السينما.. بين ذات المخرج وهوية الأمة بقلم : عدنان مدانات |
صفحات خاصة
|
ثمة مخرجون سينمائيون يتميزون بأسلوب خاص يطبع أفلامهم بطابعه ولا يخفى عن عين المشاهد الخبير. ثمة أفلام سينمائية تنتج ضمن أمة معينة وتنتمي إليها وتعبر عن روحها فيسهل تمييز انتمائها إلى الأمة، إلى ثقافتها أو حضارتها فتضاف هذه الأفلام إلى إنجازاتها. وثمة أفلام تنتج في أرجاء العالم كافة، لا تحمل بالضرورة خصائص تربطها بأمة محددة أو بتراث حضاري بعينه، غير أن ثمة ما هو مشترك يجمع ما بينها وهو أنها تتشابه في كونها تعبر عن روح العصر، لذلك يتقبلها المشاهدون في مختلف الأمكنة ويعدّونها غير غريبة عنهم وجزءا من عالمهم. تتسم جميع فئات تلك الأفلام بالأصالة.. أصالة المخرج بالدرجة الأولى. والأصالة في جانب كبير منها تعبير عن الروح الإبداعية، الروح الإبداعية التي تجسد فكر المخرج ورؤيته الذاتية، أو استيعابه وهضمه لحضارة أمته، أو وعيه للعصر الذي يعيش فيه. إشكالية الأصالة، بوصفها نوعا من التعبير عن الروح الإبداعية، واحدة من الإشكاليات الكبيرة في عالم صناعة الأفلام السينمائية. فالسينما، من بين كل الفنون والآداب الأخرى، هي الأكثر ارتباطا بتقنياتها أو ارتهانا لها، بحيث تحتاج الأصالة، من ضمن أمور كثيرة تحتاج إليها، ومن ضمن اعتبارات متنوعة تضطر لمراعاتها، إلى تجاوز اشتراطات واستحقاقات التقنيات السينمائية، تقنيات كاميرا التصوير بشكل خاص، والتي باتت عالمية وعمومية ولها خصائص فيزيائية مستقلة عن ذات المخرج، لدرجة أن بعض الباحثين السينمائيين المتطرفين عدّوا في وقت من الأوقات أن الكاميرا السينمائية، بحد ذاتها، وبوصفها نتاج الصناعة المتطورة والعصر الرأسمالي، تمتلك أيديولوجيتها الخاصة بها. سؤال الأصالة واحد من الأسئلة المركزية المطروحة أمام السينما العربية الجديدة، وخاصة مع تزايد مشاركة الأفلام العربية في المهرجانات السينمائية الدولية وتنامي الاتجاه نحو الإنتاج المشترك مع الدول الأوروبية، مما يمهد لدخول الأفلام العربية الجديدة أسواق العرض العالمية، وبالتالي يضعها في مواجهة جمهور جديد، عالمي، يتكون من مشاهدين ينتمون إلى ثقافات مختلفة، وهذا بدوره قد يؤثر، عن وعي أو بشكل عفوي وتلقائي، في خيارات المواضيع والأفكار الممكنة لمشاريع الأفلام المأمول إنتاجها. وهذا الجانب الأخير، كما هو معروف يثير الكثير من التحفظات حول هذا النمط من التوجه الإنتاجي الذي يتهم بأنه يجير الأصالة الإبداعية لصالح احتياجات السوق الجديد ورغبات أو اهتمامات الممول. لكن الأصالة في السينما لا تقتصر فقط على الروح الإبداعية التي تعكس رؤية المخرج الفنان المتميزة، ولا على التوجه نحو تجسيد هوية حضارية أو معالجة المواضيع المحلية وهموم الإنسان المنتمي إلى ذات الواقع والبيئة عن طريق قصص مستنبتة من الواقع المعاش، بل تشمل، إضافة إلى ذلك، القدرة على التعبير عن خصوصية المجتمع والبيئة، حتى في حال القصص التي يتم اقتباسها من الأدب العالمي، وكذلك حتى في حال تأثر المخرج بأساليب وأنماط سينمائية شائعة أو بأسلوبية مخرج عالمي ما. يقدم لنا فيلمان عربيان أنتجا في السنوات الأخيرة، هما فيلم أرض الخوف للمخرج داود عبد السيد، وفيلم مافيا للمخرج شريف عرفة، فرصة للمقارنة بين طريقتين متناقضتين في التعامل الإبداعي، الفني والفكري، مع نوع فيلمي واحد، يستعير الهيكل التقليدي الذي تتأسس وفقه بعض أفلام الحركة الأميركية التي تتخذ من حكايات العصابات المنظمة، وخاصة عصابات المافيا، منطلقا لها. يتميز أحد هاذين الفيلمين بالأصالة، أما الفيلم الآخر فمجرد تقليد لأفلام الحركة الأميركية يفتقد الأصالة. الأصالة هي ما يمكن ملاحظتها بوضوح، حسب اعتقادي، في تجربة المخرج المصري داوود عبد السيد في اتكائه على الحبكة البوليسية، وكذلك على الشكل البوليسي في فيلمه أرض الخوف، الذي يروي قصة ضابط شرطة تكلفه جهة عليا باختراق عصابات المخدرات وأن يصبح عضوا فيها قادرا على العمل من داخلها كرجل عصابات موثوق به، وذلك كي يتمكن من تقديم التقاريرعنها إلى السلطة. استطاع داود عبد السيد أن يطور هذه الحبكة البسيطة، ليجعلها تعبر عن فكر فلسفي يتأمل في قضية الإنسان والوجود عامة، والإنسان المصري -أو حتى العربي- خاصة، في علاقته بالمجتمع المصري بما فيه من عادات وتقاليد وما تسوده من مفاهيم مميزة تلعب العقيدة الدينية دورا كبيرا في تشكيلها، وكذلك في علاقة الإنسان المصري بالسلطة. كما استطاع داود عبد السيد أن يطور هذه الحبكة البوليسية وان يجعل العلاقة بين العصابات المحلية والعصابات الدولية داخل الفيلم، تعبر عن هيمنة الاحتكارات العالمية العابرة للقارات على مصائر الدول النامية، أي أنه قدم من خلال فيلمه تفسيره الخاص للوضع الاقتصادي العالمي المعاصر الذي يختصره تعبير العولمة. والأهم من ذلك كله أن داود عبد السيد قدم للمشاهدين فيلما محلي البيئة، ويظل في أساسه مصري النكهة، مصري الشخصيات والمادة والموضوع والفكر والهوية والقضية. أما فيلم مافيا للمخرج شريف عرفة، الذي تم إنتاجه في العام 2002، والذي عدّته الصحافة السينما إنجازا للسينما المصرية الشابة، فهو يسير في اتجاه مناقض للاتجاه الذي سار فيه داود عبد السيد في أرض الخوف. فهو مجرد فيلم تجاري يحاكي أفلام الحركة البوليسية على الطريقة الأميركية، ومن الواضح أن مخرج الفيلم لم يطمح إلى أكثر من أن يكون فيلمه في، أو قريبا من مستوى أفلام الحركة الأميركية من حيث التنفيذ الإخراجي، أو بالأحرى أن يكون تقليدا ناجحا لها، لهذا يمتلئ الفيلم بمشاهد مطاردة السيارات وبمشاهد القتال التي تستخدم فيها مهارات القتال اليابانية والمعارك التي يستخدم البطل الخارق فيها الأسلحة بشكل غير معقول ويقضي على خصومه منفردا. يحكي عن تجنيد المخابرات المصرية لشاب مصري يعيش في أوروبا ويعمل مع عصاباتها، لكي يعمل لحساب المخابرات المصرية من أجل القضاء على العصابة العاملة داخل مصر. وعلى الرغم من أن مهمة البطل تتحقق لصالح وطنه أو بالأحرى لصالح مخابرات بلده، وعلى الرغم من مشهد مفتعل ومقحم على الفيلم نرى فيه نجما سينمائيا يحدث معجبيه من الفلاحين عن حب الوطن، إلا أن الفيلم لا هوية فنية وطنية له ولا خصوصية وطنية لموضوعه، وبتعبير أدق، لا أصالة فيه ولا روح. ويتجلى غياب الأصالة في هذا الفيلم لا فقط من خلال الإخراج المقلد لطرق الإخراج في النوعية المماثلة من الأفلام الأميركية، بل أيضا في انه يقلد البنية الميلودرامية السائدة حتى في السينما التجارية المصرية. وهذا الغياب للأصالة يعكس مفارقة حادة: ففي حين أن الفيلم يحاول من الناحية الإخراجية، على الأقل، تقليد تقنيات اخراج عالمية أرقى، فهو من الناحية السردية والبنية الدرامية والمستوى الفكري يسير على خطى سينما محلية متخلفة دراميا وسطحية فكريا. يحيل فيلم مافيا إلى مفارقة أخرى. فإذا كان فيلم مافيا بتقليده لتقنيات السينما الأميركية، يطمح لن يكون في مستوى السينما العالمية، فإنه لن يصل إلى العالمية فهو لا يقدم جديدا ولا شيء يميزه عن مئات الأفلام التي تنتمي إلى هذا النوع من السينما التجارية الترفيهية الاستهلاكية، والتي يفوقه معظمها من حيث التقنيات والمهارة الحرفية. هذا في حين أن فيلما أصيلا مثل فيلم أرض الخوف يملك إمكانية الوصول إلى العالمية. * ناقد سينمائي أردني الرأي الأردنية في 23 مارس 2007
|