سينماتك

 

نادي سينما متروبوليس يعرض فيلم "كراونات البحّار الثلاثة"

السينما كهف وسفينة أشباح

علي زراقط

 

 

 

 

ما كتبته

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

 

صفحات خاصة

أمين صالح

عبدالقادر عقيل

يوخنا دانيال

 

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

 

أرشيف

إبحث في سينماتك

 

سجل الزوار

إحصائيات استخدام الموقع

 

 

 

سينماتك

 

"تدخل الكهف كي ترى النور". تلك هي المقاربة السحرية التي تجعل من السينما طباق الحياة، تجعل من السينما مرآةً لما ترى، المرآة تعكس الصورة والاتجاهات. كذلك هي السينما تعكس المنطق، فيولد النور من العتمة، والعتمة من النور.

يقع الكهف في شارع الحمراء، تدخله متأنياً عالماً أنك تدخل مكاناً مختلفاً. ميتروبوليس السينما الجديدة التي افتتحت قبل أيام قليلة من حرب تموز، تعمل بجد على ابتداع الوسائل لزرع فكرة سينما "فنية" في قلب هذا الضجيج الذي تصنعه السينما التجارية. تبدأ من الإسم الذي يبدو كاستعارة سينمائية بامتياز، تذكرنا أكثر ما تذكرنا بفيلم قديم، "ميتروبوليس" للمبدع فريتز لانغ من انتاج سنة 1926.

يجري الفيلم في "ميتروبوليس" المدينة المستقبلية، حيث يعيش السكان في مجتمعين مختلفين: الأول فوق الأرض وهو مخصص للأغنياء وعلية القوم، حيث كل مستوجبات الراحة والحياة الرغيدة. أما تحت الأرض وفي مجتمع الUnderground يعيش العمال والكادحون في ظلمة بائسة.

أما في مدينة بيروت فإن السينما تعيش في مكانين مختلفين، الأول فوق الأرض داخل الصالات و المجمعات الكبيرة وهو مخصص لعرض الأفلام الكبيرة خاصة الأمريكية منها، أما المكان الثاني فهو في المهرجانات القليلة حيث تمر الأفلام التي نستطيع أن نطلق عليها تسمية أفلام فنية. أما في الصالة الجديدة في وسط شارع الحمراء، فاستعارة تقع في مكان معد كي يكون نقطة اختلاف مع المجمعات السينمائية الكبيرة بأن يعرض بشكل متواصل أفلاماً "فنية".

ميتروبوليس، الصالة الصغيرة في الطابق الثاني تحت الأرض في مبنى السارولا، والتي تدخلها من خلال مسرح المدينة، تبدو بالفعل مثل كهف، تأمل أن تجد فيه كنوزاً.

يوم الإثنين الخامس من آذار 2007، أطلقت الصلة، بالاشتراك مع جمعية "أشكال ألوان" وبعض المتطوعين من محبي السينما، نادي السينما الخاص بها. كان الفيلم الأول. لم تمتلئ الصالة الصغيرة على الرغم من أن العرض مجاني. كان الفيلم الأول في النادي للمخرج التشيلي راوول رويز، وهو العامل في فرنسا منذ فراره من وجه الديكتاتور بينوشيه، و يعد المخرج الأكثر إنتاجاً في السينما الفرنسية حتى أيامنا هذه. في فيلمه "كراونات البحّار الثلاثة"، من انتاج 1983، يستعيد رويز أسئلةً عن السينما، الحياة، الموت، والحكايات الشعبية.

إحدى الحكايات الشعبية في أميركا الجنوبية تتحدث عن سفينة أشباح تعبر البحر ولا تطأ الشاطئ. يختطف رويز المحب للحكايات كطفل لم يكبر، يتلقف الحكاية من فم راويها، ويبدأ باللعب فيها، يلعب بها كأنها معجون لعب. يلطخ يديه، وأيدينا، بآثار الحكاية إلى درجة أننا لا نعود نستطيع أن نميز أثر الحكاية الأصلية من الزيادات وطريقة المعالجة التي يقدمها رويز.

القصة ببساطة هي أن بحاراً يلتقي بشاب ويقنعه بأن يعطيه الشابُ ثلاثة كراونات دنماركية إذا ما روى له حكايته. يبدأ البحار بالرواية، و هنا يسكن السحر، يبدأ الشعر، تبدأ الكذبة كما تبدأ الحقيقة. قصة البحار أنه سكن يوماً ما مدينة بحرية وأراد أن يرحل على متن سفينة، الأمر الذي استطاعه عندما التقى بأعمىً أشار عليه أن سفينةً ما تحتاج إلى بحار، ثم مات. يتنقل البحار من مكان إلى مكان ويلتقي بشخصيات عديدة خلال رحلاته على السفينة.

يحتفي الفيلم بفن السرد، و يلهو بأدوات السينما. يحتفي الفيلم بالرواية، بالقصة ويرفعها و يغنجها، بالأحرى يهدهدها كما يمكن لأم أن تفعل مع طفلها الصغير. هذا ما تراه في الفيلم و هذا ما يعقب به المخرج غسان سلهب الذي قدم للفيلم، وقد عقب عليه باقتضاب في محاولة لفتح حوار حول السينما. خلال لحظات الحوار البارد الذي شغل الصالة، يتدخل أحد المنظمين لنادي السينما المتحمس للفيلم ليعبر عن استيائه من الانحراف الذي خلقته الصناعة في السينما و منعتها من أن تكون فناً، وأجبرتها أن تكون قصة. ينحرف الحوار بعد ذلك عن الفيلم وقيمته إلى مناطق أخرى. وكي يعود الحوار إلى مكانه حول الفيلم، أتوجه بالسؤال إلى الشاب المتحمس نفسه عما أعجبه في الفيلم، فيحدد أنه أحب المونتاج وقوته، أنه أحب الصورة، كما أنه أحب اللقطات. عندها فقط علمت أنه لم يصل إلى القيمة الفعلية للفيلم على الرغم من أنه هو الذي اختاره كي يعرض. حيث إن قيمة الفيلم تكمن في القصة وطريقة روايتها، إذ أن الخيارات الفنية من مونتاج ولقطات ما كانت تنبع إلا من رغبة لدى المخرج بالإشارة إلى مراجع سينمائية شهيرة، لتوظيف هذه المراجعات في Allegory سينمائية.

في ميتروبوليس الحزينة لقلة زائريها، يبدو واضحاً سبب عدم قدرة مجتمع الأندرغراوند السينمائي في لبنان على الصعود الى "الواجهة". فرواد هذا المجتمع هم أيضاً يتسمون بالكسل الذي يتسم به رواد المجمعات السينمائية الكبيرة. هذا الكسل الذي يمكن أن ينتاب سكان الشواطئ الأمريكية الجنوبية و هم يشاهدون سفن الأشباح تمر أمام عيونهم فيستسلمون للحكاية بأنها سفن أشباح ولا يبذلون مجهوداً لتتبع مسارها و نقطة وصولها.

هذه المقارنة بين سفينة الموتى/ الأشباح، والسينما يتبناها فيلم رويز المعروض بقوة. فهو يدور حول الخط البسيط الفاصل بين الحقيقة و الكذب، بين الظل و الجسد، بين الكلمة وتوريتها، بين الصفة والموصوف. ولكن أليست هذه هي النقاط التي تدور حولها السينما عامةً، بكونها انعكاساً للضوء، وتوريةً للجسد عبر الصورة، و تورية للظل عبر اللون، وبكونها كذباً من صناعة متخيلة، و في كونها حقيقة أنها رواية تحكى.

يبدأ الفيلم بيد تكتب على دفتر، يد كاتب مع ريشة ودواة، يكتب أن "لا تصدق ما سيأتي فهو محض خيال". هذا الاعتراف المسبق بأن ما سنراه هو كذب، يبدو كفضح لسرالسينما. فيما تحاول السينما في المعايير الهوليوودية تورية، وإخفاء زيف الصورة السينمائية، يقوم رويز بفضح التقنيات السينمائية علانية عبر هذه الكتابة، ويفضحها مرة ثانية عندما يدلق البحار كأسه على عدسة الكاميرا. وفي مرة أخرى عندما يموت الأعمى فيما هو يقول للبحار أن لا يصدق هذا الموت فالدم الذي على قميصه ليس سوى حبر أحمر. ومرة أخرى عندما يدخل البحار إلى السفينة، و يتعرف أول ما يتعرف، كما نتعرف نحن أول ما نتعرف، على "الممثل" (أو المقلد) كما يدعوه هو نفسه، و هي شخصية نراها ترمي بنفسها من السفينة منتحرة، ثم تعود حية، بعد حين. ذلك أنه كما يدعي الممثل الذي قفز انه ليس هو، بل إنه الآخر، فهم كلهم متشابهون في هذا المكان، في محاولة للإشارة إلى الممثل في السينما الذي يؤدي أدواراً قد تموت في بعض الأحيان إلا أنه يعود في شخصية أخرى في فيلم آخر. ومن الإشارات إلى عالم السينما يقول الممثل "كلنا لنا خطيبة واحدة، تدعى الخطيبة الأمريكية" في محاولة لاستدراك الحلم الذي يراود الجميع بالعمل في السينما الأمريكية.

هذه الإشارات الكثيرة إلى السينما يمتلئ بها الفيلم من بدايته إلى نهايته. تبدو الحكاية، السينما، هي البطل الحقيقي في الفيلم، فالبطل في الكثير من الأحيان يبدو ممحوا، يبدو كصورة حلم لم يكتمل.

يتغزل الفيلم بالسينما و بقدراتها عبر عبوره من الأبيض و الأسود إلى الملون، إلى أنواعٍ مختلفة من الصورة، في مراجع إلى أفلام مشهورة، و كلاسيكية. يذكرنا النص و حركة الكاميرا في بداية الفيلم بنصوص مارغريت دورا، و بحركة الكاميرا في "حبيبتي هيروشيما" لالان رينيه. و بالمناسبة فإن ساشا فييرني، مدير التصوير في الفيلم، هو نفسه الذي عمل في "حبيبتي هيروشيما". و يستمر الفيلم لنرى ملابس و ديكورات تذكرنا بكلاسيكيات هوليوود في الأربعينات و الخمسينات، ثم الافتتان باستخدام العدسات الطويلة و هي ميزة معروفة لدى أورسون ويلز. ثم لنراه في مشهد يعيدنا إلى روح تروفو في "جول و جيم" أو إلى غودار في "بييرو المجنون" عند نهاية الفيلم، و حتى إلى كيوبرك في "باري ليندن" عندما نرى مشهد فتاة التعري...

تتكاثف السينما و أمثلتها، لتبدو سفينة الأشباح وكأنها هي السينما، إلا أنها تحتاج إلى رجل واحد حي يحمل إليها حكاياتٍ جديدة قديمة، ليرويها، و لكي يروي رواياتها إلى العالم الخارجي. هذا الرجل الحي الوحيد هو البحار، هو المخرج. وكي يدخل بحار جديد على بحارٍ قديم أن يموت. لكن السؤال يبقى "هل هذه الرواية حقيقية أم أنها مجرد خيال؟"

في سينما ميتروبوليس، رأينا راول رويز و هو يلهو ويعبث في فيلم جميل. ورأينا سينما حزينة وقد خفت نورها. نخرج من نور الكهف كي نرى الظلام.

المستقبل اللبنانية في 18 مارس 2007