مسكين هو
المتفرج البحريني.. حين يعتقد أو يتوهم بأنه من المتابعين الجيدين لما
تنتجه السينما العالمية من أفلام، ومن المطلعين على أهم النتاجات والتجارب
السينمائية العالمية، وذلك لأنه ـ أي المتفرج البحريني ـ معتمداً اعتمادا
كليا على ما تجلبه شركة البحرين للسينما ومحلات الفيديو التجارية، واعتماده
هذا لا يتيح له بالطبع إلا مشاهدة ما تنتجه استوديوهات هوليوود وفروعها
الأخرى في القاهرة وبومباي. ومن الطبيعي أن لا نطالب هذا المتفرج أن يكون
لديه قدر كبير من التذوق الفني للفن السينمائي، وذلك لأنه يجهل الكثير عن
التجارب والتيارات العالمية السينمائية، هذا إضافة إلى جهله لأسماء عمالقة
المبدعين في عالم والسينما والإطلاع على نتاجاتهم السينمائية.
كما أن
هوليوود وبومباي والقاهرة قد عودت المتفرج البحريني على نمط معين وأسلوب
وحيد للإنتاج، ليس من السهل التخلص عن قيوده. لذلك يمكن ملاحظة رد الفعل
المتحفظ لهذا المتفرج منذ الوهلة الأولى عندما تسنح له الفرصة للإطلاع على
أساليب أخرى لمخرجين كبار أمثال بيرغمان وفلليني وتاركوفسكي وغيرهم كثيرين.
لذلك يمكن القول بأن من حق المتفرج البحريني أن يتعرف من قريب على التجارب
السينمائية العالمية والتطورات الفنية المصاحبة لها. ويشاهد أفلام لا تنحصر
ضمن نتاج جنسيات محددة، بل تتجاوز هذا لكي تشمل كل بقاع العالم.. خلاصة
القول هو أننا في البحرين لا نشاهد سينما.
ومناسبة
هذا الحديث هو مشاهدتنا مؤخراً لفيلم يعد من أفضل ما أنتجته السينما
العالمية، ألا وهو فيلم (المدمرة بوتيومكين) للمخرج السوفييتي المبدع
"سيرجي آيزنشتاين". فلم يحظ فيلم في تاريخ السينما بما حظي به هذا الفيلم
من مجد. إنه يتصدر على الدوام قائمة أفضل أفلام العالم، لدرجة حصوله على
لقب (فيلم كل الأزمنة وكل الشعوب). ففي عام 1958 اجتمع في بروكس ببلجيكا
118 ناقداً سينمائياً ينتمون إلى 26 بلداً، واختاروا (المدمرة بوتيومكين)
كأعظم فيلم في تاريخ السينما. كذلك في عام 1972 أجرت مجلة "سايت أند ساوند)
البريطانية استفتاء ضم نقاداً عالميين اختاروا نفس الفيلم ضمن أعظم عشرة
أفلام أخرجت حتى عام ذلك العام. وفي عام 1986 احتفلت الأوساط الفنية
السوفييتية بالذكرى الستين على إنتاج هذا الفيلم.
إنه حقاً
فيلم سيظل خالداً كتحفة فنية عظيمة، حيث لا تزال السبعين دقيقة من عمر
السينما السوفييتية ـ مدة عرض الفيلم ـ لا تزال أصدائها تتردد في أوساط كل
المهتمين بالسينما الجادة، في الوقت الذي لا تزال فيه الرسائل من المهتمين
تصل إلى صناع السينما بالإتحاد السوفييتي لتزودهم بنسخ من الفيلم.
إذن
دعونا نتعرف على هذا الفيلم عن كثب.. تكونت فكرة الفيلم في عام 1925، عندما
عرض على إيزنشتاين تصوير فيلم يحكي عن ثورة 1905، احتفالا بالذكرى العشرين
لها. وقد رأى هذا المخرج الفذ، أن يركز على حادثة حقيقية معينة بإمكانها أن
تعطي صورة واضحة لتلك الثورة بدلاً من تناولها من جميع الجوانب، وكانت بحق
رؤية فنية عظيمة عندما اختار انتفاضة البحارة فوق
المدمرة
الحربية
بوتيومكين، مصوراً بعد ذلك تعاطف أهالي الأوديسا ومشاركتهم الفعلية مع
البحارة في تلك الانتفاضة.
ولا تكمن
أهمية هذا الفيلم في موضوعه الثوري فحسب، وإنما في ذلك الكمال الفني
والدرامي المبتكر، في ذلك المونتاج الدقيق والمحكم والمثير للحماس، حيث
يخلق علاقة حميمية بينه وبين المتفرج، في تلك التراجيديا الجماهيرية التي
تهيمن على مشهد المجزرة الجماعية على سلالم الأوديسا حيث الجنود القوزاق
يطلقون النار دون تمييز على الأهالي المحتشدين على السلالم، في تلك الوحدة
الثورية بين الماء واليابسة بين البحارة المتمردين والكادحين المتعاطفين،
في تلك التفاصيل الدقيقة المبتكرة حيث السياق البنائي والمونتاج المتنامي.
كل هذا وغيره قد جعل من فيلم (المدمرة
بوتيومكين) نموذجاً للكمال الفني
الملحمي، وأثراً فنياً كلاسيكياً عظيماً في القرن العشرين.
إن فيلم
(المدمرة
بوتيومكين) يعتبر بحق فريداً من نوعه من حيث المضمون والشكل، كما
تكمن جوانب الروعة فيه من تلك المشاهد واللقطات التي جاءت على درجة كبيرة
من التناسق والتجانس، لدرجة أن جميع المدارس الفنية المتخصصة بتدريس
الإخراج قد عمدت إلى تدريس هذا الفيلم والتركيز عليه نظراً لأهميته. |