"دم
الغزال" وشاعرية الشخصيات
فيلم
(دم الغزال) يعد من بين أبرز أفلام موسم 2006، حيث منحه المهرجان
القومي الثاني عشر للسينما المصرية 6 جوائز من أهم جوائزه (أفضل فيلم،
أفضل إخراج، أفضل ممثلة، أفضل ممثل دور ثاني، أفضل ديكور، أفضل
تصوير)..!!
والفيلم يتناول موضوعاً مخالفاً لما طرحته أفلام السوق في نفس الموسم..
فيلم يقدم قضية التطرف والإرهاب.. وهو موضوع قديم ومطروح منذ سنوات على
الساحة السينمائية والتليفزيونية.. حتى أن كاتب السيناريو نفسه (وحيد
حامد) قد تناوله في أفلام (الإرهاب والكباب، طيور الظلام) وفي مسلسل
(العائلة).. وهو هنا في فيلمه الجديد يتناوله مرة أخرى ليحكي أحداث قصة
حقيقية وقعت في حي إمبابة الشعبي.. حي عتيق من أحياء الجيزة، الملاصقة
للقاهرة، وتحكي أحدث الفيلم عن عالم الفقراء والمهمشين ليكشف عن
انفعالاتهم وإحباطاتهم ويسلط الضوء على مجتمع مليء بالمتناقضات من
مشاعر وأحاسيس، تلك التي تختفي وراء أكوام من القمامة والمخلفات
والجريمة والهمجية التي تسيطر على المكان والزمان.. يحكي لنا الفيلم عن
أناس يعيشون في الجانب المظلم من الحياة.. مجاميع بشرية هائلة تضطرهم
ظروفهم ليكونوا مهمشين.. في مجتمع عشوائي..!!
في ظل
مجتمع كهذا، سهل التشكل والقيادة.. من الطبيعي وقوعه تحت سطوة شاب
متهور تحول إلى متطرف ديني ومن ثم حمل السلاح بدعم من الجماعات
الإسلامية، بعد أن استولت على الحي واعتبرته دولة مستقلة، يطبقون فيها
حدود الشريعة الإسلامية، في وضح النهار، على الحي وناسه، إلى أن انتبهت
الدولة وحررت الحي وسيطرت على الوضع، ولكن بعد ذهاب الكثير من
الضحايا..!!
هذا
ما أراد وحيد حامد والمخرج محمد ياسين أن يقولاه من خلال فيلمهما (دم
الغزال).. ولكن الأهم في الفيلم تلك العجينة المذهلة التي شكلت شخصيات
الفيلم.. والتي نجح حامد في إعطائها روح درامية جديدة.. أعطاها الكثير
من التفاصيل لتبدو مليئة بالمعاني والرموز والإيحاءات.. شخصيات مرسومة
بعناية فائقة تشعر بها وتتعايش مع معاناتها.. شخصيات من لحم ودم
استطاعت انتزاع إعجاب المتفرج وتعاطفه.. أغلبها شخصيات مهمشة، خصوصاً
تلك الشخصيات الثانوية التي أعطت للأحداث دفعة قوية من الشحنات
والمشاعر الإنسانية الفائقة الحميمية..!!
فجابر
عميش (نور الشريف) رجل كهل موظف على المعاش يعيش لوحده على سطح عمارة
شبه متهاوية، يربي الحمام ويسعد مع أسرابها، عندما يرسلها في السماء
لتطير وتعود إليه مرة أخرى. وهو يعيش أيضاً كذبة عندما يدعي بأنه يتلقى
إيراد أملاك له ليتعيش منها، وينفق منها على كل من يحتاج من محيطيه..
فالحقيقة هي أن هذا المال يأتيه من مهنة غريبة يجيدها تماماً.. فهو
يلقي بجسده أمام السيارات المسرعة، ومن ثم يقبل بتعويض مادي، بعد خروجه
بأقل الأضرار.. وتكون نهايته تحت عجلات سيارة سائق متهور، ولكن هذه
المرة دون قصد منه.
أما
شخصية عبده (صلاح عبدالله)، فنجده ذلك الإنسان البسيط والطيب القلب،
تلك الطيبة التي تقوده إلى ارتكاب أخطاء لا يعيها ولا يدركها.. لنشاهده
يتصرف ببراءة الأطفال.. يعيش هو وزوجته على راتبه من العمل جرسوناً في
نادي أرستقراطي.. وبالرغم من هذا فهو الذي يأوي الفتاة اليتيمة "حنان"
مع فقده لابنته..!! كما أنه يساعدها في إيجاد عمل كخادمة لدى سيدة
ارستقراطية في فندق ضخم.. معتقداً بأن هذا سيساعدها على الهرب من
الحارة ومن مطاردة البلطجي والطبال اللذين يتنازعان عليها.
وتؤدي
يسرا شخصية السيدة الغنية من الطبقة الأرستقراطية التي تدير النادي
الصحي، وتحاول أن تتغلب على معاناتها في حرمانها من ابنها الوحيد من
طليقها رجل الدولة وصاحب النفوذ والسلطان.. وتقبل بأن تعيش حنان في
منزلها، ليس فقط لمساعدتها، وإنما لتساعدها على تحمل تلك المعاناة
الصعبة.. ولتتكون تلك الألفة بينها وبين حنان وتعتبرها كابنتها.
شخصيات فيلم (دم الغزال) الثانوية كثيرة، ملء بها وحيد حامد الفيلم،
وهي شخصيات أغنت السيناريو وأعطته مذاقاً خاصاً.. جميعها بالتأكيد تدعم
مصداقية الشخصيات الرئيسية الثلاث وتزيد من تألقها.. حنان (منى
عبدالغني)، ريشه الطبال (محمود عبدالغني)، وعاطف البلطجي (عمرو واكد).
عاطف
البلطجي (عمرو واكد) يسيطر على أفراد الحي ويتحكم بمصائرهم بإجرامه
وجبروته.. شخصية تعد نتاجاً طبيعياً لحالة الفوضى والعشوائية التي
يعيشها أفراد الحي الشعبي الفقير.. نراه يجبر زوج حنان على تطليقها في
السجن، حتى يتسنى له التقرب منها. عمرو واكد في هذا الدور يؤكد قدراته
ورشاقته في تجسيد البلطجة والدهاء والوحشية.
ريشة
الطبال (محمود عبدالغني)، يقدم دور الطبال الذي يعشق حنان حتى بعد
زواجها.. وتكشف لنا هذا نظراته المليئة بالرغبة والشبق.. نظرات من
عينين تشعان بالحب والثورة والقسوة.. نراه لنيل مبتغاه، يتجه للجماعات
الإسلامية وينصب نفسه أميراً على الحي يحكم وينهي بحكم الدين، وينتقم
من أعداءه وتصفية حساباته معهم باسم الدين.. دون مراعاة لأي شيء، المهم
الوصول إلى ما يطمح إليه، حتى لو استدعى ذلك القتل.
وحدها حنان.. الفتاة الشفافة المغلوبة على أمرها
والبريئة من كل هذه الفوضى، نراها منذ اللحظة الأولى منقادة لأقدارها
ومنساقة لما يرتب لها أصدقاء والدها من تدابير لحمايتها من الطامعين
فيها.. وهي شخصية محورية تدور حولها جميع الشخصيات.. وكأن وحيد حامد
يمثل بهذه الشخصية الوطن نفسه.. المجتمع بكامله وما يدور به من فوضى
ومعاناة.. تلك الفتاة اليتيمة التي لم تكمل تعليمها، وتقبل الزواج بمن
لا تحب، بعد أن ملت نظرات العطف والشفقة المتجهة نحوها من كل صوب.. وهي
عندما تخرج من الحي الشعبي إلى عالم جديد وزاهي مليء بالبهرجة والزيف
المستتر، لا تعرف كيف تتعامل معه وتواجهه.. ويتجسد ذلك بشكل بليغ في
مشهد خروجها من الحي وهي ممسكة بيد صديق والدها.. لتظهر معالم الحي في
خلفية الكادر وتبين تفاصيل الشارع والأزقة المزدحمة والصاخبة.. نراها
تلقي بنفسها في هذا العالم الجديد مثلما يلقي
عاشق البحر نفسه بين الأمواج دون إدراكه لإمكانية العوم.. تتقاذفها
موجات وشحنات عاطفية واجتماعية ونفسية في أعماق ليس لها نهاية.. ولكن
رغم كل هذا، فهي الشخصية الوحيدة التي تمثل الجزء المشرق والإيجابي في
ظل البراءة المفقودة في جميع الشخصيات المهمشة التي تعيش هذه الفوضى..
وهذا ما جعلها هدفاً للجميع.
تلك
الشخصيات الرئيسية والثانوية التي عاشت أحداث الفيلم وتفاعلت معها..
والتي صاغها وحيد حامد في سيناريو محكم ومحبوك ينطوي على حوار لماح
ولاذع مليء بالمعاني والإيحاءات.. هذه الشخصيات نجح المخرج محمد ياسين
في التعامل معها بكاميرا حساسة وإضاءة درامية موحية وموسيقى معبرة إلى
أقصى درجة من درجات التعبير الدرامي.. نجح في إدارة فريقه الفني بكامله
ليعطينا معزوفة رائعة تتعامل مع المشاعر والأحاسيس أكثر منها مع
العقل.. بقض النظر عن موضوع الفيلم الجريء الذي تناوله السيناريو..
الفيلم يشكل سيمفونية للشخصيات والتفاصيل الصغيرة المهمة.
محمد
ياسين.. في ثالث أفلامه الروائية الطويلة (محامي خلع، عسكر في
المعسكر).. يبتعد كثيراً عن الكوميديا التي قدمها فيما سبق.. ليؤكد
بأنه مخرج متميز يعرف كيف يتعامل مع شخصيات وحيد حامد المليئة بالروح
الاجتماعية والنفسية.. شخصيات جعلها تنبض بالواقع المعاش.. وتقدمه
كواحد من أبرز مخرجي السينما المصرية الشباب..!! وتأتي جميع الجوائز
التي حصل عليها الفيلم لتؤكد على تميز الفيلم عن بقية أفلام الموسم.
|