كتبوا في السينما

سألت الموسيقار الكبير الراحل كمال الطويل : لو امتدت الحياة بعبدالحليم حافظ وتجاوز السبعين من عمره ما الذي كان من الممكن أن يقدمه الناس في عصر 'الفيديو كليب'؟!

أجاب 'كمال الطويل' : سيقدم الفيديو كليب بأسلوب عبدالحليم!

تأملت كلمات كمال الطويل ووجدت أن سر عبدالحليم أنه كان ابنا للزمن الذي يعيشه، بل سابقا أيضا للزمن، يراهن علي الكلمة واللحن القادم، كنا نعيش في مطلع الخمسينيات ثورة سياسية وتحررا وطنيا، وجاء عبدالحليم ومعه كمال الطويل ومحمد الموجي وصلاح جاهين وانضم اليهم من الجيل السابق عليهم الشعراء مأمون الشناوي ومرسي جميل عزيز وحسين السيد فأحالوها الي ثورة عاطفية أيضا!

اطلق عبدالحليم باغنيته 'يا سيدي أمرك.. أمرك يا سيدي' التي غناها في فيلم 'ليالي الحب' أول احتجاج ساخر علي الاغنية التي كانت سائدة قبل الخمسينيات، فهو مثلا يقول: 'بحقك أنت المني والطلب' ثم يكمل: 'والله يجازي اللي كان السبب'! الكلمات كتبها فتحي قورة ولحنها محمود الشريف و'بحقك أنت المني والطلب' قصيدة شهيرة من تلحين الشيخ 'أبوالعلا محمد' غناها كل المطربين والمطربات وعلي رأسهم 'أم كلثوم' تلميذة الشيخ 'أبوالعلا'!

ويتابع السخرية بموشح أكثر شهرة وهو 'بالذي أسكر من عرف اللما' ويضيف: 'كان في حاله جاتله داهية من السما' والمقصود ب 'عرف اللما' الرائحة التي تخرج من الفم!

وفي النهاية يقول: 'خايف أقول علي قد الشوق لا تطلع روحي'!

يقصد أغنية 'علي قد الشوق اللي في عيوني يا جميل سلم' التي حققت في مطلع الخمسينيات شهرة غير مسبوقة!

وهذه الكلمات تستحق أن نسقطها علي هذا الزمن الذي تترصد فيه الرقابة لأية سخرية وتعتبرها اعتداء علي التراث القديم مثل بيت شعر 'امريء القيس': 'مكر مفر مقبل مدبر معا كجلمود صخر حطه السيل من عل' الذي كان يصف فيه 'امرؤ القيس'الفرس، وكنا ندرس هذه القصيدة في المرحلة الاعدادية رغم غلظة الكلمات التي تنفرنا من لغتنا الجميلة!

وهكذا كان المجتمع في الماضي يسمح بثورة ضد الجمود و'عبدالحليم' هو ابن شرعي لزمن التمرد!

في عام 1953 عند اعلان الجمهورية رسميا قال 'يوسف وهبي' في حفل لأضواء المدينة: اليوم تعلن الجمهورية ويعلن أيضا مولد مطرب جديد!

لهذا ارتبط اسم 'عبدالحليم' بالثورة المصرية وغني لها: 'ثورتنا المصرية عدالة.. اشتراكية'، تلحين 'رءوف ذهني' و'إني ملكت في يدي زمامي' تلحين كمال الطويل والقصيدتان من تأليف 'مأمون الشناوي'.. بعد تولي 'جمال عبدالناصر' رئاسة الجمهورية عني له من كلمات صلاح جاهين وتلحين كمال الطويل 'احنا الشعب اخترناك من قلب الشعب، يا فاتح باب الحرية يا ريس يا كبير القلب' وغني له من كلمات اسماعيل الحبروك وتلحين الطويل 'يا جمال يا حبيب الملايين' واستمرت رحلة عبدالحليم الوطنية مع الثورة، وفي نفس الوقت كان عبدالحليم حافظ زعيم الاغنية العاطفية في مصر والعالم العربي.

حلق عبدالحليم بجناحي الوطن والحب وغني للوطن في لحظة المد الثوري العربي وأيضا للحب حديث كان هو رسول العشاق بأغنياته.

وأدرك عبدالحليم من البداية أن صاحب الثورة ينبغي ألا يدخل في معارك مع الكبار قبل أن يشتد عوده، لهذا لم يستمر خلافه الاول مع محمد عبدالوهاب أكثر من عام، وذلك عندما تعاقد معه عبدالوهاب علي تقديم فيلمين مقابل مائتي جنيه للفيلم الواحد، وتقاعس عبدالوهاب عن التنفيذ خوفا من ألا يملك اسم عبدالحليم جاذبية للجمهور، وعندما جاءت الفرصة لعبدالحليم مع ابراهيم عمارة قدم فيلم لحن الوفاء ونجح الفيلم وارتفع أجر عبدالحليم الي ألف جنيه في ثاني أفلامه 'ليالي الحب' لكنه ارتضي بتنفيذ عقده مع عبدالوهاب مقابل مائتي جنيه حتي يكسب عبدالوهاب الي صفه ويشاطره نجاحه.. وبعد بطولة فيلم 'أيام وليالي' انتاج عبدالوهاب تحولا الي شريكين في شركة صوت الفن وكان الشاعر مأمون الشناوي هو صاحب مبادرة الصلح بين الطرفين فأصبح صوت عبدالحليم يدر ربحا علي عبدالوهاب وألحان عبدالوهاب تدر ربحا علي عبدالحليم!

ظل عبدالحليم يمتلك ترمومترا يدرك من خلاله الخطوة التالية فهو يقدم الاغنية المتطورة، وفي نفس الوقت ينبغي أن تحقق رواجا جماهيريا، لهذا التقط في عام 1957 الموسيقار الشاب بليغ حمدي وضمه الي رفيقي الكفاح الطويل والموجي وإلي الاستاذ محمد عبدالوهاب وإلي الملحن صاحب الالحان خفيفة الظل منير مراد هؤلاء كانوا هم القوة الغنائية الضاربة لعبدالحليم حافظ!

وعبدالحليم يستخدم أي سلاح للبقاء علي القمة والاستحواذ علي اللحن الاجمل. كان بليغ يجري بروفات أغنية 'تخونوه' التي كتبها اسماعيل الحبروك في معهد الموسيقي العربية لكي تغنيها ليلي مراد واعجب عبدالحليم باللحن وكان بصدد تصوير فيلم 'الوسادة الخالية' لصلاح أبوسيف واستوقفت اذن 'عبدالحليم' تلك المسحة المليئة بالشجن في لحن بليغ حمدي ولا يعنيه أن يغضب ليلي مراد ويستولي علي الأغنية ويحتل بليغ بعد 'تخونوه' مساحة مميزة علي خريطة عبدالحليم تصل الي حد الانفراد بكل أغاني عبدالحليم منذ منتصف الستينيات!

لاشك ان عبدالحليم في اصراره علي البقاء متربعا علي عرش الاغنية كان بين الحين والآخر يتعرض لمحاولات اقصائه أو استبداله أو علي أقل تقدير مشاركة العرش!

بدأت المحاولات مع كمال حسني هذا المطرب الذي وقفت وراءه المنتجة ماري كويني بعد ان رفض عبدالحليم أن يلعب بطولة فيلم لحساب شركتها لانه لم ينس لها أنها في مطلع حياته الفنية رفضت أن يصور أغنية من فيلم 'فجر' اخراج عاطف سالم وقالت للمخرج بعد ان رشحه ان وجهه ليس 'فوتوجينيك' واكتفت فقط بالتسجيل الصوتي!

لهذا انتجت لكمال حسني 'ربيع الحب' بعد عام واحد من تقديم 'لحن الوفاء' لعبدالحليم، وأكثر من ذلك لنفس مخرج لحن الوفاء ابراهيم عمارة ونفس البطلة شادية وصديق البطل عبدالسلام النابلسي ووقف الصحفي الكبير موسي صبري مؤيدا لكمال حسني الذي لم يستطع الصمود طويلا لانه كان مجرد تنويعة علي صوت عبدالحليم!!

وعندما اختلف حليم مع محمد الموجي اطلق الموجي أصوات 'محرم فؤاد' و'عبداللطيف التلباني' و'ماهر العطار' وصولا الي 'هاني شاكر' وبالفعل انزعج 'عبدالحليم' من صعود 'هاني' في مطلع السبعينيات خاصة بعد نجاح أغنية 'كده برضه يا قمر' التي لحنها له 'خالد الامير' بتوصية من 'أم كلثوم'!

وكان الرد العملي أن عبدالحليم أخذ بنصيحة كاتب كبير قال له: 'العيل يحاربه عيل' وقدم عبدالحليم حافظ للساحة الفنية 'عماد عبدالحليم' ليواجه به 'هاني شاكر'!

ربما كانت أكثر اللحظات التي عاش فيها 'عبدالحليم حافظ' القلق تلك التي شهدت تألق محمد رشدي وشعبيته الجارفة بعد أغنيات 'وهيبة' للأبنودي و'عبدالعظيم عبدالحق' ثم 'عدوية' للأبنودي و'بليغ حمدي'!

كان عبدالحليم يغني كلمات مغرقة في الشاعرية والتجديد كتبها الاخوان 'رحباني' ولحنها 'محمد عبدالوهاب' وهي 'يا شارع الضباب مشيتك أنا مرة بالعذاب ومرة بالهنا' و'محمد رشدي' يقول في 'ايديا المزامير وفي قلبي المسامير'!

أخبار النجوم في 24 مارس 2007