سينماتك

 

«زودياك» القاتل المتسلسل وعصر نيسكون

محمد رضا

 

 

 

 

ما كتبته

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

 

صفحات خاصة

أمين صالح

عبدالقادر عقيل

يوخنا دانيال

 

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

 

أرشيف

إبحث في سينماتك

 

سجل الزوار

إحصائيات استخدام الموقع

 

 

 

سينماتك

 

حين عُرض فيلم «هاري القذر» على الشاشات العالمية في العام ,1971 كان قليلون يعرفون أن الأحداث التي صاغها ثلاثة كتّاب سيناريوهات، هم هاري جوليان فينك ور. م. فينك ودين رايزنر، مستوحاة من وقائع حقيقية جرت فصولها في الأعوام القليلة التي سبقت إنتاج الفيلم، وكان بطلها قاتلاً سمّى نفسه زودياك، ارتكب سلسلة جرائم قتل غير مترابطة لا في الضحايا ولا في الدوافع. ولغاية اليوم، لم تُكتشف هوية القاتل. لكن «هاري القذر»، الذي أخرجه دونالد سيغل ومثّل دور البطولة فيه كلينت إيستوود، كشف عن هويّته من أجل الترفيه. «زودياك»، الفيلم الجديد لديفيد فينشر، يُبقيه على حاله، كما في الواقع: أي مجهول الهوية، مستتراً ولغزاً قائماً بلا حلّ. من كان «زودياك»؟ لماذا قتل؟ ولماذا توقّف عن ارتكاب جرائمه؟ هل مات بشكل طبيعي، أم بسبب حادثة؟ هل توقّف عن لفت النظر، فنفّذ جرائم أخرى لم يكتب عنها رسائل إلى صحيفة «سان فرانسيسكو كرونيكال»، التي خصّها بالاعترافات؟ لا أحد يعرف، ولا المخرج فينشر يريد أن يعرف، فهو يرغب في إبقاء الفيلم قريباً من الواقع قدر الإمكان، وتجنيبه مزالق الفيلم الجماهيري، أي النوع الذي يتشوّق الجمهور العريض لمشاهدته.

أنجز ديفيد فينشر هذا النوع البوليسي سابقاً: في العام ,1995 حقّق «سبعة»، عن قاتل متسلسل (كفن سبايسي) يروّع المدينة قبل سقوطه بين أيدي تحرّيين اثنين (مورغان فريمان وبراد بت)، لكن بعد تحويل الثاني إلى جزء من لعبته. لا يعني هذا أن الخيال معدوم هنا. ففي «زودياك» قدر من الخيال موجود في كُنه السيناريو الذي كتبه جيمس فاندربليت، مستنداً فيه على كتابين لروبرت غرايسميث، إحدى الشخصيات التي تظهر على الشاشة. لكن، قبل سبر أغوار هذا الجانب، أعود إلى «هاري القذر»، لأن الغاية هنا ليست نقد فيلم «زودياك»، بل البحث عن تلك التوجّهات السياسية التي تحفّ به، وهذه لا يُمكن قراءتها إلاّ بالعودة إلى التاريخ ممثّلاً بفيلم دونالد سيغل، وبأفلام أخرى.

في العام ,1971 كان رتشارد نيكسون الرئيس الأميركي الثالث والستين، الذي دخل البيت الأبيض لاستلام مقاليد الحكم في العام ,1969 متخلّياً عنها في العام 1974 بفضيحة ووترغيت. روبرت ألتمان، المخرج الكبير الذي رحل قبل أشهر قليلة، صنع عنه فيلماً مجنوناً بعنوان «شرف سرّي» (1984)، كناية عن الرئيس كما أدّاه فيليب بايكر هول في غرفته، يتحدّث إلى نفسه، ويتحرّك في إطار غرفة واحدة، ويعكس ما تميّزت به فترته على مستوى السياسة والحرب في فيتنام وتصاعد وتيرة الحرب الباردة بينه وبين الروس والجسر المفاجئ الذي مدّه مع الصينيين. وكان مطلع تلك السبعينيات، عندما أنجز سيغال «هاري القذر»، محط انقسام الأميركيين بين مؤيد للحرب الفيتنامية ومعارض لها، هي التي تصاعدت حدّتها منذ بداية الستينيات حتى انسحاب الولايات المتحدّة منها في منتصف السبعينيات. من جهته، كان كلينت إيستوود لا يزال الشاب اليافع، الذي رآه البعض النسخة الجديدة للممثل اليميني المشهور جون واين. وجون واين نفسه كان أول من حقّق فيلماً عن الحرب الفيتنامية أيضاً بعنوان «القبّعات الخضر» في العام .1968 بهذا الأمر، فإن اليمين لا اليسار هو الذي باشر بالتعرّض لتلك الحرب، والشباب العروبي في بيروت رمى شاشة صالة «سينما الحمرا» بالبندورة عقاباً لفيلم يشهر موقفه ذاك.

فيلم يميني

بدوره، كان دونالد سيغال (1912/1991) مخرج «هاري القذر» يميني النَفَس. يُمكن العودة إلى فيلمه التشويقي «غزو ناهشي الجسد» (1956). إنه فيلم خيال علمي عن مخلوقات تتساقط بفعل مطر غامض، فتنبت على الأرض كشرانق تستولي سريعاً على الأميركيين في أثناء نومهم، وتنطلق في مهمة الاستيلاء على أميركا، بلدة بلدة، ومدينة مدينة. لا يُخفى على أحد أن الفيلم يحذّر من الخطر الشيوعي الماحق. إنه أحد أفلام الخيال العلمي التي أُثقلت بمعان مماثلة، يقف فيها الشرير الفضائي رمزاً للشرير الأرضي الأحمر. فيليب كوفمان أنجز نسخة ثانية في العام ,1978 أقلّ حرارة على الصعيد السينمائي، ثم جاء دور المخرج المستقلّ آبل فيريرا، الذي أنجز في العام 1993 نسخة يسارية الميول تجعل الخطر متمثّلاً في الحياة العسكرية.

شملت أفلام سيغال مع إيستوود «خدعة كوغان» (1968) و«بغلان للأخت سارة» (1970) و«المخدوع» (1971). يمجّد الفيلمان الأولان البطل فوق الليبراليين، وفوق الأجناس البشرية الأخرى (هنود حمر، سود، مكسيكيون)، وفي الفيلم الثالث هناك تمييز على نطاق ثنائية فحولة الرجل في مقابل ضعف المرأة. وفي «هاري القذر»، خاتمة التعاون هذا، يتصدّى إيستوود للقاتل (آندي روبنسون) الذي يُفترض به أن يكون مجهولاً، على الرغم من مطالبة القيادة له عدم التدخّل وحلّ الأزمة التي أثارها القاتل بالعنف المنفرد. هذا الموقف اليميني في مفهوم موقع الفرد من السلطة إذا ما هادنت، تمّ منحه مباركة فورية عن طريق جعل المجرم مهووساً وشاذّاً في كل شيء: جنسياً ونفسياً وعاطفياً. ولا يفوّت صانعو الفيلم فرصة النيل من السود أيضاً، إذ يلجأ المجرم إلى أحدهم طالباً إياه ضربه بكل عنف.

مع سيغال، لست بحاجة إلى إيستوود لتحقيق فيلم يميني. تستطيع أن تعثر على شذرات كهذه في «موت مقاتل» (1969) مع رتشارد ويدمارك، و«تشارلي فاريك» (1973) مع وولتر ماثاو، و«مطلق النار» (1967) مع جون واين. في المقابل، انطلق إيستوود بعد «هاري القذر» في رحلة تصحيح الصورة، بتنفيذه «ماغنوم فورس»، الذي هاجم اليمين في السلطة، قبل أن يختار مواضيع تنتقد السلطة والعنف دائماً، من أي جهة، عندما أدرك موقعه الفني والإنساني.

«هاري القذر»، الذي نشاهد نتفاً منه في «زودياك» (مشهد للممثل جون فيرنون مؤدّياً دور حاكم المدينة الحائر بأمره)، ليس الوحيد الذي استوحى حكاية القاتل الغامض، إذ سبقه «بوليت» للمخرج بيتر ياتس (تمثيل ستيف ماكوين). على عكس «هاري القذر»، التزم «بوليت» صفّ البوليس الذي يعاني، واتّخذ موقفاً مضاداً لوكلاء النيابة الذين يريدون تحويل الجريمة إلى فرصة للفوز بالانتخابات المقبلة. لا يسرد «بوليت» حكاية القاتل «زودياك»، بل يُقدّم شرائح من رجال البوليس، كما لو أنه فيلم تسجيلي: يُقدّمهم وهم محفوفون بالبذل، مجموعة من العاملين البسطاء بلغة الستينيات والسبعينيات، يننتمون إلى الطبقة العاملة. في «زودياك»، تعامل ديفيد فينشر مع شخصياته الأربع (صحافيان وشرطيان) من الزواية نفسها.

القاتل المتسلسل

ليس «زودياك» الفيلم الأول على مستوى الاستلهام المباشر. هناك توم هانسن (سينمائي انتهى قبل أن يبدأ) الذي صنع أول أفلام زودياك بعنوان «القاتل زودياك» في العام ,1971 والألماني الأصل أولي لومَل (حقّق أفلاماً أكثر مما حقّق هانسن، ومع هذا، فقد آل إلى العتمة نفسها أيضاً)، أخرج «قاتل زودياك» من دون أل التعريف، بينما أنجز ألكسندر باكلي «الزودياك» قبل عامين فقط. المصير التجاري لهذا الفيلم كان أسوأ من مصير «زودياك» لديفيد فينشر، لكن أياً من هذه الأفلام لم يقترب من جودة فيلم ديفيد فينشر وتفانيه في رصف التفاصيل، والانتقال بالمُشاهدين عبرها بسلاسة، من دون أن تفقد قدرتها على التشويق، إلاّ في أماكن محدّدة كان الاهتمام فيها منصبّاً على الإنسان في هذا البذل، وليس على المفارقة أو الحدث.

ينتمي «زودياك» فينشر إلى السينما التي تقول إنه في خلال سرد القصّة التي تدور صُورها على الشاشة، تكون البلاد واقعة تحت مظلّة هذا الرئيس أو ذاك، والتي تستمد خصوصية موقفها من الربط المباشر، إنما غير الفجّ، بين زمن تاريخها والفترة التي تعكس وضع الأمّة الأميركية. هذا ما نجح به سبايك لي، عندما أخرج «صيف سام» في العام 1999 عن القاتل المتسلسل ديفيد بركوفيتز، الذي روّع نيويورك في صيف العام 1977 قبل إلقاء القبض عليه. كان ديفيد بركوفيتز هذا يهودياً، تراءى له أن «كلبا» يطلب منه أن يقتل. كان، كما «زودياك»، يقترب من السيارات الواقفة، وفيها شباب وشابات، ويطلق النار عليهم من مسافة قريبة. هناك فيلم تسجيلي عنه بعنوان «سيرة ديفيد بركوفيتز»، لم أتوصّل إلى معرفة اسم مخرجه. لكن المخرج التلفزيوني الجيّد جود تايلور تناوله في فيلم «من الظلام» (1985).

أفرز الوضع السياسي في السبعينيات عدداً كبيراً من الأفلام البوليسية والتشويقية، التي لم تتميّز فعلياً عن سواها لولا تلك المظلّة السياسية التي حملتها. يُمكن العودة دائماً إلى «المحادثة» (1974) لفرنسيس فورد كوبولا، و«كل رجال الرئيس» (1976) لآلان ج. باكولا. نفتح نافذة على فيلمي باكولا الرائعين «كلوت» (1971) و«منظر متواز» (1974)، لاستلهام الكثير مما يُمكن وصفه في هذا النطاق. وماذا عن أفلام سيدني بولاك (على الرغم من مهادناتها)، كـ«ثلاثة أيام من الكوندور» (1975)؟ أو عن نقد جورج روي هيل لإرهاب الموساد (قبل فيلم «ميونيخ» لستيفن سبيلبيرغ) في «ضاربة الطبل الصغيرة» (1984)؟ وعن السخرية اللاذعة لروبرت ألتمان في «الوداع الطويل» و«بوباي» و«ماش» وغيرها؟

لم يكن النقد الاجتماعي وقفاً على أفلام ذات نوعية تشويقية لغزوية، بل كثيراً ما جاء في نطاق أفلام أخرى. دراما عاطفية آسرة في «تشارلي حبي» للامونت جونسون، ومحاكاة مذابح فيتنام في فيلم الغرب الأميركي «الجندي الأزرق» لرالف نلسون، والمطالبة بثورة للشباب تجهز على الأنفاس الحاكمة في «متوحش في الشوارع» لباري شير، أو التاريخ الأميركي مختلفاً عن كتب المدارس كما في «بوني وكلايد» و«رجل صغير كبير» لآرثر بن و«ماكاب ومسز ميلر» و«بافالو بل والهنود الحمر» لروبرت ألتمان، و«إيزي رايدر» لبيتر فوندا. وإذا وقعت مذابح زودياك في الفترة السياسية المتخبّطة لرتشارد نيكسون، فإن «اغتيال رتشارد نيكسون» لا يتوانى عن ربط الخاص بالعام، مرّة أخرى. أنجزه نايلز مولر قبل عامين، ولم ينجز عبره المكانة التي يهدف إليها. مرّ الفيلم مروراً عابراً، من دون أن يحقّق نتائج تجنّبه الوقوع في سلّة النسيان. في هذا الفيلم، هناك يهوديّ آخر يُدعى سام بايك (شون بن)، يرزح تحت عبء الحاجة إلى تحقيق ذاته. تتركه زوجته، ويخشاه صديقه، ويزدريه صاحب العمل. فوق ذلك، يمتنع المصرف عن تزويده بالقرض الذي ينوي توظيفه في مشروعه الخاصّ. أضف أيضاً موقف «الفهود السود» الذين لجأ إليهم سام، مندفعاً بنيّة حسنة إليهم، ومعلناً وقوفه إلى جانب قضية السود في أميركا: نظروا إليه كنظرتهم إلى مرشّح جاء في التعزية ليفرّق على الموجودين إعلانه عن نفسه، وخشوه كما لو أنه مخبرٌ لـ«المكتب الفيدرالي للتحقيقات» (أف بي آي)، ينتظر منهم السقوط في فخّ يحوّلهم إلى السجن.

ينظر سام حوله متفحّصاً هذا الحظ العاثر كلّه، ولا يجد إلاّ رتشارد نيكسون ليكيل إليه الاتهام. نراهما، سام ورتشارد، في مشاهد جامعة: الأول أمام جهاز التلفزيون، والثاني في داخله. واحد لا يملك شيئاً، وآخر يملك أميركا. لا يجد سام إلاّ رتشارد أمامه، فيلومه على وضعه، مؤمناً أن هدف السياسة الاقتصادية لرتشارد نيكسون القضاء على الفقراء لا على الفقر. في النهاية، يقرّر اغتيال الرئيس. وكما «صيف سام» و«زودياك»، ارتكز «اغتيال رتشارد نيكسون» على أحداث وشخصيات حقيقية. وإذا كان ذلك كلّه موجوداً ليقول شيئاً لنا، فهذا الشيء هو: إن الأفلام التي ستتحدّث عن جورج بوش ليست بعيدة بدورها عن ذلك.

(هوليوود)

السفير اللبنانية في 30 مارس 2007