ضوء ... المطلوب من الناقد السينمائي عدنان مدانات |
صفحات خاصة
|
كتب الناقد السينمائي مؤكداً: “لقد استطاع المخرج أن ينقل بأمانة أجواء القرن السادس عشر”. فتساءلت بيني وبين نفسي: “وما أدراك أيها الناقد بأجواء القرن السادس عشر؟”، ذلك أن المفروض أن الناقد يفهم في السينما وليس في أجواء القرون المنصرمة حتى لو كانت الأجواء المصورة تخص مدينة تتالى أجداده على العيش فيها، فكيف إن كانت المدينة غريبة عليه كلياً؟ الناقد الذي يفهم في السينما وفي النقد يعرف أن العالم الذي تصوره الأفلام الروائية عالم مصطنع، عالم مقترح من قِبَل صانعي الأفلام، يستخدمون لأجل هذا الغرض ما يتفتق عنه خيالهم، ويدعمون هذا بما قد يتوفر لهم من مراجع ومصادر تاريخية، محاولين الوصول إلى أكبر قدر ممكن من الإقناع، غير أن هذا العالم لا يمكن أن يكون أميناً بدقته، بحيث يكون نسخة مطابقة لعالم قديم لا نعرف تفاصيله بدقة. قد يكون الناقد الذي اقتبسنا عنه أخطأ التعبير، وقد يكون استخدم العبارة عشوائيا. وفي واقع الأمر فإن الاستخدام العشوائي للمصطلحات والأحكام، هو، وللأسف الشديد، الغالب على الممارسات النقدية في وسائل الإعلام. يفتتح الناقد السينمائي مقالته حول فيلم شاهده بكلام يخاطب فيه القراء وكأنهم رفاق يجلسون معه حول طاولة واحدة بعد أن أنهوا للتو مشاهدة فيلم ما، فيكتب موجهاً لهم السؤال التالي: “هل تذكرون اللقطة التي تحركت فيها الكاميرا داخل الغرفة وابتدأت من لقطة قريبة لمصباح على الطاولة ثم توجهت نحو المقعد وارتفعت قليلاً لتبين ستارة النافذة ثم انحرفت في لقطة متوسطة نحو...”. الناقد الذي يفهم في السينما لا يفعل ذلك ولا يخاطب قراءه بهذه الطريقة غير الديمقراطية التي تشعرهم بالقصور كونهم، بالتأكيد، لم ينتبهوا بهذه الدقة وهذا التركيز لحركات الكاميرا، ولم يركزوا عليها بمعزل عن عناصر اللقطة الأخرى: الممثل، الحوار، اللون، الموسيقى، الملابس، وغير ذلك من عناصر متنوعة متكاملة تحتشد بها اللقطة. الناقد الذي يفهم في السينما يعرف أن براعة المخرج تكمن في صهر كل هذه العناصر معا بحيث لا تلاحظ كعناصر منفردة ويكون تأثيرها على المتفرجين نتاج هذا الانصهار. يكتب الناقد عن الفيلم الذي لم يعجبه كثيرا وهو تحت هاجس تحديد النواقص أو الأخطاء التي لاحظ وجودها في الفيلم فيخط قلمه الملاحظات التالية: “كان على المخرج أن يفعل كذا وكذا، أو، كنت أتمنى لو أن المخرج صور المشهد بطريقة...” الناقد الذي يكتب مثل هذا ينسى انه ليس مخرج الفيلم فيضع نفسه في محل المخرج. يحاول الناقد السينمائي أن يبهر القراء بسعة معرفته عن طريق الإكثار من استخدام المصطلحات النقدية بمناسبة ومن غير مناسبة، فيختلط عليه الأمر أحياناً ويكتب معلقا على فيلم ما: “كان البناء الدرامي في الفيلم مفككا غير أن المشاهد كانت مترابطة”. وهناك احتمالان لتفسير مثل هذا التناقض في الحكم. الاحتمال الأول أن الناقد تسرع ولم ينتبه لما كتب، أما الاحتمال الثاني فقد يكشف عن جهل الناقد بالنقد والنظرية والمصلحات النقدية، وإلا كيف يمكن أن تكون المشاهد مترابطة فيما البناء الدرامي مفكك؟ ينبهر الناقد السينمائي بفيلم شاهده فيكتب تعليقه عن الفيلم وكأنه يكتب قصيدة غزل: “فيلم لذيذ يطوف بنا في فضاء من الجمال ويغوص في أعماق الروح ليرسم لوحة أخاذة حول الوحدة الإنسانية والحب المفقود”. لا يجوز للناقد الذي يفهم في السينما أن يصوغ هذا الكلام الفضفاض الذي لا يقول شيئاً دقيقاً خاصاً بفيلم محدد، بل يمكن تدويره وتطبيقه على أي فيلم آخر، لا يجوز للناقد الذي يفهم في السينما أن يكتب كلاما لا يقدم معرفة للقارئ بخصائص الفيلم ولا يزيد من وعيه أو ثقافته السينمائية. الناقد الذي يفهم في وظيفة النقد يعرف أن القارئ معني بالدرجة الأولى بالفيلم وليس بمشاعر الناقد الشخصية. الناقد الذي يفهم في السينما لا ينبهر بالأساطير التي تخلقها وتعممها على العامة من المشاهدين آليات الدعاية والترويج المصاحبة لصناعة الأفلام، الأساطير التي تجعل من ممثل ما نجما يجب الإعجاب به والاهتمام بأي فيلم جديد يمثله، وذلك بغض النظر عن تفاهة العديد من الأفلام التي يمثلها وخواء الأدوار التي يؤديها وتسطيح الشخصيات التي يقدمها، الأساطير التي تروج لمخرج سينمائي ما صنع ذات يوم، وربما بالصدفة، فيلما فيه إبداع، لكنه عمل بعد ذلك في إخراجه للأفلام وفق آليات إخراج معتمدة من قبل شركات الإنتاج والتوزيع، الأساطير التي تروج لفيلم ما، إما لكونه حصد جوائز في مهرجان ما، أو لأنه من صنع مخرج سبق الترويج له، أو بسبب نجاحه الجماهيري. لا يجوز للناقد الذي يفهم في السينما أن يقصر معرفته وخبرته السينمائية على نمط سينما واحد أو على أفلام تنتمي لصناعة سينمائية معينة، ويتجاهل وجود سينمات مختلفة تنتج وفق معايير وشروط مختلفة في كافة أرجاء المعمورة وتقدم منجزات إبداعية متميزة، أو، في الحد الأدنى، تعرفنا على سينما مختلفة عن السينما الرائجة. لا يجوز أن يكتفي الناقد الذي يفهم في السينما بتتبع ومشاهدة كل ما يستجد من أفلام، من دون أن يبذل الجهد الكافي لدراسة ما تم إنجازه عبر تاريخ السينما كله ولمشاهدة، في أقل تقدير، أبرز الأفلام التي شكلت عناوين لمراحل واتجاهات ومدارس سينمائية. لا يجوز للناقد السينمائي الذي يفهم في السينما أن يكتفي بمعرفة الأفلام ويتجاهل النظريات التي سعت لفهم وتفسير السينما. وأخيرا، وبالنظر لكل هذه الملاحظات المتعلقة بآراء مقتبسة عن نصوص، من المفيد التفريق بين مهنة النقد السينمائي ومهنة الكتابة عن الأفلام. الخليج الإماراتية في 24 مارس 2007
|