سيريانا.. صدمة النفط
سيريانا.. دولة وهمية تلك التي يتحدث عنها الفيلم..
لكنها مأخوذة من صميم واقع حي.. فـ"سيريانا" هي لفظة
تجمع بين سوريا وإيران والعراق؛ اسم لبلد متخيّل تسعى
الأوساط الاقتصادية النفطية الأميركية وراء السيطرة
عليه.. هذا ما أكده كاتب ومخرج فيلم "SYRIANA"..
الذي شاهدناه مؤخراً في نسخته الممسوخة بعد القطع
والتشطيب الذي تولاه الموزع في منطقة الخليج العربي.
في "سيريانا".. نحن أمام فيلم صعب ومعقد.. مثله مثل
الواقع السياسي والاقتصادي الذي نعيشه.. ففي معالجة
جريئة وملفتة للمخرج والسيناريست ستيفن غاغان لكتاب
(لا ترى شراً
See No
Evil)
لروبرت بيير العميل السابق للمخابرات الأمريكية، نجح
في تقديم أحداث درامية مليئة بالإثارة والحقائق
المميتة.
فعندما يقرر الأمير العربي ناصر (ألكسندر سايدجيت)،
ولي عهد إحدى إمارات الخليج العربي المنتجة للنفط، وقف
التعامل مع الشركة الأمريكية العملاقة "كونكس أويل"
التي تعمل في مجال النفط، وتحويل تعاملاته لصالح شركة
صينية بديلة قدمت عطاءً أفضل.. تقوم القيامة هناك، في
أمريكا، حيث تعتبر الشركة الأمريكية ومعها وكالة
المخابرات المركزية، بأن هذا الحدث بشكل صفعة قوية لها
ولكل الاستثمارات والمصالح الأمريكية في منطقة الخليج.
تصل إلى درجة أن تكلف وكالة الاستخبارات أحد عملائها
ويدعى بوب بارنز (جورج كلوني) بتصفية الأمير ناصر.
في الوقت نفسه، وفي جنيف، يقرر بريان وودمان (مات
ديمون)، وهو أحد الوجوه الشابة الطموحة في شركة
أمريكية تعمل في مجال موارد الطاقة، الانتقال للعمل
كمستشار للأمير ناصر. غير أن ناصر يستبعد في اللحظة
الأخيرة، عن ولاية العهد من قبل والده الذي يلتف حوله
الأمريكيون مجدداً ويعين ابنه الأصغر ولياً للعهد.
وباعتبار أن هذا الأمير العربي مجتهد ومؤمن بمبدأ
الإصلاح السياسي والاقتصادي في بلده، فهو يصر على
موقفه، بل ويحاول التمرد على والده الذي يميل إلى
الأمريكان مع وريثه الأصغر. ولكن هذا لا يعجب
الأمريكان تماماً، فيتم تصفيته تماماً وإزاحته من
طريقهم.
في الطرف الآخر من عناصر السرد الدرامي، هناك الشاب
وسيم، الباكستاني المقيم في الإمارة والذي سرح من عمله
عقب إغلاق فرع شركة "كونكس" في الإمارة، ليلتحق بعد
ذلك بمدرسة لتعلم العربية والقرآن تشكل مهداً لتنشئة
الإرهابيين.
في هذا الفيلم.. نرى شخصيات تدور في سياق أحداث
متوازية ومترابطة.. فمن المؤكد بأن الشخصيات والأماكن
والأسماء هنا من نسج الخيال، إلا أن الحبكة والسرد
الدرامي مبنيان على وقائع حقيقية وتجربة ذاتية لعميل
الاستخبارات الأمريكي السابق روبرت بيير، حيث يصوغها
كاتب السيناريو في فيلم تشويقي مثير وخلفية من
الصراعات السياسية والاقتصادية، ويطعمها بجرعة ذكية
ورؤية متبصرة لسياسات الولايات المتحدة وعلاقاتها
الخارجية بدول منطقة الشرق الأوسط.
يقدم سيناريو الفيلم أحداثه من خلال حادثتين هامتين،
الأولى هي قيام أمير دولة عربية بالجلوس بمقعد والده،
والثانية تفجير المدمرة الأمريكية "كول" عند سواحل
اليمن. وبالطبع الحادثتين تسيران في خط متوازي ولا
تلتقيان حتى النهاية.. يقدم كاتب السيناريو هاتين
الحادثتين ويربطهما بما يدور في حقول النفط، هذا
السائل الذي يشكل أهم ثروة صناعية في العالم، وبالتالي
لابد أن تدور الكثير من المؤامرات والدسائس في كل دول
العالم من أجل امتلاكها. وهذا ما يفسر بأن أحداث
الفيلم تدور في الكثير من دول العالم وتتعامل مع
جنسيات مختلفة.. حرص الفيلم على أن تتحدث كل هذه
الجنسيات بلغتها الأصلية، وذلك من أجل الاحتفاظ
بالواقعية وإضفاء مصداقية على الأحداث الخطيرة التي
يتناولها.. لنتابع نحن كمتفرجين، لغات مثل الفرنسية
والعربية والصينية والفارسية والهندية، إضافة إلى
الإنجليزية.
ويعد الفيلم فرصة هامة لعرض الكثير من القضايا المحذور
تناولها.. مثل التعرف على كيفية إقامة الأثرياء العرب
في أوروبا.. وكيف تكون المنافسة بين شركات البترول
الأمريكية، وارتباطاتها بالمخابرات المركزية. فنراه
يقدم الكثير من الشخصيات والأحداث التي تنتقل بنا من
إيران إلى لبنان إلى سويسرا مروراً بمدن أخرى في
أمريكا.
كما أن صناع الفيلم لم يستثمروا هذه الفرصة لتقديم
رؤية حضارية حديثه عن الشرق وناسه، حيث طغت النظرة
الإستشراقية القديمة عن غلمان الشرق واللهو المتمثل
بشرب الخمر والإدمان عليه، وأيضاً ظروف المرأة
المقهورة والمنسية.
ومع كل هذه الأحداث.. هناك أحداث تدور على خلفية هذا
الواقع، وغالباً ما تكون أكثر أهمية.. فمثلاً نرى
حكاية الشيخ محمد عجيزة (عمرو واكد) مع اثنين من
العمال الآسيويين العاملين في مجال آبار النفط.. حيث
يحثهما على تعلم اللغة العربية ويقنعهما بأنها المعين
لكي يتسنى لهما العيش بأمان في هذا البلد.. وبالتالي
يقوم بتجنيدهما للانضمام إلى منظمة لا يشير الفيلم إلى
اسمها مباشرة، ولكنه يتحدث من خلالها عن عمليات
انتحارية كبيرة.. وعن جماعة ذات إيمان عميق يكره
التواجد الأجنبي في المنطقة.. ويحث على ضرورة التحرك
لإزالته.
هذه الحكاية تشكل محوراً هاماً في تفسير طبيعة إنتاج
البطالة والسياسات الأمريكية للكثير من العمليات
الانتحارية التي تصبح بالتالي نتيجة طبيعية لإنتاج
التطرف والإرهاب في العالم الإسلامي.
يشكل المشهد الأخير من الفيلم ذروة أحداثه، حيث
التوازي الملحوظ بين عملية اغتيال الأمير ناصر على
أيدي الأمريكان، وبين العملية الانتحارية بتفجير
المدمرة الأمريكية في بحر العرب.. هنا تصبح الشاشة
بيضاء بدلاً من صوت الانفجار لبضع لحظات.. كل طرف
يبارك نجاح عمليته.. يردد أعضاء الجماعة "الهدف
أصيب".. ويبارك الأب سالم خان مقتل ولده في انفجار
المدمرة، حين يقول: نحن من التراب وإلى التراب نعود.
وفي نفس الوقت نرى الأمريكان وهم يشربون نخب انتصارهم
بمقتل الأمير وإزاحته عن طريقهم، يرددون وهم يصفقون أن
العملية انتهت.
يقول ستيفين غاغان، مؤلف ومخرج فيلم "SYRIANA"،
والحائز على أوسكار أفضل سيناريو عن فيلم (TRAFFIC):
·
"أردت
أن يغرق المشاهد، منذ البداية، في عددٍ من السياقات
السردية المتوازية، كما لو أنه يشاهد نشرة أخبار
متلفزة تتطرّق إلى مواضع متعدّدة ومتشعبة. ثمّ أعمد
إلى تغيير الوجهة بحيث أفهم المشاهد بأنّ القصّة تعنيه
هو شخصياً، وأنّ السياقات تتقاطع".
·
"السيناريو غنيّ إلى درجة اضطررنا معها إلى إلغاء بعض
الشخصيّات أثناء المونتاج لكي يبقى مفهوماً وواضحاً في
ذهن المشاهد" (...) إنّ تأليف هذا الفيلم قد غيّر فهمي
للعالم".
·
"لقد
التقيت من يملكون سلطة القرار الفعلي، رؤساء دول،
وأرباب عمل كبار، ومحامي واشنطن. ووجدتُ أنّ وراء
غيريّتهم الظاهرة يكمن الدافع المكتوم: أي المال".
في مقالنا هذا الأسبوع نتابع حديثنا عن فيلم "SYRIANA"،
حيث أن هناك الكثير من الأفكار والملاحظات التي
نعتبرها هامة، مما لم يسعنا الوقت لذكره، وكان لابد من
التطرق لها..!!
أول ما لفت انتباهنا.. هو النجم جورج كلوني، والذي كان
الأكثر بروزاً في الفيلم إن لم نقل بطله.. أو بالأحرى
صاحبه.. هذا بالرغم من أن البطولة هنا جماعية، بل أن
الفيلم لا يعتمد أساساً على شخصيات بقدر اعتماده على
أحداث خطيرة وأفكار جريئة.
ورغم ذلك فإن جورج كلوني في شخصية بوب بارنز العميل
الذي تعرض لكل شيء.. من جحود رؤسائه وأصدقائه، إلى
التعذيب بانتزاع الأظافر.. والقتل في النهاية.. وهو
ممثل كبير رشح للأوسكار في السابق كمخرج وسينارست,
ولكنه لم يفز بها إلا عن أدائه لهذه الشخصية بكل
تناقضها وقوتها وضعفها.
تعرّض جورج كلوني إلى انتقادات حادة من أوساط اليمين
المحافظ المسيطر على القرار في الإدارة الأميركية
الحالية، كونه شارك في إنتاج «سيريانا» إلى جانب
استوديوهات «ورنر بروس» الضخمة. وهو أيضاً من فكر وأعد
هذا المشروع منذ بدايته. فاقترحه على ستيفن غاغان،
وأمن له التمويل اللازم بمساعدة صديقه وشريكه في بطولة
الفيلم مات ديمون، فاتهمه البعض بأنه أساء كثيراً إلى
الليبرالية الأميركية بمفهوميها كحرية اقتصادية
وسياسية، وتناسى هؤلاء أن مساحة الحرية «الليبرالية»
تتسع لمن يريد الإشارة إلى فساد في سلوكيات أفراد
ومؤسسات أحياناً. غير أن جورج كلونى يعلق قائلا: لم
يكن هدفنا تقديم مواعظ لأي طرف من الأطراف بهذا العمل،
فالفيلم الناجح هو الذي يطرح موضوعه للمناقشة والبحث،
وهذا ما يقوم به فيلم سيريانا، فهو يفتح باب النقاش عن
الفساد المرتبط بصناعة النفط، كما يأمل عاغان عن طريق
هذا العمل أن يتعرف الشعب الأمريكي على شخصيات وأحداث
بعيدة وغريبة عنه.
في فيلمه هذا.. لم ينجح المخرج غاغان في الساعة الأولى
من فيلمه، في تقديم أحداثه بإيقاع سريع يتناسب والحدث
الملفت المطروح.. إلا أنه تجاوز ذلك فيما بعد، حيث
تعامل مع الإيقاع وسرعته بحرفية عالية جعلتنا نتفاعل
مع الفيلم في شكله العام، بل ونتناسى بعض الهنات التي
وقع فيها قبل ذلك. حيث المونتاج جاء متفاوتاً.. بين
بطء ممل أحياناً في الجزء الأول، وسريع ولافت بل
وبطلاً للفيلم في الجزء الثاني منه.
مدير التصوير روبرت السويت، نجح في نقل جو المؤامرات
والتعذيب وحتى الاجتماعات داخل دهاليز السياسة
الأمريكية، بإضفاء إضاءة منخفضة لتجسيد هذا الجو
المشحون بالخداع والمؤامرة.. هذا إضافة إلى أن اختياره
لزوايا اللقطات جاء رمزياً وقدم كادرات ولقطات كبيرة
منحت كل كادر استقلاليته الكاملة بشكل يتناسب والنسق
البصري والنفسي لموضوع الفيلم.. على عكس إضاءته
الساطعة في مشاهد الأمير في بلده، ومن ثم تغييرها عند
اللقاء بوالده أو بالمسئولين الأمريكان، والتي كانت في
خدمة الدراما ومعبرة أيضاً عن حالات نفسية وسيكولوجية
مؤثرة.
هنا.. لابد من الإشارة بأن فيلم "سيريانا"، يعد عملاً
فضائحياً، ووجبة سياسية دسمة تكشف زيف سياسات تلك
الأجهزة الرسمية واللارسمية الأمريكية، وتجند كل
طاقاتها للسيطرة على مجريات الأمور في تلك المنطقة
الحساسة من العالم.. منطقة الثروة الأهم عالمياً. هذا
بالرغم من أن الفيلم تم حشره بالكثير من المشاهد التي
يمكن الاستغناء عنها ولا تؤثر على الأحداث، ولكن يبدو
بأن صناع الفيلم أرادوا أن يلم الفيلم بالكثير من
تفاصيل الكتاب الذي اعتمد عليه الفيلم. |