سينماتك

 

فيلم "العطر" للمخرج الالماني توم تايكور..

البحث عن الذات في عالم بلا روح

صلاح حسن

 

 

 

 

ما كتبته

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

 

صفحات خاصة

أمين صالح

عبدالقادر عقيل

يوخنا دانيال

 

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

 

أرشيف

إبحث في سينماتك

 

سجل الزوار

إحصائيات استخدام الموقع

 

 

 

سينماتك

 

قد يكون من المفيد إن نشير، قبل الحديث عن الفيلم، إلى الحقيقة التاريخية التي تقول إن الفرنسيين اكتشفوا العطور لأنهم لم يعرفوا الاستحمام من قبل، ولكي يتخلصوا من الروائح الكريهة التي كانت تنبعث من أجسادهم. لكن هذه الحقيقة عندما تترجم إلى شريط سينمائي بصري ستشكل صدمة للمشاهد المعاصر الذي لم ير العالم الأسود في القرن الثامن عشر في وسط باريس الباروكية.

منذ البداية يزجنا المخرج مباشرة في قلب هذا العالم الأسود، وبالتحديد في أحشاء المدينة الغارقة بأوحالها، حيث سوق بيع السمك بكل نتانته وقاذوراته المكشوفة والمضمرة. بائعة السمك الشابة تضع مولودها فوق أحشاء الأسماك والنفايات والوحل وتتركه يصرخ دون ان تستطيع ان تلمسه بسبب هذا القرف الذي يشبه الكابوس والذي يجرد الجميع من أرواحهم. لذلك تحاول ان تهرب من هذا العالم، غير إن الاخرين يكتشفون الأمر وبذلك تساق إلى المشنقة ويذهب الطفل إلى بيت الايتام، مستنقع أخر أكثر بشاعة وقسوة.

يولد الطفل بدون روح وبلا رائحة في جسده ككل الناس، ولكن بالمقابل يتمتع بقدرة اسطورية مذهلة في التعرف على الروائح بكل انواعها ويستطيع شمها على بعد مسافات طويلة. فله القدرة على شم روائح البشر والصخور والنباتات والاخشاب وتمييزها. هذه القدرة تدفع صاحبة بيت الايتام الرهيبة إلى بيعه لصاحب معمل للجلود الذي يبيعه بدوره إلى صاحب معمل للعطور بعد ان يصبح رجلا شابا قابلا للتداول كأي سلعة. من هذه اللحظة نستطيع ان نتابع شخصية هذا الكائن (كرينوليه) الممثل البريطاني المدهش بن وشاو الذي ولد في المستنقع وعاش في مستنقع وانتقل ألان إلى عالم آخر هو عالم الروائح الزكية الذي يملكه (بالديني) داستن هوفمان ، حيث ينجح في صناعة أنواع جديدة من العطور تشجع صاحب المحل على اعطائه الحرية الكاملة في التجريب من اجل اكتشاف عطور جديدة تدفع إلى الثراء والشهرة. غير إن الرجل الشاب لا يجد في هذا المعمل ما يبحث عنه وهو عطر خاص اكتشفه ذات يوم في جسد فتاة عذراء قتلها دون ان يعرف انه ارتكب جريمة وبقي هذا العطر الخاص في مخيلته وانفه الاسطوري وينبغي الحصول عليه مهما كلف الامر لأنه بمثابة مصير غير قابل للجدل الذي لا طائل من تحته.

إزاء هذه الحالة يجدر بنا من اجل تحليل هذه الشخصية ان نستعين بعلم النفس وبالتحديد عالم النفس كارل يونغ في بحثه الشهير عن الذات وعملية التفرد. يقول يونغ " تبدأ عملية التفرد، أي توصل المرء الشعوري إلى الاتفاق مع مركزه الداخلي أو نفسه الكلية – بصورة عامة مع جرح يصيب الشخصية وما يرافق ذلك من معاناة. اذ إن هذه الصدمة غالبا ما ترقى إلى مستوى النداء ". حسنا، اذا عدنا إلى الشخصية وفهمنا جرحها النرجسي (الافتقار إلى الرائحة الخاصة والمعاناة – فقدان الروح) فأننا سنعرف ذلك الإصرار في الحصول على عطر غير مسبوق (البحث عن الذات وعملية التفرد وبالتالي تحقق الانا). وكما يقول يونغ فأن هذه الصدمة ترقى إلى مستوى النداء الذي لن يقف أي عائق في طريق تحقيقه حتى اذا كلف ذلك حياة العشرات من العذراوات في مدينة باريس وضواحيها. وهذا ما يحدث، اذ يستطيع هذا الرجل تصنيع عطره الخاص قبل ان يلقى عليه القبض ومن ثم يساق إلى المشنقة. وفي اللحظة التي يطالب فيها الجمهور بانزال اقصى العقوبات به، يطلق منديلا مضمخا بالعطر الجديد يدفع هذا الجمهور العريض لممارسة جنس جماعية بما في ذلك الكاردينال الذي حضر عملية الإعدام.

لا يمكن تفسير هذا الفيلم في اعتقادنا إلا بهذه الطريقة، واي تحليل آخر سيسقط في التبسيط أو الانحراف والمجانية. ونعول بهذا الصدد على الاخراج والتمثيل والتصوير والمفردات الاخرى التي ساهمت في صناعة هذا الفيلم الجبار. فقد كان المخرج يعرف جيدا أي نوع من الشخصيات تلك التي ينطوي عليها كرينوليه فاقد الروح والرائحة، اذ قامت كاميرته الحساسة للغاية بعكس دواخله الدفينة الغامضة والغريبة عن طريق فلاشات سريعة معبرة. وقام الفنان البارع بن وشاو الذي يقدم اول دور رئيسي في حياته باستخدام جسده دون أن يعطينا ولو فرصة واحدة لمراقبة مشاعره التي ظلت ميتة ولم تظهر على وجهه حتى النهاية بحيث بدا كما لو انه كان منوما. حتى أكثر المشاهد اثارة في لحظات القتل لم يبد أي نوع من الانفعالات مهما كانت صغيرة. وقد اراد المخرج من ذلك إن يعطينا انطباعا بأن ما يقوم به كرينوليه ليس جريمة قتل بقدر ما هو مصير مقرر سلفا ولا فرار منه. وقد استطاع المخرج إن يخفف من حجم التراجيديا في فيلمه من خلال تاجر العطور داستن هوفمان الذي مازال يحتفظ بتلك الروح المنفتحة والاداء العفوي غير المتكلف والاطلالة المريحة مقارنة بمشاهد القذارة والبؤس من جانب والقتل من جانب آخر.

يكمن نجاح هذا الفيلم في تكامل مفرداته السينمائية التي بدت مترابطة ومشذبة، فهناك السيناريو المتقن حتى في ما يتعلق بالتفاصيل الصغيرة، ساهمت الكاميرا الساحرة كثيرا في الافصاح عن اجوائه النفسية والحسية واللونية إلى حد كبير وبجمالية اقرب ما تكون إلى روح الشعر بحيث كان بإمكاننا إن نشم رائحة اجساد النساء ونلمس شعورهن المبللة.

يعد هذا الفيلم لمخرجه الالماني توم تايكور من أهم الأفلام الاوروبية المنتجة في السنوات الخمسين الأخيرة، وقد عرض حتى ألان في خمسة بلدان اوروبية هي المانيا وفرنسا وايطاليا وهولندا وبلجيكا وحقق ارباحا تزيد على الستين مليون يورو حتى ألان. فقد شاهده في المانيا وحدها أكثر من مليون مشاهد وفي فرنسا العدد نفسه، إما في هولندا فقد بلغ عدد مشاهديه مئة الف مشاهد. وينتظر ان يعرض في الولايات المتحدة في الاسابيع القادمة اذ وصل صداه إلى هوليوود بعد عرضه مباشرة ويتوقع له النقاد ان يحصد الكثير من الجوائز وخصوصا جوائز الاوسكار. الفيلم معد عن رواية بالاسم نفسه للكاتب الالماني باتريك ساوسكند حققت نجاحا منقطع النظير وطبع منها خمسة عشر مليون نسخة وترجمت إلى اثنتين واربعين لغة.

عن جريدة المدى

القصة العراقية في 11 مارس 2007