الضجة التي صحبت فيلم (مملكة السماء)..
جاءت مختلفة إلى حد كبير بين مؤيد ومعارض، من العرب والمسلمين من جهة
والغربيين من جهة أخرى.. فقط لنتخيل بأن هناك معارضين من العرب
والمسلمين أيضاً.. بالرغم من الحياد الواضح الذي نطقت به أحداث هذا
الفيلم.. ترى ماذا سيكون رد الفعل العربي إذن، لو أن الفيلم جاء على
شاكلة أفلام هوليوود السابقة التي تناولت العرب والمسلمين..؟! هل سيكون
هناك من يعترض على ذلك..؟! بالطبع سيكون الأمر مختلف.. والغالبية
ستعتبر هذا الأمر ليس جديداً على مصانع هوليوود.
حضور فيلم يوسف شاهين (الناصر صلاح
الدين) كان طاغياً، أثناء مشاهدة (مملكة السماء).. ففيلم شاهين طبع في
الذاكرة صورة البطل صلاح الدين وكأنه أحمد مظهر.. وهذا الاستحضار جاء
تلقائياً نتيجة لأن تاريخ السينما العربية لم يجسد صورة هذا البطل
المسلم إلا مرة وحيدة.
عموماً.. لابد من الإشادة أولاً إلى ملحمية هذا العمل
الكبير، الذي جاء من مخرج عالمي يعد من بين أهم مائة مخرج في تاريخ
السينما العالمية، وهو البريطاني ريدلي سكوت.. هذا العاشق المتأمل
للسينما الملحمية وأفلام الخيال العلمي ليقدم من خلالها ابتكارات تقنية
وتكنولوجية.. أفلامه تؤكد أحقيته في أن يخلف مواطنه العبقري "ديفيد
لين" صاحب "لورانس العرب".. شاهدنا من قبل لصاحب (مملكة السماء)
أفلاماً مثل (The
Duellists - Blade Runner - Black Rain - Gladiator -Hannibal).
أحداث فيلمنا هذا تتناول الفترة ما بين
الحرب الصليبية الثانية والثالثة (مطلع الألفية الثانية).. والتي انتهت
بهزيمة الصليبيين على يد القائد المحنك صلاح الدين الأيوبي (أداه
بجدارة السوري غسان مسعود).. والذي يقدمه الفيلم في صورة القائد الشهم
المتسامح والنبيل.. في مقابل بطل الفيلم المسيحي باليان (أورلاندو
بلوم) الذي جاء إلى القدس ليتطهر من ذنوبه، لكن الظروف تجعله يواجه
صلاح الدين في حصاره ومعركته الأخيرة.
يقول الممثل أورلاندو بلوم الذي مثل دور بطولة في فيلم سيد الخواتم
والذي يلعب دوراً بطولياً في فيلم مملكة السماء: "إن تجربة العمل
في فيلم مملكة
السماء غيرت حياتي بالكامل. أظن أنني قد ازددتُ نضجا". وما من شك في
أنه أصبح أكبر
حجما إذ تعيّن عليه أن يزيد وزنه 10 كيلوغرامات ليقوم بدور باليان
الحداد الذي
يُرفّع إلى طبقة الفرسان.
أما سكوت، فيقول في هذا الشأن: "لقد استطعنا تصفية
الكثير من
الشوائب التاريخية وحققنا قدرا عاليا من التوازن. فأي كاتب جيد يعتمد
في
إبداعه على
البحث الجاد في الحقائق التاريخية، ويضفي على بحثه هيكلية ما، ثم يخلق
من كل هذا ما
يعتقد أنه يمثل الحقيقة. إني أحاول ما بوسعي أن أكون دقيقا من الناحية
التاريخية. وإذا ما فاته أمر ما، فعليك أن تتذكر أن هذا
مجرد فيلم".
قدم
سكوت أول أفلامه عام 1977 بعنوان "المتبارزون"
The Duelists.
وكان
دراما تدور في حقبة الحروب النابليونية. ومثّل فيه كيث كارادين دور البطولة كجندي يُجبر على الدخول في سلسلة مبارزات مع هارفي
كيتيل وفي مرحلة لاحقة
مثّل
كارادين دور القاتل الأسطوري وايلد بيل هيكوك في فيلم ديدوود
Deadwood
الذي حقّق شعبية كبيرة والذي أنتجته قناة أتش بي أو.
بعد
ذلك، قام بإخراج فيلم "من
الفضاء الخارجي"
Alien
وهو
فيلم رعب يدور في الفضاء الخارجي تولّدت عنه أفلام كثيرة
فيما
بعد. ثم جاء فيلم "عدّاء" Blade Runner،
وهو من أول أفلام الخيال
العلمي. وما زال سكوت يفتخر بهذا الفيلم.
ريدلي
سكوت في فيلمه الجديد (مملكة السماء) شغلته فكرة هامة، وسيطرت على
تفكيره.. وجعلتنا أيضاً نسجل احترامنا لها وله كفنان صاحب فكر بل وشجاع
في طرحه الفكري هذا دون اهتمامه فقط بالفكرة التاريخية.. جل اهتمامه
كان منصبا على الإنسان الذي يعلو فوق كل شيء حتى ولو كان ذلك على حساب
المقدس من الأديان جميعها.. فالفيلم بكل أحداثه ينتصر لقيمة الإنسان
قبل أي شيء.. لا يقدم لنا أحداثاً تاريخية بالمعنى الحقيقي، بل ينطلق
من نقطة في التاريخ ليتخذها ركيزة أساسية يبدأ بها.. الفيلم يقدم لنا
وجهة نظر المخرج الذي يسقطها على الأحداث من خلال التاريخ.. ولا يلتزم
حرفياً بالأحداث التاريخية، باعتبار أن الفيلم غير مطالب بكل ما هو
حقيقي وواقعي.. وذلك لإضفاء صفة الإبداع والرؤية الفنية الخاصة لصانع
الفيلم.
إضافة
إلى هذه الفكرة الشجاعة.. هناك معارك ملحمية أدارها سكوت بتكنيك يخطف
الأبصار.. مؤكدا ما شاهدناه سابقاً في فيلمه (Gladiator)،
خاصة المعركة التي تجسد سقوط القدس على يد صلاح الدين والمسلمين، والتي
ستبقى في الذاكرة السينمائية ضمن كلاسيكيات السينما العالمية.. حيث نجح
ريدلي سوت في إعطائها صفة الجمال والعظمة دون أن يسقط في فخ التعبير
التجاري الاستهلاكي.
لقد
تمّت الاستعانة بحوالي 1,500 جندي
مغربي
في تصوير المعارك. وتم بناء عدد من الأبراج كجزء من معارك الذروة التي
تدور
على
أبواب القدس، كما أنه ضاعف من استخدام الرسومات الكمبيوترية لجعل
المشاهد أكثر مواءمة لحقبتها التاريخية.
مشاهد
كثيرة رائعة تجعلنا نعلن صراحة بأننا أمام مخرج كبير.. يذهلنا استخدامه
لتقنية الإضاءة، تلك الإضاءة التي اقتربت من الإظلام والضبابية
المتعمدة، للإيحاء بالجو النفسي الكئيب للحدث.. ذلك الحدث الذي يقسو
على الإنسان ويستبيح دمه تارة باسم الدين وتارة أخرى باسم الثروة
والنهب.
|