المشاهدون بمقدمه كان بالدرجة الأولى نتيجة خيالهم الخاص. كان عنوان الفيلم وصول القطار إلى المحطة وطوله بضع دقائق فقط. في حينه كانت إثارة وقيمة الفيلم، إضافة إلى بقية الأفلام القصيرة جدا التي عرضت معه، تنبعان من اكتشاف الصورة المتحركة التي تنسخ صور الواقع وتعيد عرضها على الشاشة. بعد سنوات من عرض الفيلم وبعد أن تطورت صناعة الأفلام في العالم وأصبحت السينما وسيلة تعبير وترفيه جماهيرية، بدأ النقاد والمنظّرون يتفكرون فيها ويدرسون خصائصها وطبيعتها، وفي النتيجة كان لا بد من إعادة دراسة فيلم وصول القطار إلى المحطة والبحث فيه عن ما هو أكثر من مجرد عرض للصور المتحركة التي ما عادت كافية بحد ذاتها لإثارة المشاهدين. وهكذا اكتشف المنظّرون أن الفيلم يتضمن مجموعة عناصر كامنة فيه تكشف بعض احتمالات ليس فقط تطور فن السينما واتجاهاته المستقبلية، بل وأيضا خصائصها الجوهرية التي تتعدى خاصية عرضها لصور الواقع. فهذا الفيلم الذي عدّوه بداية فيلما وثائقيا، اشتمل على عناصر روائية، فهو اولا كان يعرض واقعة (أو قصة) انتظار مجموعة من الناس للحظة وصول قطار إلى المحطة، وهو ثانيا لا يكتفي بأن يصور وقوف أشخاص كانوا موجودين بالصدفة في المحطة لانتظار القطار، بل يضع بينهم أشخاصا جلبهم المخرج عن قصد ليقفوا ويتصورا، أي يضع ممثلين ضمن الحشد المنتظر، ومن بين أولئك الممثلين كانت والدة مخرجي الفيلم الأخوين لوميير. أي أنه تجاورت في الفيلم بذرة الفيلم الوثائقي مع بذرة الفيلم الروائي، وبالتالي، ففي كلا هذين النوعين الأساسيين من السينما، الذي يوصف أولهما، أي الوثائقي، بأنه إعادة تنظيم للواقع، ويوصف ثانيهما، أي الروائي، بأنه إعادة تركيب للواقع، لا مناص من استخدام الخيال. والخيال في السينما محكوم بالواقع، الذي هو المرجعية الأولى للصورة السينمائية وملتحم به ضمن عملية تفاعل متبادلة التأثير، فمهما قيل عن واقعية السينما فهي تبقى مجرد إعادة تركيب للواقع. غير أن هذه العلاقة الوثيقة بين الخيال والواقع في السينما لا تشكل الخاصية الوحيدة للخيال في السينما، فهو ذو منبعين مختلفين ومتفاعلين في آن. المنبع الأول هو صانع الفيلم والثاني هو المتفرج عليه. وقد جمع فيلم وصول القطار إلى المحطة بين المنبعين في مجرى واحد، جمع بين خيال المخرج الذي رتب عملية وقوف المنتظرين وبين خيال المتفرج الذي فزع إذ تخيل القطار يسحقه عندما شاهد صورته تكبر وهي تقترب من مقدمة الشاشة. يفيد مثال فيلم وصول القطار إلى المحطة من هذه الناحية في تصحيح الآراء الشائعة التي تقارن بين قارىء العمل الأدبي وبين مشاهد الفيلم السينمائي التي تؤكد أن الفرق بينهما يكمن في ان القاريء يركب ويستكمل من خلال مخيلته الصورة التي يصفها له الكاتب في حين ان المشاهد السينمائي يتلقى الصورة جاهزة. في حينه، كان إخراج فيلم وصول القطار إلى المحطة وعرضه على الجمهور إنجازا تقنيا، رغم أن تقنياته المتقدمة آنذاك، تبدو الآن، وبالمقارنة مع تقنيات السينما اللاحقة وصولا إلى تقنيات السينما المعاصرة، بدائية جدا، وكان الخيال فيه بالتالي بدائيا فيما يتعلق بصانعي الفيلم، وعفويا ساذجا فيما يتعلق بجمهور مشاهديه. يمكن ملاحظة الطريق الذي سار فيه تطور الخيال في السينما ليس فقط من خلال تتبع اتجاهاته ومساربه المختلفة، بل إضافة إلى ذلك، عبر تقصي أحواله بالعلاقة مع كلا الطرفين المعنيين به، عبر صانعي الأفلام الذين يستفيدون من التقنيات المتطورة يوما إثر يوم والموضوعة تحت تصرفهم، من جهة، وعبر مشاهديها، من جهة أخرى. لعبت التقنيات السينمائية دورا أساسيا في خدمة خيال السينمائيين وتجسيده من خلال صور مقنعة ومؤثرة ومشوقة. ولم يقتصر هذا الدور بطبيعة الحال على صنع الأفلام التي تنتمي الى الخيال العلمي والأفلام الغرائبية والأفلام الكوميدية، بل شمل جميع الأنواع السينمائية، سواء منها الأنواع التي تعتمد على الحركة المثيرة أو الأنواع التي تعتمد المنهج الواقعي وتتطرق الى مواضيع تستمد موادها من قضايا المجتمع الحقيقية. بشكل عام، يمكن تقسيم الخيال السينمائي الى نوعين، أحدهما يسعى وراء اثارة الدهشة، خاصة في أفلام الحركة والإثارة بمختلف انواعها، وثانيهما يهدف الى الوصول الى العكس المقنع بواقعيته، قدر الامكان، لصور الواقع. وقد أدى التطور المتسارع والمذهل للتقنيات السينمائية الى تنامي توجهات السينمائيين، خاصة العاملين منهم في حقل السينما الجماهيرية الترفيهية نحو زيادة جرعات الخيال ولكن من خلال مزج الدهشة بالمصداقية الواقعية. ويترادف هذا التطور مع التطور المقابل عند مشاهدي الأفلام الذين تزايدت خبراتهم في المشاهدة بعد أن انكشفت امامهم أسرار السينما مع الزمن واعتادوا عليها، وبالتالي فإن ما كان مثيرا لخيالهم في مرحلة تطور سينمائية ما، صار في المرحلة التالية أقل إثارة أو حتى فقد إثارته لأن لعبته باتت مكشوفة لهم، فكان لا بد للسينمائيين، ليس فقط أن يجددوا وأن يطوروا من جرعات الخيال والإثارة، بل أن يقنعوا المشاهدين بمصداقية ما يشاهدون وان يتفاعلوا معه بما يؤدي إلى أن تكون تجربة معايشة أحداث الفيلم مطابقة او قريبة من تجربة العيش في الواقع، أي إلى أن تستعيد السينما ذات العلاقة مع المشاهدين التي نشأت عند ولادة السينما ومنذ اللقاء الأول بين المشاهدين وفيلم وصول القطار إلى المحطة وان تعيد المشاهدين إلى حالة السذاجة العاطفية على الأقل، والتي تلبستهم وهم يشاهدون الصور تتحرك، وذلك على الرغم كل ما اكتسبوه من خبرات مشاهدة ومن معارف كشفت لهم أسرار السينما. يثير هذا السباق المحموم بين السينمائيين على كسب الجمهور وتوطيد اواصر العلاقة معه عن طريق الإمعان في تسخير التقنيات الحديثة لإقناع المشاهدين بمصداقية الأحداث التي يتخيلونها وللتأثير عليهم فكريا وعاطفيا أكثر من إشكالية اجتماعية، خاصة على الصعيد الأخلاقي. والمعني بهذه الإشكاليات تحديدا هو السينما التجارية الترفيهية، التي وللأسف، كانت وما تزال الأكثر جذبا لجماهير المشاهدين في سائر انحاء العالم، رغم كل ما قيل ويقال عنها من أنها تفسد الأخلاق والأذواق وتزيف الواقع. الخيال شرط من شروط الابداع السينمائي حتى في أكثر توجهاته نحو العكس الصادق لصور الواقع الراهن، أي في الأفلام ذات المنهج التسجيلي، مع ذلك يجب الاقرار بحقيقة أن العلاقة بين الواقع والخيال في السينما تتضمن احتمالات متعددة، فالخيال قد يكون صادقا وقد يكون كاذبا، قد يكون مريضا غير أخلاقي او العكس، قد يكون شريرا وقد يكون خيّرا، قد يكون الخيال موهوبا مبدعا وقد يكون عديم الموهبة. وفي هذا يكمن الفرق بين السينما الراقية فنيا وفكريا، والتي ما تزال علاقتها تقتصر على النخبة من المشاهدين، وبين السينما التجارية الترفيهية. يشير واقع حال السينما المعاصرة إلى أن التقنيات المتطورة التي يمكنها، من حيث المبدأ، أن تجعل الخيال يعكس الواقع بصدق أو أن تجعل الخيال يبدو مقنعا في واقعيته، صارت تستخدم في السينما التجارية على نطاق واسع ومبالغ في سعيه نحو مطابقة صور الفيلم مع صور الواقع إلى حد كبير، وصولا إلى أقصى درجات السيطرة على مشاعره والتأثير على انفعالاته. كمثال على هذا، يكفي للتأكد من هذه الحقيقة متابعة التطور الذي طرأ على كيفية تجسيد مشاهد العنف في الأفلام، ففي حين كانت أولى أفلام رعاة البقر عندما تصور المنازلة الأخيرة بالرصاص بين البطل وغريمه بتصوير حركة البطل السريعة وهو يطلق الرصاص وبرده فعل الغريم المسرحية الذي يسقط على الأرض، دون رؤية دمائه، صارت أفلام رعاة البقر، خاصة منذ سبعينيات القرن العشرين، تتفنن في عرض الدماء المنبثقة من الأجساد أو أشلاء اللحم المتناثرة بفعل الرصاص، كذلك هو الأمر فيما يخص مشاهد المطاردات بين السيارات، أو تحطم الطائرات وغرق السفن، أو الصراع الدامي المقزز بين الإنسان والوحش، أو من جانب آخر، مشاهد الغرام التي انتقلت بجرأة من الرومانسية إلى الإباحية الموغلة في صراحتها. وفي المحصلة يمكن أن نخلص إلى استنتاج مفاده أن وظيفة التقنيات المرتبطة بإمكانية تحسين قدرة السينما على تقديم صورة مقنعة عن الواقع تراجعت لصالح وظيفتها الجديدة باعتبارها وسيلة من وسائل الكذب الذي تمارسه السينما على مشاهديها. *ناقد سينمائي أردني الرأي الأردنية في 6 أبريل 2007
|