سينماتك

 

سينما جيم جارموش:

من الترحال إلي فيلم الطريق

بقلم: ستيفان بنعايم    ترجمة : صلاح سرميني

 

 

 

 

ما كتبته

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

 

صفحات خاصة

أمين صالح

عبدالقادر عقيل

يوخنا دانيال

 

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

 

أرشيف

إبحث في سينماتك

 

سجل الزوار

إحصائيات استخدام الموقع

 

 

 

سينماتك

 

من بين التيمات المُتجسّدة في تاريخ السينما، هناك واحدةٌ تبدو معاصرةً، وفي حالة تطور دائم، ألا وهي الهيام، والترحال.

وبالتوافق مع صورة الموضوعات التي تعالجها، تتموقع سينما الترحال في حالة تمردّ بالمقارنة مع أفلام أخري ذات أساليب محددة، ولأنها تتأرجح دائماً بين حدود مختلفة، تبدو هذه السينما صعبة الإمساك.

عندما نتحدث عن سينما الترحال، تواجهنا مشكلتان رئيسيتان:

ہ ما هو الترحال في السينما؟

ہ وبافتراض أن هذه السينما موجودة، ألا تبحث علي إقصاء، أو تفريغ الحكاية من الفيلم ؟

يبدو أن الترحال في السينما صعب التصنيف، لأنه يتشارك مع تيمات متعددة: الرحلة، البحث، التجوال، الحرية...

والترحال، هو فيلم الطريق أيضا ((Road movie، هذا الأسلوب السينمائي الذي بدأ في الولايات المتحدة فترة السبعينيّات، منفتحٌ علي كلّ الأنواع، من الويسترن إلي الفيلم البوليسي، ومن الفيلم الاجتماعي إلي الكوميدي.

وفي مواجهة تعددية الأنواع هذه، يمكن التساؤل فيما إذا كان (فيلم الطريق) أسلوباً سينمائياً قائماً بذاته.

لقد حظي التشرد، والتسكع بالشهرة في الستينيّات، بعد أن عرفا لحظات من الانتصار، والفخر مع شارلو (شارلي شابلن).

تسمح تيمة الترحال بسرد شعري، وتقديم الشخصيات الهامشية في المجتمع، إنه هروبٌ نحو الأمام، بحثٌ عن الحرية، عن الذات، والآخر.

عند سينمائيين مثل غودار، وفيندرز ، نجد هذا المعني متجلياً في كلّ أشكاله، إنها أيضاً حالة (جيم جارموش)، والذي من فيلمه (أغرب من الجنة Stranger than Paradise) إلي (قطار الغموض Mystery Train)، مروراً بـ(ساقط بحكم القانون Down by Law) اهتمّ بمشكلات الفرد، وعلاقته مع الآخرين، وهو يعترف بأنه مهووسٌ بهذه التيمة.

ويبدو أن البحث عن سعادة غير مؤكدة وهشّة تجمع كلّ شخصيات هذا السينمائي الأمريكيّ الشاب، وإلي مفهوم الترحال، يُضاف أيضاً (فيلم الطريق) العزيز جداً علي (جيم جارموش).
تصبح الطريق، والإسفلت أماكن مفضلة، حيث يلتقي الأفراد، ويجربون أن يتعارفوا، ويحاولون أن يتحابوا، وفي بعض الأحيان، يتمزقون.

ويتطور هؤلاء الأبطال ـ الضدّ في عالم فقد حقيقته، حتي ولو كانت العقبات نفسها حقيقية.

ويتضمن الترحال مفهوم (الرحلة)، والتي تشير بدورها إلي الطريق، والذي يعني الفضاء، ومن أجل الترحال، تحتاج الشخصيات إلي فضاء ما، لأنه شكل من أشكال الحرية، هذه الحرية التي يطالب بها المُتسكع، أو المُتشرد، توضحت بدايةً كمطالب اجتماعية في الولايات المتحدة مع جيل الـ bea (الجيل البوهيميّ)، وفيما بعد، أصبحت صرخةً تُدين، وتشي (الحياة علي الطريقة الأمريكية).

اليوم، سياسة، ونقد التفاوت الاجتماعيّ أخلت المكان لسينما ترحال أخري، خطيرة دائماً، وعميقة، ولكنها أكثر قرباً من الفرد في علاقاته مع الآخر.

ولأنها أصبحت أكثر فأكثر حميميةً، تخلصت هذه السينما من القصة، والحكاية، والشخصيات عديمة الفائدة، كي تصل إلي بناء أكثر بساطة ًمع اقلّ العناصر المُمكنة.

لا يمتلك الأفراد الذين يظهرون علي الشاشة ماضيا، ويتحدد مستقبلهم بانتظار الغد، ولا يعرف هؤلاء الأبطال ـ الضدّ الحبّ، وصداقاتهم معدومة، أو وقتية، ولتحطيم صيرورة الطريق، فإن بعض المراحل تقطع الرحلة في بارات الفنادق الصغيرة المُنتشرة علي طول الطريق، حيث الأماكن تتشابه، وتُذكر الشخصيات الرئيسية لماذا هربوا.

لقد أوحي الترحال بصورة أيقونية كاملة، أكانت تشكيليةً، أو فوتوغرافية، وفيها أمريكا مصدر لا ينضب.

إنه من الفضول الانتباه إلي أيّ حدّ منح الترحال ولادة أسلوب خاصّ، يمكن تسجيله كحركة فنية قائمة بذاتها، علي نفس القدر من التعبيرية، أو السوريالية، وتتوّجب الإشارة إلي هذا التوجه، لأنه يوجد الآن منذ أكثر من ثلاثين عاماً.

ولشرح هذه الظاهرة، بعيداً عن نوعية العمل الجمالي، والبحث الفني المُتجسّد عن طريق المبدعين، فإن الموضوع نفسه يبقي معاصراً، الوحدة، ومشاكل الاندماج في مجتمع ما، والاختناق المديني....هي دائماً، وأكثر فأكثر موضوعات راهنة، ومن أجل هذه الأسباب، يظل الترحال في الصدارة، ولم تُحسب بعد نجاحاته عبر الإبداع الفني.

راعي البقر الوحيد (I am a poor lonesome cow-boy كما غناها لوكي لوك) حلّ مكانه (المُتجول النموذجي) للسبعينيّات، ومن ثمّ اُستبدل بـ(ضائع) الثمانينيّات الأكثر صعوبة في تمييزه من بين السكان عن سابقيه.

اليوم، الشخصية الهائمة، هي أكثر من أيّ وقت مضي، هامشية، ولكن، لا يوجد ما يُميزها عن الآخرين.

لم تعد تمتلك شعراً طويلاً، وتركت الخطابات الطويلة عن البورجوازية، أو الحقوق المدنية، للسود، ولا يبدو أن هناك أيّ شيء يؤثر بها، ومع الوقت، صنعت حول نفسها قوقعةً، وبنت سجنها الخاصّ كي تكتسب مناعةً ضد تأثيرات، واعتداءات العالم الخارجي.

يسيطر هؤلاء الأفراد علي روح (جارموش)، ويسكنون أعماله، لقد بدأ بحثه السينمائي عن الترحال في عام 1980 مع فيلم لم يكن معروفاً وقتذاك في فرنسا (Permanent Vacation عطلة دائمة).

مع الهيام النيويوركي لصبيّ، صنع (جارموش) فيلماً عن الوحدة، والجنون :

(كلّ الناس يعيشون في حالة من الوحدة، ولهذا السبب، فإنني أنساق مع التيار، ويعتبرون ذلك جنوناً، ولكنه من الأفضل الاعتقاد بأننا لسنا وحيدين، بينما نحن فعلياً كذلك، عن إدراكنا بأننا وحيدون في كل وقت، هناك أشخاص يستطيعون قضاء أوقاتهم في تحقيق طموحاتهم، واستمتاعهم بعملهم، ولكنها ليست حالتي، يعتقد الناس الذين مثلي بأنهم مجانين، كل الناس يعتقدون ذلك، بسبب طريقة معيشتي، هي ربما معرضة للخطر، ولكنها الطريقة الوحدة التي أعرفها).

يدعم (جارموش) صورة البطل الوحيد، المُتجول، في حالة قطيعة تامة مع العالم الحقيقي. بعد هذا الفيلم المُحيّر حول الفراغ المطلق، يستعيد المخرج تيمة الوحدة، والترحال، ولكن، في هذه المرة، يصبح المتفرج طرفاً في الرحلة.

وبينما ينتهي (Permanent Vacation عطلة دائمة) مع انطلاق الصبي في سفينة، فإن (Stranger than Paradise أغرب من الجنة)، و(Down by Law ساقط بحكم القانون) هما حكايتا رحلات، وتجوال.

ومع (Mystery Train قطار الغموض) نعثر علي ترحال أكثر دائرية حيث تتوقف الشخصيات للحصول علي وقت مقتطع للاستراحة، وتعيش مرحلةً ما بين رحلتين.

يتطرّق عمل (جيم جارموش) لمواضيع مختلفة في سينما الترحال، و(فيلم الطريق) بأسلوب أصيل، سينما تُوصف بأنها بسيطةٌ بقدر الإمكان Minimaliste.

والمخرج يوضح النماذج الأساسية لسينما الترحال :

ـ تشظيّ الحكاية، والنظام السرديّ الروائي للفيلم.

ـ الاعتماد علي أبطال منفصلين عن الواقع.

ـ الهامشية.

ـ الوحدة.

ـ عدوانية العالم الخارجي، ومشاكل التواصل مع الآخرين.

يشير الترحال أيضاً إلي (الرحلة الثابتة)، كما (الرحلة الحقيقية)، ومع الثانية، يكتسب (فيلم الطريق) معناه الكامل، هذا المصطلح، وعلي الرغم من صعوبة ترجمته من الإنكليزية إلي الفرنسية، يؤكد وجود نوع سينمائي قائم بذاته، وبينما يتجسّد مفهوم الرحلة عند مخرجين مثل (فيم فيندرز)، و(أنجلوبولوس)، يظل معني (فيلم الطريق) مُعتماً، وحتي مُطلقاً، ولم يأخذ نصيبه من الشرح، والتحليل في الأدبيات السينمائية.

سوف يكون تعسفياً شرح تطوره بطريقة تسلسلية، منذ ظهوره في الولايات المتحدة فترة الستينيّات، وحتي يومنا هذا، ومع ذلك، يمكننا التفريق بين (فيلم الطريق) لجيل الـ(bea الجيل البوهيميّ)، واختلاف مفهومه مع الجيل الحاضر، فالعوامل لم تعدّ نفسها، والشخصيات التي تجسّدت في تلك الأفلام قد تغيرت بدورها.

مع (فيلم الطريق)، لم تعد الرحلة وسيلةً، لقد أصبحت هدفاً، وغايةً، ويجب علي الشخصية أن تسافر، ولا تبقي في مكانها، لأن غياب الانتقال يعني الموت.

كلّ وسائل الانتقال ممكنة: الدراجة النارية، السيارة، الشاحنة، الدراجة الهوائية، القارب، الطائرة، القطــار، والمشي، وهي تسمح للشخصية برحلة متواصلة، وتفرض علي الكاميرا تحركاً واسعاً (حركات بانورامية من 180 إلي 360 درجة، ترافلينغ متعددة حتي تتابع المركبات، والأفراد).

تسمح الشخصية الهائمة، ومسيرتها بتطوير (سينما شعرية)، حيث سيولة تمازج اللقطات المُتتابعة، وبساطة الحركات، تخبئ عملاً جماليا، ودقةً في تكوين الصورة.

وعلي العكس من شخصيات (فيم فيندرز)، فإن شخصيات (جيم جارموش) ليس لها ماض، والمُعاش لا يؤثر في أيّ حال من الأحوال علي الحكاية، فالمخرج يمنح الأولوية إلي اللحظة.

التجوال الألماني المُتجسّد عند (فيندرز)، أو (هيرتزوغ) يمنح المكان للتسكع في المدينة، بينما يفضل (جارموش) الأماكن العادية جداً (أيّ مكان ما)، حيث تصبح البيئة ظاهرةً مادية لسيكولوجية الشخصيات. الرحلات، والهروب للأمام تتحول إلي استبطان الأنا، وتشي بتعقيد العلاقات بين الأفراد.

لا تمتلك الرحلة تلك الدلالة المُرتبطة بالأخلاقيات اليهودية ـ المسيحية، وليس بالإمكان التفكير بما يشبه طريق الخلاص، مُرقطاً بالعقبات، أيّ مسلكاً استغفارياً.

يتطرّق (جارموش) للانغلاق الأخلاقي، والذي يجعل التواصل صعباً، حيث تشكل الإنشاءات المدينية العناصر الفيزيائية لهذه الصعوبة، وبدورها، العلاقات الأكثر تعقيداً من الأبطال المُتجذرين في حالة بحث عن هويتهم الذاتية.

الأماكن المُتتالية عدوانية، ويبدو أن المدن فارغة من أيّ حياة، عندما يتوقف المتسكع وقتاً للراحة، تظل اللقاءات نادرة، وتوشك حقيقة العالم علي الاختفاء، تتوضح قطيعة بين المجموعة البشرية، والشخصية الهائمة، عطشها للحرية، والفضاء، يحكم عليها بالوحدة، ومع ذلك، تحتاج إلي هذا الفضاء الذي يجعل الرحلة ممكنة.

يتوضح الهروب، والترحال مسبقاً في العهد القديم (هروب الشعب اليهودي خارج مصر، وترحاله لمدة أربعين عاماً في الصحراء)، وفي الأوديسة (ترحال اوليس لمدة عشر سنوات).

لقد أوحت الرحلة لشعراء، وكتاب كثيرين : فينيلون، بودلير، رامبو، مالارميه، شاتوبريان..
إنها تيمةٌ قديمةٌ، ظهرت بكلّ أشكالها : الرحلة الحقيقية، الرحلة المُتخيلة، الرحلة كهروب....

في (فيلم الطريق)، الهدف الحقيقي لرحلة ما ليس الوصول، ولكن، الرحلة نفسها، حيث الطريق يمتدّ علي مرمي البصر، وكلّ الاتجاهات ممكنة، إذ لم يعد للعالم حدود، في هذه الرحلة بدون نهاية، وبينما المناظر تتبدل، ظاهرياً فقط، لأنها تُعيد إلي نفس الفراغ، فإنّ الشخصيات لا تتغير، المدن، الريف، الطرق السريعة، السكك الحديدية، المحطات، والمستودعات هي أماكن ما تتوالي علي إيقاع الترحال.

تشهد هذه الفضاءات الشبحية علي الفراغ الداخلي للأبطال، وتتعارض الرحلة المادية بقوة مع الجمود الداخلي.

مع مرور الزمن، أثبتت تيمة الترحال دوامها، ولكنّ السينما لم تقدم لها سلطتها في الاكتشاف فحسب، ولكن، الحركة أيضاً، والتي لا يمكن أن يتحقق الترحال بدونها.

ہ دكتوراه في علوم وتقنيات الفنون، محاضرٌ في جامعة سان دوني، باريس

من الترحال إلي (فيلم الطريق) في أعمال جيم جارموش

جزء من أطروحة الدراسات المعمقة DEA، والتي أنجزها (ستيفان بنعايم) في عام 1995.

القدس العربي في 23 مارس 2007