هذه الشريحة من المجتمع لا يمكن تجاهلها بحجة الخلفيات الاجتماعية، والشرائح الفقيرة والمهمشة والمعدمة. فتلك الشريحة-على الرغم من قلتها مقارنة مع الشرائح الأخرى-تمتلك الحق فى الوجود، الفنى، بكل تناقضاتها سواء الداخلية أو مع الشرائح الأخرى اجتماعيا. وهذا الأمر لا يمس الفيلم من قريب أو بعيد، وإنما يمس "المتفرج" المصرى مهما كان انتماؤه الاجتماعى، لأنه هو الوحيد المنوط به التفكير فى تجليات الفيلم وامتداداته وموجاته المتسعة. فيلم "سهر الليالى" يعيدنا إلى لغة السينما الحقيقية، الطازجة، بين الخرائب الممتدة على طول وعرض دور السينما فى مصر. فهو فيلم "يدوس"، إذا جاز التعبير، على أكثر من 25 عاما تكاد تندثر خلالها لغة السينما وتتحول إلى مجرد "بانجو" يشعل خيال "التجار" بشخصيات وهمية، ليتمكنوا، وقد تمكنوا فعلا، فى لحظة هاربة من الزمن أن يشتروا أبطالا لذلك النوع من السينما. أو بلغة أخف وطأة، يصنعوا أبطالا من ورق، وأراجوزات وبهلوانات، ليتحولوا بعد ذلك إلى "نجوم" لا تلبث أن تخبو أو تتحول فى أفضل الأحوال إلى "أنماط" بشرية لا تصلح إلا للنكت التى ولدتهم فى الأصل. ليس هناك أى داع هنا للتعرض إلى الشخصيات وتركيباتها النفسية، وهو ما تعرضت له مقالات كثيرة، ومن ضمن ذلك طبعا الإشادة بجميع العاملين فى الفيلم، لأن كل منهم أدى وظيفته، وأبدع فى حدود التجربة التى ظهرت على الشاشة، بصرف النظر عن ما كان يقصده المؤلف أو المخرج. ومع ذلك فقد نجح هانى خليفة فى إعادة العناصر السينمائية إلى مكانها اللائق بها، وقدم نفسه بلغة سينمائية كما ينبغى. وبما أن الكلمة كانت فى البدء، فلا يمكن تجاهل كتابة تامر حبيب. إذ تمكن كل من خليفة وحبيب من نسج مادة سينمائية متناغمة أجبرت الكثيرين من الممثلين الذين شاركوا فى الفيلم على تغيير جلودهم، والكشف عن إمكانياتهم الحقيقية التى كادت سينما "الحشيش" أن تقضى عليها. لعل يوسف شاهين هو المخرج الوحيد فى السينما المصرية الذى يمكنه أن يتحكم فى مجمل عناصر أعماله الفنية بدءا من السيناريو-الحوار السينمائى-وحتى تفاصيل المونتاج الدقيقة. وهو فى حواراته مقتر إلى درجة البخل، ذلك البخل الكلامى الذى يتحول بقدرة فنية عالية إلى ثراء شديد فى الصورة. وهذا فى الواقع ما يمثل المعادلة الفنية السينمائية الصحيحة. ولنتذكر أيضا "مومياء" شادى عبدالسلام، ذلك الدرس الفنى-السينمائى بالدرجة الأولى. مخرجون قلائل يمكنهم أن يلعبوا هذه اللعبة الفنية الصعبة والخطرة فى آن واحد منهم على سبيل المثال لا الحصر شاهين وتاركوفسكى وعبدالسلام وبرجمان. والتجربة الأولى لهانى خليفة تضعه على نفس هذا الطريق الدقيق والصعب على الرغم من بعض السقطات البسيطة.. ففى الطريق إلى الإسكندرية، فى السيارة، عندما يضع الممثل سبابته على فمه هامسا "هس"، تكون الجملة السينمائية قد اكتملت وليست فى حاجة إطلاقا إلى كلمات زائدة من قبيل.. اسكتوا يا جماعة، أو اسمعوا يا جماعة.. ولكن يبدو أن الكاتب والمخرج مهمومان بمشكلة التلقى والاستقبال عند الجمهور المصرى الذى تعود على "الرغى" و"التنكيت" و"الإفيهات". ومع ذلك فنسبة النجاح فى تحويل الكلمة إلى صورة كانت كبيرة جدا لدرجة أنها تغرى بالكتابة عنها. "سهر الليالى"-"بصقة" ضخمة فى وجه السينما المصرية المنحطة. وهو ما يحدث أيضا فى كل فيلم نشاهده ليوسف شاهين، مثلا، أو فى أى فيلم جيد. فشاهين، على سبيل المثال، يختار أبطاله بعناية. وهو مستعد دوما إلى صنع النجم، بشرط أن يكون الشخص لديه الإمكانية الفنية. أى أن شاهين يمكنه ببساطة أن يضرب "النجم" المعروف بـ "الشلوت" ويأتى بممثل ناشئ، أو طالب من المعهد، أو شخص من محطة مصر، ليخرج ما بداخله من إمكانيات هائلة. وفى أفضل الأحوال، عندما يعمل شاهين مع فريق التمثيل، يقول لهم ضمنا أو صراحة، انسوا كل ما عرفتموه عن السينما، وانسوا أيضا كل ما أديتموه من أدوار، هنا سينما حقيقية، بجد، وتمثيل حقيقى. فى فيلم "سهر الليالى"، اختار المخرج الطريق الثانى، وقال ضمنا للممثلين: "تعالوا نمثل بجد". وبالتالى خرج كل واحد منهم من جلده القديم، وأخرج هانى خليفة إمكانيات كل منهم، ليظهر أمامنا ممثلين مصريين حقيقيين. لقد تمكن من إبراز الإمكانيات الهائلة التى يمتلكها شريف منير وأحمد حلمى وعلا غانم وجيهان فاضل. ومع تألق شريف، ظهرت القدرة الخلاقة لأحمد حلمى على فهم الحدود بين الكوميديا التى كان يمثلها من قبل، وبين "الدراما" بمعناها الواسع. ومع تألق جيهان فاضل وإمكانياتها الرائعة على إقامة تلك العلاقة المتجانسة بين عالمها الجسدى والنفسى، تمكنت علا غانم من إبراز أهم جوانب المرأة على مستوى العقل والجسد والروح. وأثبتت أنها ممثلة لا تقل فى إمكانياتها على فهم الشخصية وأبعادها عن أية ممثلة، وبدون مبالغة، عالمية. لقد فاجأنا الممثلون بأشياء جديدة تماما، غابت عنا منذ سنوات. فاجأنا فتحى عبدالوهاب ومنى زكى وحنان ترك وخالد أبوالنجا والآخرون بأنهم لا ينظرون إلى أنفسهم وهم يمثلون. وكانت المفاجأة الأكبر أنهم لم ينظروا أيضا إلينا فى صالة العرض ليقولوا لنا: "بصوا! إحنا بنمثل أهوه، إحنا كويسين والله". لم يحدث لا هذا ولا ذاك. حدث فقط أن مثلوا بجدية، فأضاف كل منهم-فى حدود دوره-إلى رؤية كل من الكاتب والمخرج. مثل هذه الإضافات تخص، بالدرجة الأولى التطور الذاتى لفن الممثل. وفى الدرجة الثانية تخص الناس "المتفرجين". الحالة الأولى تحدثنا عنها عرضا، وهى مدى إدراك الممثل لأبعاد الشخصية، وقدرته على أدائها بحرفية عالية، إذا جاز التعبير، وهو ما يؤدى بدوره إلى الكشف عن مناطق جديدة سواء لدى الممثل نفسه، أو لدى الشخصية التى يؤديها. والحالة الثانية، التى تخص الناس، سواء الجمهور أو الممثل ككائن اجتماعى، هى إمكانية الممثل على كسر "التابوهات" سواء فى الحياة أو الفن، أى ببساطة الحرية الداخلية. ولعلنا هنا نصطدم بنموذجين فنيين فى غاية الجرأة الفنية. إذ تمكنت كل من "مشيرة" و"إيناس" على كسر الحظر "الجنسى" و"العلاقات المحرمة" ليس فقط فى السينما، وإنما بالذات فى الحياة، فى المجتمع، وتوجيه صفعة محترمة إلى تلك المرآة الخادعة التى يقف أمامها هذا المجتمع. لقد تمكنت هاتان الممثلتان-علا وجيهان-من فهم أبعاد دوريهما إلى الحدود القصوى فى مجتمع ملئ بالمحاذير والمحظورات، سواء فى الفن أو الحياة، كامرأتين فى مجتمع يخدع نفسه آلاف المرات فى اليوم الواحد. ولعل هذا هو سر نجاحهما إلى هذا الحد. وذلك يعيدنا من جديد إلى قضية حرية الشخص ككائن اجتماعى، وإمكانيته على التعبير عن هذه الحرية عندما يقوم بأداء دور يتناقض شكليا مع مجموعة القيم المتهرئة لمجتمعه. ولعل حل هذه المعادلة فى الغرب، مثلا، قد تحقق بنجاح نتيجة للحرية الشخصية واحترام الجسد والعقل والنفس فى آن واحد. "سهر الليالى" فيلم حياتى-نفسى يخرج لسانه حتى للجمهور. وعلى الرغم من أن الكاتب والمخرج اختارا شريحة محددة متحققة ماديا ومهنيا، إلا أنهما من جانب آخر وضعا "المشرط" على مجموعة مشكلات موجودة فى العديد من الشرائح الاجتماعية الأخرى بدرجات متفاوتة، وتمكنا بلغة السينما من التعبير عن كل ما يعتور المرأة والرجل فى الظروف المحددة التى تعرض لها الفيلم. وفى النهاية، فمن الممكن الاختلاف مع بعض الآراء القائلة بأن نهاية الفيلم ظلت مفتوحة، وأن النهاية السعيدة بعودة "الرجالة" إلى "حريمهم"، وزواج "سامح" من "إيناس"-كل ذلك يعبر بشكل أو بآخر عن استمرار المؤسسات الزوجية، والعلاقات الأسرية على ما هى عليه. وهو ما يقودنا إلى فهم أن الفيلم يتخذ موقفا معينا من تلك العلاقات. الفيلم انتهى بنهاية سعيدة، وليست مفتوحة، إذ عاد كل رجل لامرأته رغم التناقضات الواضحة والتى ركزت عليها الكاميرا، ورحبت كل امرأة بزوجها رغم أن كل ما كان سيظل مستمرا ولو بدرجات وأشكال مختلفة-هذه هى الحياة، وهذه هى المؤسسات والعلاقات البشرية، سواء فى الزواج أو فى غيره. ولعل المخرج كان يقصد ذلك بهذه النهاية السعيدة، ممعنا فى إخراج لسانه لهذا الجمهور/ المجتمع، ومؤكدا على أن حياتنا تسير على هذا النحو من الخداع: خداع النفس والغير. غير أن النهاية المفتوحة، وربما أكون مخطئا، هى توقف الفيلم عند نقطة فنية/حياتية محددة، وليس استمرار الحياة كما هى عليه، وكما طرحها الفيلم. وذلك لكى تمتد الحياة فى الواقع، ويتمكن المشاهد من استخدام إمكانياته الذهنية، وإعمال عقله فى هذه النهاية الفنية/الحياتية فى الفيلم على الرغم من أن الحياة تسير فى طريقها. هذه النقطة، أو النهاية، وصل إليها الفيلم عندما كان الأبطال يلقون بأوراق اللعب على المائدة فى الإسكندرية، عندما "عادوا إلى يوم من أيام زمان"، وحدهم فيه المخدرات، والكحول، والجنس مع مومس عابرة (تلك الممثلة التى أجادت بحق، وأبرزت إمكانيات عالية من حيث حرية الحركة والأداء تحسد عليها). ووحدهم أيضا القلق والمكاشفة والتفكير.. بينما الزوجات يجلسن فى بيوتهن، أو يتحركن فى فضائهن المحدود، أو يجربن الحياة بطريقة أخرى. هذه هى النهاية المفتوحة فنيا وحياتيا، والتى تتسق مع مسار أحداث الفيلم، وحركة جميع أبطاله النفسية والذهنية. وهى النهاية المفتوحة التى تتيح لـ "المتفرج" الغوص فى أعماق ليس بالضبط أبطال الفيلم الذى انتهى لتوه، وإنما فى أعمق أعماق نفسه، وفى تفاصيل حياته وعلاقاته الأسرية والاجتماعية. أشرف الصباغ، كاتب مصري مقيم في موسكو. عن موقع "كيكا" ـ 24 سبتمبر 2003 |
سهر الليالي مزيداً من السينما، مزيداً من الهواء بقلم: أشرف الصباغ |
"سهر الليالي" في سطور:
إنتاج:
الشركة العربية للإنتاج والتوزيع
السينمائي
|