زواج العندليب من سندريللا: ليس نفيا ولا إثباتا بقلم : إبراهيم سعده |
صفحات خاصة
|
جنيف: صيف عام ..1962 تلقيت برقية من الأستاذ مصطفي أمين، جاء فيها:
برقية ينبهني فيها الأستاذ مصطفي أمين بأن 'العندليب' و'سندريللا' سيقومان بزيارة خاطفة لجنيف، بعد اشتراكهما في احتفالات عيد جلوس ملك المغرب الراحل الحسن، لكنه لم يحدد لي يوم الوصول، ولا اسم شركة الطيران التي ستنقلهما. مشكلة.. لكن حلها سهل. أو هكذا تصوٌرت. والحل موجود لدي صديقي مدير مكتب مصر للطيران في جنيف: محمد خيري، شقيق الزميلة العزيزة خيرية خيري أرملة الأستاذ علي أمين. توجهت إلي مكتب شركة مصر للطيران وعرضت علي مديرها الصديق الراحل محمد خيري، البرقية التي وصلتني من مصطفي أمين، وطلبت منه مساعدتي في معرفة موعد وصول 'العندليب' وعروسه 'سندريللا' إلي مطار جنيف، واسم شركة الطيران القادمة من الرباط. وما تصوٌرته سهلا.. كان بالغ الصعوبة. فقد قال لي محمد خيري: ' شركة الطيران الملكية المغربية، وشركة الطيران السويسرية سويس إير تخدمان خط: الرباط/جنيف، وهناك رحلات عديدة علي مدي الأسبوع، ويمكن الرجوع إلي معارفي في الشركتين لمعرفة الطائرة التي ستقل عبدالحليم حافظ، بشرط أن يكون قد حجز عليها مقدما، وإن كنت أشك في ذلك مادام يتكتم علي زيارته لجنيف كما جاء في برقية مصطفي أمين. ولا بأس من السؤال'. وأجري محمد خيري مكالمة تليفونية مع 'المغربية'، و'السويسرية'، وصدقت مخاوفه. فلا يوجد حجز باسم عبدالحليم حافظ، ولا باسم سعاد حسني علي كل رحلات الأيام الثلاثة القادمة. 'والحل يا محمد؟'. رد قائلا: 'لا حل.. إلاٌ إذا أعطيتك مواعيد وصول الطائرات المغربية والسويسرية، وتكون في انتظارها الواحدة بعد الأخري أمام باب خروج الركاب في مطار جنيف'. ونظرة سريعة علي جدول وصول الطائرات من الرباط، خلال أيام الأسبوع، نبهتني إلي أنني سأمضي أياما في 'مطار جنيف.. رايح جاي'! والأصعب.. أن هناك أكثر من رحلة في بعض أيام الأسبوع، وتفرق بضع ساعات بين وصول الأولي ووصول الثانية! ولم يكتف محمد خيري بما قاله، وإنما صدمني بمشكلة أخري أكبر وأعقد من الأولي عندما قال لي: ' عبدالحليم حافظ يتكتم علي زيارته إلي جنيف، كما جاء في برقية مصطفي بيه، فلماذا نستبعد زيادة في الكتمان أن يختار العندليب مطار زيوريخ بدلا من مطار جنيف؟!'. سؤال وارد فعلا. فماذا يمنع 'العندليب' من السفر إلي زيوريخ ويقيم فيها، أو يغادرها علي متن طائرة داخلية إلي جنيف، خاصة أن الرحلة بين المدينتين بالطائرة لا تزيد علي30دقيقة؟'. لو فعل عبدالحليم ذلك لضاعف إجراءاته الأمنية، وأمن علي سرية زيارته، لكنه في هذه الحالة سيخلق لي مشكلة حقيقية، ومستعصية. فليس معقولا أن أتنقل يوميا بين مطاري جنيف وزيوريخ المسافة بينهما:3ساعات بالسيارة أوالقطار لملاحقة كل طائرة قادمة من الرباط، في هذا المطار أو ذاك؟! وماذا أفعل لو كان الفاصل الزمني بين وصول واحدة لمطار جنيف، وهبوط أخري في مطار زيوريخ متقاربا؟! لم أجد ردودا علي أسئلتي الحائرة. وقلت لصديقي مدير مكتب مصر للطيران: ' احتمال وصول عبدالحليم إلي زيوريخ سأتجاهله، وسأتفرغ لمطار جنيف وحده، فعصفور في اليد أبرك من عصفورين علي الشجرة'. ووافقني محمد خيري علي رأيي، وحاول التخفيف عني بوعد منه باستمرار اتصالاته التليفونية يوميا مع مكتبي الحجز في شركتي الطيران:'المغربية' و'السويسرية' للاستعلام عن ظهور اسم: عبدالحليم حافظ بين أسماء ركاب كل طائرة قادمة من الرباط. *** في صباح كل يوم من الأيام الثلاثة التالية كنت أجري مكالمة تليفونية مع محمد خيري، وأسأله سؤالا مكررا يقول: 'إيه أخبار طائرة العندليب؟'. وكان الرد يأتي مكررا..أيضا: 'لم تثبت الرؤية. ونحن في الانتظار'! ورغم عدم ثبوت الرؤية، إلاٌ أني كنت أواظب علي الذهاب إلي مطار جنيف قبيل وصول كل طائرة قادمة من العاصمة المغربية، ولا أغادره إلاٌ بعد خروج آخر راكب ، وبعد مروري علي مكتب شركة الطيران لأتأكد من عدم وجود اسم: عبدالحليم حافظ في قائمة الركاب، ولا حتي تحت اسمه الحقيقي: عبدالحليم شبانة. وفي نهاية اليوم الثالث، تلقيت مكالمة من مصطفي أمين، وسألني: 'هيه.. إيه الأخبار؟!' وبالطبع كان يسأل عن أخبار عبدالحليم، وسعاد حسني. وأنصت لي وأنا أروي له كل ما فعلته خلال الأيام القليلة الماضية، ثم بادرني قائلا: ' أنا علمت إنهما غادرا الرباط بالفعل'! وأسقط في يدي.. كما يقولون! لم أجد تعليقا سواء بالنفي أو الإيجاب. فالفنانان قد يكونان غادرا العاصمة المغربية بالفعل، ولكنهما لم يصلا بالقطع إلي جنيف، وإلاٌ كنت أعمي أو كانا يرتديان ملابس تنكرية، ولصق عبدالحليم لحية حول وجهه، ووضعت سعاد نظارة كبيرة سوداء أخفت ملامحها التي لا تنسي! وأردت أن 'آخد خط رجعة' لنفسي، فقلت لمصطفي أمين: ' هناك احتمال أن عبدالحليم وسعاد وصلا عن طريق زيوريخ، أو علي طائرة خاصة إمعانا في السرية وابتعادا عن الصحفيين'. وهدأت أعصابي عندما وافقني مصطفي أمين، قائلا: 'احتمال وارد.. المهم أريد منك أن تعثر عليهما في أي مكان. وأنتظر أخبارهما أولا بأول، وأكبر عدد من الصوٌر خاصة صورة عقد الزواج. الناس هنا مشغولة جدا بهذه القصة، ومن حظك أنك في قلب الحدث، وليس هناك مراسلون لصحف مصرية سواك، ولكن هناك مراسلين لصحف ومجلات لبنانية، وهم مثلنا يتابعون القصة. أنا متأكد أنك ستنفرد بقصة زواج حليم وسعاد، وهو 'سكوب' سبق صحفي سيحسب لك، أوعي تضيعه أو يفلت من إيدك، وأنا في انتظار برقية منك تحدد فيها يوم، ورقم رحلة الطائرة إلي القاهرة، واسم الكابتن الذي ستسلمه القصة والأفلام'! وشكرت مصطفي بيه علي ثقته الغالية، وأكدت له أني سأفعل كل ما في استطاعتي لتنفيذ ما ينتظره مني. *** في صباح اليوم التالي كنت أستعد للذهاب إلي محمد خيري كالعادة، وأصدمه كما صدمني مصطفي أمين بخبر مغادرة 'العندليب' و'سندريللا' الرباط، واختفائهما في جنيف! وقبل مغادرة منزلي تلقيت مكالمة من محمد خيري يؤكد فيها ماسمعته من مصطفي أمين. بادرني قائلا: 'عبدالحليم وصل أمس إلي جنيف! لا تسألني كيف؟! فأنا حتي الآن لا أعرف كيف وصل، ولا علي أي طائرة ، ولا في أي مطار! '. أجبته: 'مصطفي بيه سبقك. المهم الآن أن تقول لي أين يقيم عبدالحليم؟' فرد قائلا: ' لا أعرف. وعليك أن تسأل في الفنادق الكبري'. وشكرته، رغم أنه زاد من شكوكي في العثورعلي حليم وسعاد. ولجأت إلي صديقي العزيز فتحي نور الذي كان يواصل دراسته العليا، وقتذاك، في كلية التجارة بجامعة لوزان ووافق علي مشاركتي في عملية البحث والتنقيب عن العروسين المختفيين في مدينة جنيف. اقترح فتحي نور الذي يشغل الآن منصب رئيس مجلس إدارة شركة الفنادق المصرية أن نضع خطة بحثية تبدأ بتقاسمنا قائمة فنادق المدينة الفاخرة، 5 نجوم فأكثر، وما أكثرها وأروعها علي طول امتداد 'بحيرة ليمان'، للاستعلام منها عن وجود نزيل باسم عبدالحليم حافظ، أو عبدالحليم شبانة، أو أي اسم مشابه من قريب أو بعيد، والأهم أن يكون مصري الجنسية. فعلي فرض أن عبدالحليم استخدم اسما مستعارا، فمن المستبعد أن يتقدم للفندق بجواز سفر غير مصري. وضاعت ساعات في بحثنا، وتنقيبنا، داخل فنادق الدرجة الممتازة.. بلا فائدة. أجمعت مكاتب الاستقبال علي عدم وجود نزيل باسم عبدالحليم، أو عبدالعليم، كما نفت وجود نزيلة باسم سعاد، أو وداد، حسني، وبعض الفنادق نفت وجود أي نزيل مصري في هذا اليوم أو السابق. التقينا فتحي نور، وأنا في ميدان محطة سكك حديد جنيف، بعد اتمام مهمتنا المقدسة فحصا، وتمحيصا في كل فنادق جنيف الراقية، وعدنا منها ب 'خفٌي حنين'! وأثناء تجولنا في الميدان في اتجاه مقهي، اقترح صديقي فتحي : ' ما رأيك أن نقوم بجولة تفتيشية أخري في الفنادق الأقل فخامة، فربما نعثر علي عبدالحليم في واحد منها'. ولم أوافق علي هذا الاقتراح، وقلت بكل ثقة: 'معقول يا فتحي أن عبدالحلييييييييم حافظ، معبود الجماهير، يقيم في فندق 2 أو 3 نجوم؟! معلوماتي من المجلات الفنية تؤكد حرصه علي اختيار أفخم فنادق عواصم الدنيا التي يزورها، للإقامة فيها، وغير معقول أن يقضي شهر عسله مع سعاد حسني في فندق درجة تالتة'. ولم يقتنع فتحي نور باعتراضي، وأضاف قائلا: 'هناك أكثر من مبرر لاختيار الفندق المتواضع: ربما لعدم وجود عملة أجنبية كافية في جيب عبدالحليم حافظ، لأن القانون وقتذاك كان يفرض قيودا شديدة علي خروج العملة الصعبة واضطر إلي تحجيم مصروفاته، والتواضع في محل إقامته. أو ربما جاء هذا الاختيار متعمدا ليبعده وعروسه عن الأنظار، والإزعاج. فالصحفيون وأنت أدري مني سيبحثون عنهما في الفنادق الفاخرة وحدها، ولن يخطر علي بال أحدهم البحث في فنادق دون المستوي'. وقبل أن أناقشه في تبريراته، لمحت فجأة علي بعد أمتار منٌا الفنان القدير عمر الحريري! في البداية لم يخطر علي بالي الربط بين وجود عمر الحريري وعبدالحليم حافظ معا في جنيف. وتقدمت بسرعة لأصافح الفنان الكبير وأعرٌفه بنفسي. أسعدني التعرف لأول مرة علي عمر الحريري، لإعجابي القديم بموهبته، وأدواره الشهيرة السينمائية. وقمت بتعريفه علي صديقي فتحي نور الذي رحب به بحرارة. وعندما قال عمر إنه وصل أمس إلي جنيف لتمضية إجازة بضعة أيام، يعود بعدها إلي القاهرة.. بدأت أتساءل: 'أليس من الغريب تزامن وصول عمر الحريري إلي جنيف في نفس يوم وصول عبدالحليم وسعاد حسني؟!'. لم يشر الفنان عمر الحريري إلي 'العندليب' أو 'سندريللا' من قريب أو بعيد، كما أني حرصت علي عدم سؤاله عنهما، واكتفيت بسؤال غير مباشر عن البلد الذي قدم منه أمس. وببساطة، وصدق، أجاب عمر الحريري قائلا: 'من الرباط، حيث كنت مدعوا لحضور احتفالات عيد جلوس الملك الحسن'. لم أعلق علي الخبر السعيد، واكتفيت بتبادل نظرة خاطفة ذات معني مع فتحي نور، الذي فهم ما فهمته. وعرضت علي عمر الحريري الذهاب إلي مقهي لشرب قهوة، فاعتذر لأنه مرتبط بموعد في الفندق الذي يقيم فيه. وأصر علي أن نذهب معه لتناول القهوة في كافيتريا الفندق، قائلا:'الفندق أمامنا.. علي بعد خطوات'. وأشار بيده ناحية فندق 'لا سويس' La Suisse ولمحت ابتسامة ذات معني علي وجه فتحي نور تسألني: 'ألم أقل لك إن عبدالحليم اختار فندقا متواضعا؟! '. وصلنا الفندق.. وجلسنا حول مائدة في 'الكافيتريا'، وتطرق الحديث إلي أحوال مصر، والسينما المصرية، والأعمال التي يستعد لها عمر الحريري بعد عودته إلي القاهرة. ومرت دقائق.. ظهر بعدها 'العندليب' خارجا من باب المصعد، وبصره يجوب المكان بحثا عن شخص ما. ورفع عمر الحريري يده ليراها عبدالحليم حافظ الذي اتجه إلي مكانه، ثم توقف لحظة.. وظهرت دهشة علي وجهه عندما رآه جالسا مع شخصين لا يعرفهما.
وظلت
الدهشة،
والريبة، علي وجهه وهو يمد يده لمصافحتنا وبتقديم من عمر
الحريري. اختفت هذه
الملامح وظهرت ابتسامة عريضة عندما سمع اسمي، وبادرني مرحبا ومتسائلا: وجلس حليم معنا.. هذه أول مرة ألتقي به، وأتحدث معه، وجها لوجه. وجدته بشوشا، بسيطا، مجاملا، ومنصتا جيدا لتفاصيل الأزمة التي سببها لي منذ تلقيت برقية مصطفي أمين الأولي التي أشار فيهاإلي أن 'العندليب' سيعقد زواجه علي 'سندريللا' في جنيف . وركٌزت في حديثي علي مدي اهتمام مصطفي بيه بالخبر السري، وانتظاره للقصة كاملة، مصحوبة بعشرات الصور التي تؤكد كل كلمة منها! لم يعلق عبد الحليم علي ما أقوله، ولم يقاطعني.. واكتفي فقط بالإنصات والابتسامة العريضة علي وجهه، وتحوٌلت إلي ضحك وقهقة عندما بالغت في عدد الصفحات التي خصصها مصطفي بيه لنشر القصة، وأخبارها، وصورها، في كل إصدارات دار أخبار اليوم: الأسبوعية 'أخباراليوم'، واليومية 'الأخبار'، ومجلتا: 'آخر ساعة'، و'الجيل'. وعلت قهقهات عبدالحليم عندما قلت له إن مصطفي بيه ينتظر مني أن أجري حديثا منفردا معه، وآخر مع سعاد حسني، عن تفاصيل قصة الحب التي ستتوج خلال ساعات بالزواج. وأطرق عبدالحليم برأسه موافقا، مع استمرار احتفاظه بابتسامته العريضة، وهو ما شجعني علي البدء في طرح أسئلتي بدءا بسؤال: 'متي اتخذت قرار طلب يد الفنانة سعاد حسني؟'. فأجاب: 'الله.. دا أنت بدأت أهه! حلمك شوية واستني لما نقعد مع بعض.. مش مصطفي بيه طلب منك حديثا منفردا؟'. وبحسن نية، من جانبي، وافقت علي تأجيل الحديث متوهما أن عبدالحليم حافظ يريد أن يكشف عن أسرار مثيرة يخصني بها، ولا يسمعها أحد غيري .. مما ضاعف من سعادتي، وزادني ثقة في نفسي! ونزلت سعاد حسني من غرفتها، وتهادت في طريقها: مشرقة، باسمة، جميلة، لفتت أنظار الجالسين و الواقفين في بهو الفندق. لم تدهش سعاد بوجودنا فتحي نور، وأنا بصحبة عمر الحريري وعبدالحليم حافظ، ورحبت بنا وكأنها تعرفنا منذ سنوات. جلسنا مرة أخري.. وواصلت حديثي مع عمر الحريري وعبدالحليم، أما صديقي فتحي نور فقد انهمك في الحديث مع سندريللا التي كانت تسأله عن جنيف، وسكانها، والأماكن التي ينصحها بزيارتها، إلي أن نظرت إلي العندليب وسألته: 'مش نقوم نشوف البلد؟'. فوافق عبدالحليم، وقال لي: 'ما تيجي معانا تفرجنا علي جنيف'. ورحبنا أنا وفتحي بالدعوة التي كنٌا نتوقعها، وحتي لو لم يعرضها 'حليم' علينا، لطلبناها وألححنا عليها! فمصطفي أمين طلب مني ألاٌ أترك فنانينا إلاٌ بعد أن يدخل كل واحد غرفته للنوم! سألني عبدالحليم: ' هل نمشي أو نطلب تاكسي؟' فقلت: سيارتي موجودة'. ونظر عبدالحليم إلي السيارة وكانت بيضاء من طراز 'تاونس' وأبدي اعجابه بها، ثم علق قائلا: 'وعندك سيارة كمان؟ أنا ما شفتش في مصر صحفيين صغار السن مثلك عندهم سيارات آخر موديل'! وقمنا بجولة في شوارع المدينة، وعبرنا البحيرة إلي الجانب الآخر حيث تكثر المحلات الضخمة. متعددة الطوابق، إلي جانب عشرات 'البوتيكات' الصغيرة التي تعرض أغلي السلع، وأكثرها جمالا. تركنا السيارة وتجولنا أمام، وداخل المحلات.. خاصة ال: 'جراند باساج' الشهير الذي يبيع من الإبرة إلي أي شيء آخر يخطر علي بالك، ماعدا الصاروخ! كانت سعاد حسني أكثر اهتماما من عبدالحليم وعمر بالتوقف أمام كل ما يلفت نظرها فتمسك به لتتفحصه، ولا تقرر الشراء إلاٌ بعد أن تعرف السعر، بالفرنك السويسري، الذي تحٌوله في ذهنها إلي قيمته بالجنيه المصري، وعلي ضوء العملية الحسابية التحويلية تقرر الشراء أو الابتعاد عنه. وبالمناسبة: الجنيه كان يساوي وقتذاك مابين 8 إلي 10فرنكات، وانقلبت الأسعار فيما بعد ليقترب سعر الفرنك السويسري الآن من 5جنيهات. الساعات التي أمضيناها في شوارع، ومحلات، جنيف.. كانت فرصة لي لالتقاط عشرات الصور، وأتخيل اللقطات الطريفة التي سيختارها مديرو تحرير إصدارات دار أخبار اليوم لنشرها علي الغلاف، أو فردها داخل صفحات داخلية علي 6أو8 أعمدة بالتمام والكمال، وينشر اسمي بحروف كبيرة بنط 9/أسود ككاتب ومصوٌر.. معا! بعد انتهاء الجولة الشرائية، عدنا إلي السيارة محملين بالأكياس البلاستيكية ، ولفت صديقي فتحي نور نظري إلي أن عبدالحليم حافظ لم يشتر لنفسه إلا عددا كبيرا من 'البشاكير' مختلفة الألوان والأحجام، وسألني: ' هو ما فيش بشاكير في مصر؟!'. وطلب عبدالحليم أن نتجه إلي الفندق، لأنه يحس بالتعب.. فتخوفت من احتمال أنه يتهرب من الانفراد به لإجراء الحديث المتفق عليه، فقلت له: ' نذهب إلي الفندق بعد تناول الغداء'. ويبدو أن عبدالحليم تصوٌر إنني أريد منه أن يدعوني وصديقي لتناول الطعام، فلم يعترض وأجاب: ' طبعا.. سنتغدي في مطعم الفندق'. فاعترضت قائلا: ' بلاش الفندق.. سنذهب إلي مطعم متخصص في تقديم ألذ الأطعمة الإيطالية'. وأمعن عبدالحليم النظر في وجهي، ثم اتجه بصره إلي الآخرين، وقال: ' تصوري ياسعاد.. إبراهيم عايز يعزمنا علي الغدا'. في البداية.. لم أفهم ماذا يعني، ثم عاجلني بصدمة حقيقية عندما أضاف قائلا: ' هذه أول مرة في حياتي يعزمني فيها صحفي'! *** بعد تناول الطعام، اتجهنا إلي الفندق بناء علي طلب عبدالحليم ليرتاح، أو بعبارة أخري ليهرب مني! أمام مدخل الفندق اقترحت عليهم اللقاء في الساعة الثامنة، أو التاسعة، ليروا جنيف ليلا، بعد أن شاهدوها نهارا، وبالطبع.. كنت أخطط للقاء عبدالحليم، أو سعاد حسني، بعد انتهاء السهرة، وهو مالم يعترض عليه عبدالحليم قبل نزوله من السيارة، ورد قائلا: ' طبعا.. طبعا.. هذا يسعدني'. لعبة 'القط والفار' في الجولة الصباحية، تكررت بالضبط في الجولة المسائية. أحاديث متفرقة في أي شيء وكل شيء.. دون المساس من قريب أو بعيد بقصة الحب التي تفرغت أياما عديدة لجمع خيوطها. وما أكثر المرات التي حاولت فيها أن أميل علي أذن سعاد حسني لسؤالها، وكان عبدالحليم يسارع في كل مرة بقطع الحديث، وقطع الطريق علي الاقتراب من القصة المحظورة! وربما لاحظ عبدالحليم صمتي عن الكلام ، أثناء عودتنا إلي الفندق، فسألني مشجعا: ' هيه.. ناوي تودينا فين بكرة؟' وأجبت باقتضاب: ' زي ما انتوا عايزين'. وبذكاء شديد.. قال عبدالحليم لي، وهو ينظر إلي سعاد حسني نظرة ذات معني: 'عايزك لو سمحت توديني مع سعاد إلي أشهر جواهرجي في جنيف'. نظرت إلي 'سندريللا'.. ولا أدري لماذا تخيلت أني لمحت نورا يشع من وجهها؟! وإذا كانت سعاد حسني سعيدة بما قاله عبدالحليم، فأنا أيضا كنت مسرورا، ليس لهما فقط، وإنما لأن السبق الصحفي 'سكوب عالمي' لم يفلت من يدي.. كما حذرني أستاذنا مصطفي أمين. من الفندق.. انطلقت ومعي فتحي نور إلي أقرب مكتب بريد لأرسل برقية إلي الزميل العزيز الراحل الأستاذ منير نصيف رئيس قسم مراسلي أخبار اليوم في الخارج ليعرضها في صباح اليوم التالي علي مصطفي بيه، وتتضمن تفاصيل التفاصيل لما رأيته، وسمعته، وصوٌرته، لليوم الأول لعبدالحليم وسعاد حسني، مع إشارة واضحة 'فلاش' تدق له الأجراس إلي أن العندليب ينوي اصطحاب سندريللا لاختيار 'الشبكة' من أشهر جواهرجي في جنيف، مع وعد بإرسال التفاصيل وصورها مع أول طائرة تغادر المدينة إلي القاهرة. فلم يكن هناك حينذاك 'فاكس'، أو 'كمبيوتر'، وحتي المكالمات التليفونية الخارجية كانت لا تزال تترك للتمني! في صباح اليوم التالي.. كنت داخل بهو فندق 'لا سويس'، انتظارا لنزول عبدالحليم حافظ وسعاد حسني. شغلت نفسي خلال دقائق الانتظار بإعادة التأكد من صلاحية آلة التصوير، وتوافر أفلامها في جيوبي، وداخل سيارتي. اصطحبت 'العروسين' إلي الجواهرجي الشهير. سعاد ابتعدت قليلا وانهمكت في النظر إلي المجوهرات والحلٌي المنتشرة داخل المحل الكبير، أما عبدالحليم فقد طلب مني أن أسأل إحدي العاملات لتعرض عليه عقدا من الذهب الأبيض المرصع بالماس أو غيره من الأحجار الكريمة. وعندما قدمت البائعة بعض معروضاتها، لم يتحمس عبدالحليم لها، وتساءل: 'مافيش أحسن من كده؟'. وأعدت السؤال علي البائعة، فرحبت كثيرا.. واختفت من أمامنا لتعود وبصحبتها مدير، أو صاحب المحل، الذي جاء بما هو أجمل، وأشيك. وأغلي من المعروضات الأخري. نادي عبدالحليم علي سعاد حسني لتري ما نراه. توقفت أنظار سعاد علي عقد مذهل ومرصع بالماس كبير الحجم وحول كل ماسة تنتشر ماسات صغيرة ودقيقة تنبعث منها أضواء زرقاء تخطف الأبصار. وسألها حليم: 'هل عجبك هذا العقد؟'. وهزت رأسها: 'أحلي ما رأيت في حياتي'. وأمسك العندليب بالعقد، وأخرجه من العلبة الجميلة المغلفة بالقطيفة السوداء، ثم قدمه لسعاد لتضعه حول رقبتها. أخذت سعاد حسني العقد الثمين، ووقفت أمام أحد الأعمدة الخرسانية المغطاة بالمرايا لتري نفسها والعقد الماسي يتلألأ أعلي صدرها، بقدر تألق وجهها وملامح الفرحة والسعادة البادية عليه. ووقفنا جميعا حليم، وأنا، ومدير المحل، والبائعة نتابع الصورة علي المرآة الطويلة، وأجمعنا في تعليقاتنا علي جمالها، وأناقتها، وروعة العقد الذي يناسبها. أكثر من مرة سمعت عبدالحليم يكرر نفس السؤال لسعاد حسني : 'العقد عاجبك حقيقي .. يا سعاد؟' وفي كل مرة كانت سندريللا تكرر بدورها إبداء إعجابها الشديد بالعقد، مع إضافة أوصاف جديدة لجماله، وألوانه، ونقاء فصوصه. وسألني عبدالحليم عن رأيي، فأيدت رأيهما وإن نبهت عبدالحليم همسا إلي ثمن العقد المكتوب رقمه الكبير علي ورقة صغيرة، وبحروف يصعب قراءتها! سمع عبدالحليم الرقم، ولم يبد انزعاجا، أو تراجعا. وقال لي بصوت خافت: ' طبعا.. لا أحمل معي هذا المبلغ. وليس عندي حساب في سويسرا أو غيرها خارج مصر. وما خرجت به من مطار القاهرة من العملة الصعبة أنت أدري بقيمته'. وسألته متحرٌجا: ' وحا تعمل إيه؟'. وبدلا من أن يقول لي ماذا سيفعل في هذا المأزق، طلب مني أن أسأل مدير المحل هل يمكن إجراء مكالمة تليفونية خارجية مع جدة في السعودية؟ ورحب المدير بالطلب، وأعطيناه رقم التليفون، وذكره لموظفة التليفونات 'الترنك' لتتولي الاتصال بالرقم، ثم تحوٌل المكالمة للمحل. وبعد دقائق قليلة.. رن التليفون، وأعطي المدير السويسري السماعة لعبدالحليم، الذي علا صوته وهو يرحب كثيرا بمن طلب مكالمته في السعودية. رغم فضولي الصحفي.. إلاٌ أنني ابتعدت عدة خطوات، وانشغلت في الحديث عن العقد، وجماله، وحلاوته، مع سعاد حسني.. إلي أن سمعت عبدالحليم يطلب مني أن أسأل مدير المحل عن اسم البنك السويسري الذي يتعامل معه في جنيف. وأعطانا المدير اسم البنك المطلوب، وفضل عبدالحليم أن يعطي السماعة للمدير ليملي علي متلقي المكالمة في جدة، اسم البنك ورقم حساب المحل في فرعه بجنيف. وأخذ عبدالحليم السماعة مرة أخري ليواصل حديثه مع من لا أعرفه في السعودية. وبعد أن أنهي العندليب مكالمته، لم ينتظر أن أسأله ' إيه الحكاية؟'، وبالقطع لم يكن في نيتي سؤاله عنها، وبادرني متطوعا وقائلا: ' دا صديق لي سعودي، وطلبت منه أن يحوٌل المبلغ علي جنيف، وسوف أرده له عندما أعود للقاهرة'. لم أعلق.. فالأمر لا يحتاج إلي تعليق. وعدنا جميعا إلي استئناف الحديث عن العقد، وجماله، وأناقته.. خاصة مدير المحل الذي أسعده جدا أنه وقع علي 'زبون صقع'، يشتري العقد، بدون فصال، بدليل أنه طلب بسهولة وعبر مكالمة تليفونية سريعة تحويل السعر إلي حساب المحل في أحد بنوك جنيف.
انتهت
الزيارة.. وقلنا للجواهرجي المبتسم
دائما إننا سنعود إليه بعد أن يخطرنا في الفندق بوصول التحويل إلي حسابه.
وأتصوٌر
أني لمحت دهشة تساؤل علي وجه المدير السويسري عندما ذكرت له اسم الفندق
المتواضع
الذي يقيم فيه 'الزبون' الذي يتصرف كأحد أصحاب الملايين! فوجئنا بعبد الحليم يسأل سعاد، بمنتهي البساطة، ودون أن يظهر أي شيء علي وجهه، قائلا: ' العقد عاجبك.. لكن تفتكري إنه حا يعجب عليٌة؟!'. في البداية لم أستوعب السؤال الكارثة. فلا أعرف من هي 'الست عليٌة' التي ذكرها عبدالحليم ويهتم جدا برأيها في العقد الماسي؟ لم أسأل توضيحا.. لكنني رأيت الإجابة علي وجه سعاد حسني الذي اختفت منه الابتسامة والسعادة فور سماعها اسم: 'عليٌة'! لم تقل سعاد كلمة واحدة. وبسرعة رفعت يديها إلي خلف عنقها لتخلع العقد وتضعه في العلبة المفتوحة أمامها.. وكأنها ترميه وتتخلص منه! لا أعرف إذا كان عبدالحليم لاحظ التحٌول الهائل علي وجه سعاد حسني، من أقصي السعادة إلي أقصي التعاسة، أم لا. الذي رأيته أنه لم ينتظر ردا من سندريللا علي سؤاله الصاعق، واتجه إلي باب الخروج لنغادرالمحل لنركب السيارة. وبدوره .. تغير 'الجو' أيضا داخل سيارتي. ففي طريقنا إلي المحل كان 'الجو' مرحا، والضحكات لاتنقطع، وكلمات الود والمحبة المتبادلة بين حليم وسعاد لا تتوقف، وترحيب سعاد باقتراحاتي لزيارة أماكن معينة في جنيف بعد أن تنتهي مهمتنا الكبري لدي الجواهرجي .. أما في طريق العودة فقد تكهرب الجو داخل سيارتي، واختفت الضحكات، وساد الوجوم، ولم أسمع كلمة واحدة من سعاد تعليقا علي ما تسمعه من حليم الجالس في المقعد الخلفي، أو مني الجالس بجانبها أمام عجلة القيادة! طالت دقائق الصمت. واختلست بين الحين والحين نظرة إلي يميني حيث تجلس سعاد حسني، ففوجئت بدموع غزيرة تتساقط من عينيها، وكانت حريصة علي إخفائها عن عبدالحليم بصفة خاصة، الجالس في الخلف، لكنني رأيت دموعها.. مما صدمني وأحزنني حزنا شديدا. حاولت أن أغيٌر 'الجو' الخانق داخل السيارة، فسألت: ' تحبوا نروح فين الأول؟'. ولأول مرة بعد طول انتظار سمعت صوت سعاد، الذي لاحظت تغيٌر نبراته: ' علي الفندق لو سمحت'. لم يعلق عبدالحليم، ولم أجد ما أقوله. وأنزلتهما أمام باب الفندق، علي وعد بالاتصال فيما بعد. ذهبت إلي مكتب البريد، وأجريت اتصالا مع مصطفي أمين، ورويت له ما حدث قبل ذكر اسم 'الست عليٌة'، وبعده. وذهل مصطفي بيه قائلا: 'إيه ده؟ مش معقول'. وانتهزتها فرصة لأسأله : 'مين هيه الست عليٌة التي أبكت سعاد لمجرد نطق عبدالحليم بإسمها؟!'. ورد مصطفي أمين: 'عليٌة شقيقة عبدالحليم الكبري، وهو يحبها جدا لأنها كانت ولا تزال يعتبرها أمه التي ربته، ورعته، وظلت دائما إلي جانبه'. وفهمنا مصطفي بيه، وأنا أن الزواج لم ولن يتم، رغم كل المعلومات والمؤشرات خلال الأيام الأخيرة الماضية علي عقد القران في القنصلية المصرية بجنيف. حقيقة أنه لا عبدالحليم، ولا سعاد حسني، ذكرا كلمة واحدة تؤكد عزمهما علي الزواج. ولذلك فإنني لا أدين عبدالحليم بأنه خدع سعاد وأوهمها بالزواج، أو أنه تعمد إهانتها وفجٌر دموعها داخل محل الجواهرجي، بعد أن تصوٌرنا أنه سيشتري 'الشبكة' في حين أن ما اشتراه كان هدية لشقيقته الكبري 'عليٌة'. لا داعي أن أقول للقاريء العزيز أن السبق الصحفي العالمي الذي كنت أحلم به تبخر في الهواء. الذي يهمني أن أقوله، ويمكن استخلاصه من هذه القصة، أنني لا أعرف، ولا أملك، دليلا حتي اليوم علي أن العندليب تزوج من سندريللا أم لا. كل ما أعرفه هو فقط ماكتبته كشاهد عيان لمدة ثلاثة أيام بصحبة عبدالحليم حافظ، وسعاد حسني، والفنان القدير:عمر الحريري. كانت المؤشرات وليست الأدلة تؤكد عزم حليم وسعاد علي الزواج، ثم تبخرت هذه المؤشرات والتلميحات كلها.. في اليوم الثالث، وقبيل انتهاء الزيارة التي لا تنسي داخل محل أشهر جواهرجي في جنيف. أخبار النجوم في 24 مارس 2007
|