سينماتك

 

فى بلد مثل الذى نعيش فيه.. وبه مجلس قومى للمرأة:

من هم أولاد المواخير.. فى العزبة هنا؟

أحمد يوسف

 

 

 

 

ما كتبته

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

 

صفحات خاصة

أمين صالح

عبدالقادر عقيل

يوخنا دانيال

 

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

 

أرشيف

إبحث في سينماتك

 

سجل الزوار

إحصائيات استخدام الموقع

 

 

 

سينماتك

 

من المؤكد أن سوزان سونتاج لم تقرأ يوما أى كلمة عن أم تامر، ومن اليقين أن أم تامر لم تسمع أبدا عن سوزان سونتاج، لكن من البديهى أن الهانم لم تقرأ أو تسمع عن كلتيهما، والهانم هو التعبير الذى يطلقه بعض المقربين من - والمتزلفين إلى - السيدة سوزان مبارك، ولعلك تلاحظ أن هؤلاء لا يتعاملون معها باعتبارها زوجة رئيس الدولة، وإنما الهانم زوجة صاحب العزبة، والأخطر أنهم جميعا شركاء بالفعل فى تحويل الدولة إلى عزبة بالمعنى الحقيقى للكلمة، ربما ليس هناك فيها مكان لسوزان سونتاج ومثيلاتها، بينما تقبع أم تامر فى قاع هذه العزبة، بالرغم من - أو بالأحرى بسبب - ذلك الشيء المدعو المجلس القومى للمرأة.

ولعلك تسأل: ما الذى لم الشامى على المغربى، من السوزانين إلى أم تامر؟ لكنها تداعيات ثارت فى ذهنى ووجدانى بعد أن شاهدت مؤخرا الفيلم التسجيلى الأمريكى مواليد المواخير، الذى يعود إنتاجه إلى عام 2004، وفاز فى بداية العام التالى بجائزة الأوسكار عن أفضل فيلم تسجيلى طويل، ولا أدرى لماذا التقصير والتأخير من جانبى فى الكتابة عن هذا الفيلم، وهو الأمر الذى لا يقتصر على هذا الفيلم وحده وإنما يمتد إلى عشرات وربما مئات الأفلام التسجيلية القصيرة والطويلة التى لا يكتب أحد من نقادنا عنها شيئا رغم توافرها فى فيض غامر على الإنترنت، لكنه التقصير الذى يأتى من حالة الرضا عن أنفسنا والاكتفاء بذاتنا إلى درجة أننا أصبحنا جزيرة معزولة عن العالم قانعين بسينمانا الهزيلة فى الجانب الأكبر من إنتاجها واستهلاكها والكتابة عنها، لذلك لا تستغرب أن يكتب أحد نقادنا بكل ثقة أنه لا حاضر أو مستقبل للسينما التسجيلية فى نفس الوقت - ويا للعجب!! - الذى تشهد فيه ازدهارا مذهلا فى العالم كله، أما لماذا هذا الموات شبه الكامل للسينما التسجيلية عندنا فيعود إلى أسباب عديدة، تحتاج إلى عشرات الصفحات لتفصيلها، تبدأ من القمع الذى تمارسه العزبة فتمنع أن يحمل أحدنا كاميرا لكى يصور فيلما تسجيليا إلا بعد أن يستأذن شيخ الغفر، وتمر عبر ثقافة متواضعة تتوقف عند ما قرأناه وعرفناه منذ نصف قرن مضى ونسيناه أيضا للأسف الشديد، وتنتهى عند مدى الإحساس الحقيقى بالمسئولية الفنية والاجتماعية، تجاه فن السينما وأبناء هذا الوطن على السواء.

بدأت حكاية فيلم مواليد المواخير عندما ذهبت المصورة الفوتوغرافية زانا بريسكى إلى كالكوتا فى الهند لكى تصور أحياء البغاء فى هذه المدينة المزدحمة الخانقة، ولأنها لم تستطع بسهولة أن تصل إلى أحشاء هذه الأحياء فقد قررت بانتهازية فنية أن تخوض مغامرة بأن تجمع من حولها أبناء وبنات العاهرات وعذرا لاستخدام هذا اللفظ الذى يحتاج بالتأكيد إلى مراجعة، وأن تعطى الأطفال كاميرات فوتوغرافية بسيطة لتطلب منهم تصوير كل ما تقع عليه أعينهم، والأهم أنها قررت أيضا بوعى فنى هذه المرة أن تستدعى المصور والمخرج التسجيلى روس كاوفمان لكى يصنعا من هذه التجربة فيلما تسجيليا، لأنها اكتشفت ان استخدامها للأطفال لن يجعلها تحصل على الصور التى جاءت من أجلها بقدر ما أن علاقة الأطفال بالكاميرا الفوتوغرافية سوف تترك - بالسلب والإيجاب - أثرا عميقا عليهم وعلى حياتهم.

إن الصبيان من هؤلاء الأطفال يعملون فى تقديم الخمر لزبائن أمهاتهم، وربما يضطرون لممارسة البلطجة أحيانا، بينما تنتظر البنات الصغار حتى تصلن إلى مرحلة البلوغ كى يلحقن بالطابور فى العمل، لكننا مع هذا الواقع شديد القسوة لا نرى فيلما إصلاحيا رجعيا عن أطفال الشوارع بالطريقة التى ينظر بها إعلامنا ومجلس الهانم إلى مثل هذه القضية، على طريقة تبرعوا أو اعطفوا، فالصدع الاجتماعى والاقتصادى أعمق كثيرا من أن يعالج بإعطاء كاميرا إلى هؤلاء الأطفال، لكن الفيلم يفجر عشرات الأسئلة وأنت ترى وجوه وعيون الأطفال فى لقطات فوتوغرافية وسينمائية قريبة، سواء من خلال تصويرهم بعضهم البعض أو من خلال كاميرات صانعى الفيلم. إنك تتذكر على الفور كتابات الكاتبة الأكاديمية سوزان سونتاج خلال السبعينيات فى كتابها الشهير عن الفوتوغرافيا الذى أكدت فيه أن للفوتوغرافيا دورا هداما، وطبيعة مفترسة ووحشية، وأنه يكرس مفاهيمنا الرجعية عن البناء الاجتماعى الطبقى أو الجماليات الفنية التقليدية، وهو ما يستدعى إلى الذهن أيضا كتابات جون بيرجر عن جماليات الفنون البصرية التى يرى أنها تكرس الوضع القائم، بل إنه ذهب فى كتابه طرق الرؤية إلى القول بأن الفوتوغرافيا ليست لغة، والصور الفوتوغرافية ليست إلا تجميدا للواقع الراهن. لقد كان من الغريب أن كليهما - سونتاج وبيرجر - ينطلقان من أرض فلسفية ماركسية أو قريبة منها، لكنهما لم يدركا فى البداية أن الرؤية التى يناديان بها مرتبطة بسياق كامل، وأن الفوتوغرافيا مثلها مثل كل الإبداعات والنشاطات الإنسانية يمكن أن تكون مع الإنسان أو ضده تبعا للأهداف التى تتوجه إليها، لذلك ليس من الغريب أيضا أنهما غيرا وطورا كثيرا من مفاهيمهما فى الفترة اللاحقة.

وفيلم مواليد المواخير هو البرهان العملى على ما يمكن للفن أن يصنعه وما يعجز عنه: إنه لا يقع أبدا فى تصوير لقطة واحدة بذيئة عن العاملات فى مهنة البغاء، فهن ضحايا قوادين قساة القلوب من الرجال إحداهن سوف يحرقها قوادها عندما تتمرد عليه، أو ضحايا أزواج فقدوا شعورهم بالرجولة وأصبحوا كالخرق المهلهلة تحت وطأة فقر وقهر هائلين، لكن الفيلم أيضا لا يصور هؤلاء النساء باعتبارهن ملائكة سقطوا فى الجحيم، فالواقع البشع ترك أثره الفادح على أرواحهن وأجسادهن على السواء، واعتدن على المهنة حتى أنهن لا يرين غضاضة فى أن تلحق به بناتهن عندما يكبرن، وربما كان هذا مصيرا أقل بشاعة من أن يتم بيعهن بالمعنى الحرفى للكلمة. وضعت الخالة زانا كما يسميها الأطفال فى أيديهم كاميرات فوتوغرافية، وتركتهم يلتقطون الصور لتعلمهم بين الحين والآخر بعض الخطوط العامة للجماليات البصرية، لكنها تكتشف - ونكتشف معها - أن بعضهم يملكون رؤيتهم الخاصة بهم بالفطرة، والبعض الآخر سوف يصنع لنفسه رؤيا من خلال علاقته بالكاميرا، والأهم هو أن هذه العلاقة سوف تمنحهم القدرة على أن يروا العالم الذى اعتادوا عليه كأنهم يرونه للمرة الأولى.

أن ترى العالم كأنك تراه لأول مرة!! يا له من طموح فنى رائع لكل عمل فنى أصيل، لا فرق فى ذلك بين تماثيل مايكل أنجلو أو كاميرا بسيطة فى يد طفل، إن بريسكى تسجل تجربة الأطفال وهم يسجلون الواقع من حولهم، وهم يكتشفونه ويكتشفون معه أنفسهم، ومن خلال محاولة يائسة تحاول بريسكى أن تجد لهؤلاء الأطفال فرصة للهرب من مصيرهم البشع الذى ينتظرهم فى أحياء البغاء، لكن هنا يعجز الفن - الذى وضع أيدينا على المشكلة - عن أن يجد حلا حقيقيا لها لن يتحقق إلا بالثورة، فليست هناك فرصة للإصلاح فى عزبة لا ترى هؤلاء باعتبارهم بشرا لهم نفس الحقوق التى ينعم بها المرفهون، لذلك فإن الفيلم لا ينتهى نهاية سعيدة كما كان يتوقع المتفرج أو يتمنى، فأغلب هؤلاء الأطفال عادوا إلى الطابور ينتظرون دورهم الذى يساقون فيه إلى الذبح، مثل أم تامر السيدة العاملة التى تنظف البيوت دون أن ترتاح يوما، وتبيع عافيتها كل يوم من أجل أن تعول أسرتها مثلها مثل ملايين غيرها فى عزبة يقولون إن فيها مجلسا قوميا للمرأة، يكاد أن يذكرك فى جلساته بالحفلات الخيرية لزوجات الباشاوات، توزع فيه نساء الصفوة الجوائز على بعضهن البعض، وفى عزبة ليست فيها إلا تلك الشرائط السينمائية الهزيلة التى لا تجد لها لدينا بديلا، ولا يوزعون فيها الكاميرات على الكبار قبل الصغار، لأنهم لا يريدون لنا أن نرى الواقع من حولنا على حقيقته، حتى لا تكاد تعرف فى فوضى العزبة أو عزبة الفوضى من هم حقا أبناء المواخير.

العربي المصرية في 25 مارس 2007