«أحلام» محمد الدراجي في صالة هولندية... حين يتحول المكان ذاكرة عصية على المحو لاهاي - صلاح حسن |
صفحات خاصة
|
كيف يمكن لمخرج سينمائي شاب أن يصنع فيلماً عن بغداد لحظة سقوطها، وحيداً بلا شركة منتجة ولا كاتب سيناريو ولا مصور؟ والأكثر من ذلك بلا حماية من نيران المحتل الأميركي ونيران عصابات النهب أو القتلة؟ هذا السؤال ظل يلح على المرء بعد الخروج من صالة العرض التي استضافت الفيلم في مدينة لاهاي. السؤال الأخر هو إن الفيلم استغرق عرضه ساعة وخمسين دقيقة ما يعني إن تصويره استغرق أضعاف مدة العرض مئات المرات في أوضاع أقل ما يقال عنها أنها غير منطقية. على ضوء ذلك ينبغي لنا أن نتابع الفيلم وكيف صنع من دون أن نجرده من المناخات التي رافقت صناعته بكل سياقاتها الأمنية والفنية والتقنية، خصوصاً أنه الفيلم الأول للمخرج محمد الدراجي الذي قام بكتابة السيناريو والتصوير أيضاً. يبدأ الفيلم في اليوم الثاني لبدء القصف الجوي لمدينة بغداد بمشاهد سريعة حيث تتنقل الكاميرا لتتابع القذائف والصواريخ الرهيبة التي أمطرت كل مكان في المدينة. ولعل المشاهد سيصاب بالرهبة لأن القنابل الكثيفة سوف تمحو المدينة من الخريطة. هذا هو الانطباع الأول، غير إن من يعرف بغداد المدينة سيتوقف للحظة ويتأمل بغداد المكان أولاً وبغداد الزمان ثانياً... لأن بغداد وهذا ما لا يمكن فهمه بسهولة، مكان عصي على المحو منذ نشوئها حتى الآن. فقد تعرضت بغداد كمكان لغزوات لا يمكن إحصاؤها وفي النهاية ذهب الغزاة وبقيت بغداد. ولأن الغزو الأخير هو الأكثر محقاً بما لا يوصف فقد ركز المخرج على المكان الذي تعرض للمحو بفعل القنابل والنيران والنهب، ولكنه في المقابل جعل كاميرته ترتفع إلى أقصى ما يمكن كي يرينا بغداد الأصل كجسد طويل يتمدد على دجلة على رغم الشظايا التي مزقت جزءاً من هذا الجسد الطويل وأصابته بجروح كثيرة. جنود غاضبون بعد هذه المشاهد القصيرة يبدأ «فلاش باك» طويل يعيدنا إلى سنوات الحصار الطاحنة وبالتحديد إلى سنة 1995 حيث تظهر بطلة الفيلم «أحلام» (أسيل عادل) وهي تؤدي الامتحانات النهائية في كلية اللغات حيث تدرس لغة شكسبير. كما تظهر عائلتها وانتماؤها الطائفي وهي تقدم الطعام إلى العوائل الفقيرة في مناسبة دينية كانت تحرج النظام السابق كثيراً. وسيتضح ذلك كثيراً حينما نعرف إن خطيب الصبية أحلام «أحمد» ينتمي إلى حزب محظور هو حزب الدعوة الإسلامية الذي سيدفع حياته ثمناً لذلك في يوم زفافه وهو السبب ذاته ما سيدفع أحلام إلى مستشفى المجانين. تنتقل الكاميرا بعد ذلك إلى معسكر عراقي لجنود غاضبين من وضع أصبح لا يطاق بعد تهديدات أميركية بضرب العراق إذا لم يستجب للكشف عن أسلحة الدمار الشامل. حيث يفكر الجنود بالهرب من هذا الوطن الذي أصبح ساحة للرماية ومكاناً لتجربة افتك الأسلحة الحديثة. وعندما يحدث القصف فعلاً يصاب الجندي علي إصابة طفيفة في حين يصاب صديق طفولته حسن إصابة قاتلة فيحاول إنقاذه من طريق نقله إلى اقرب طبابة عسكرية، غير انه يضل الطريق ويقع في نهاية المطاف في أيدي الاستخبارات العسكرية التي تسومه عذاباً غير مسبوق وتدفعه إلى مستشفى المجانين بعد أن تقطع أذنه تنفيذاً لأمر مجلس قيادة الثورة كلي الغرابة. من هذه اللحظة تبدأ الأحداث الحقيقية للفيلم والتي تبدو وثائقية أكثر منها درامية على الأقل بالنسبة الى متفرج يعرف أنه ضحية وشاهد في ذلك التاريخ المريض، إذ زج النظام بأصدقاء مثل المفكر خضير ميري والقاص حميد المختار والقاص عبد الرضا في هذا المكان فمات الأخير ونجا الآخران بأعجوبة. يبدأ الجندي السابق علي (بشير الماجدي) وهو صديق حميم أيضاً، بترديد جملة واحدة تتكرر كثيراً وهو في زنزانته وهي انه لم يترك صديقه حسن يموت وحيداً وانه فعل المستحيل من اجل إنقاذه. في زنزانة أخرى تبدو أحلام وهي تناجي زوجها احمد الذي اختطفته المخابرات وقتلته فيما بعد، حيث يحدث القصف من جديد ويصيب المستشفى بأضرار كثيرة ويندفع المرضى إلى الشارع من دون إن يعرفوا إلى أين هم ماضون ومن ضمنهم أحلام وعلي. في هذه اللقطات يستطيع المشاهد إن يرى الهارمونية اللونية وهي تتدرج بين الأبيض والأسود وسط الدخان الذي لم ينقطع للحظة واحدة بحيث استطاعت كاميرا الدراجي أن تفصح عن المناخ العام للشخصيات في لحظات ملتبسة لأناس هم مجانين وغير مجانين. ولكننا في النهاية سنعرف إن هؤلاء الناس ضحية النظام الغريب الذي دمر حياتهم طوال أكثر من ربع قرن وما زالت آثاره مستمرة حتى الآن. توهان تتيه بطلة الفيلم «أحلام» في شوارع بغداد الخالية حتى لتبدو بغداد مدينة مهجورة لكن الدخان وصوت إطلاق النار لم ينقطع طوال الفيلم. ليس هذا فحسب، إذ إن بغداد الجميلة تحولت خلال أيام قليلة إلى أقذر مدينة في العالم، فالنفايات في كل مكان وعمليات السلب والنهب التي طاولت كل المؤسسات ساهمت إلى حد كبير بتحويل بغداد إلى مكب للنفايات. في رحلة البحث عن المجانين الذين تسربوا من المستشفى بعد القصف يقوم الدكتور «مهدي» بمساعدة الجندي المجنون علي، بإعادة الكثير منهم إلى المستشفى، غير أن اثر أحلام يختفي تماماً على رغم أن عائلتها تبحث عنها أيضاً. وكما يحصل في كل الصراعات تقع أحلام في أيدي المجرمين الذين يقومون باغتصابها ورميها في نهاية المطاف في مكان قذر. كان يمكن ان ينتهي الفيلم عند هذا المشهد لما له من دلالات كبيرة، لكن المخرج كان يريد أن يرينا مصائر جميع أبطاله المأسوية، لا بل كان يريد أن ينقل كل ما يحدث في بغداد في فيلمه الذي بدا طويلاً للغاية. فقدان اللحظة العاطفية كان يمكن للفيلم ان يكون أكثر إثارة لو أن المخرج قام بحذف بعض المشاهد المكررة، وكان في إمكانه ان يحذف الكثير من الكلام ليدع الصورة تتحدث فقد كان تأثيرها عميقاً. لكنه لم يفعل فسار الفيلم على إيقاع واحد وفقدت لحظات التوتر تلك الشحنة العاطفية بين المشاهد التي سارت على خط واحد كذلك. أما التمثيل فقد استطاع الفنان بشير الماجدي الذي لعب دور الجندي المجنون أن يسرق البطولة من «أحلام» بأدائه العفوي المدهش على رغم انه يمثل لأول مرة في السينما. فقد تعامل مع الكاميرا كما لو أنها غير موجودة وكانت حركاته المقتصدة أكثر تعبيراً من حوارات طويلة لزملائه الآخرين القادمين من التلفزيون والمسرح إلى السينما. أحلام لم تستطع إن تعبر عن مشاعرها الداخلية وظلت الحركة عندها خارجية مبتورة. احمد هاشم الذي قام بتجسيد دور الدكتور كان عفوياً أيضاً لولا الأداء النمطي الذي يقتل الصدق. أنها التجربة البكر ولا بد من هذه الأخطاء الصغيرة لمخرج في مقتبل العمر يعد بالكثير في المستقبل. الحياة اللندنية في 23 مارس 2007
|