إصدارات حداد

 
 
 
 

سينما داوود عبد السيد.. واقعية بلا حدود

بقلم: عدنان حسين أحمد

 

الإصدار الخامس

 

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

صدر ضمن سلسلة "سينماتك" كتاب جديد للناقد السينمائي البحريني حسن حدّاد يحمل عنوان "سينما داوود عبد السيّد.. واقعية بلا حدود" كتب مقدمته الشاعر المعروف قاسم حدّاد، وهو شقيق حسن ومعلّمه الأول الذي قاده إلى سحر البدايات الثقافية وترك له حق الاختيار بين الكلمة والصورة، فاختار الثانية لكنه لم يتخلَ عن الأولى تمامًا وإنما كان يعود إليها كلّما سنحت له الفرصة ليمتحّ منها الأفكار ويستمتع بعبق الكلام الذي يلامس شغاف القلب، ويستوطن تلافيف الذهن المتوهج. قد يبدو عنوان هذا الكتاب منفتحًا أكثر من اللزوم لكن من يقرأ المقطع الأخير من المقدمة التي كتبها المؤلف سيُدرك الهدف الذي يتوخاه الكاتب وهو أن يقدّم نبذة مختصرة عن هذا المخرج السينمائي الفذ "الذي أبى أن يقدّم ما يريدونه، بل ما يريده هو.. كمبدع مُهتم بقضايا بلده وناسه".

على الرغم من اهتمام حسن حدّاد بالسينما المصرية عمومًا وبمخرجي الواقعية المصرية الجديدة على وجه التحديد إلاّ أنه لم يستطع أن يكتب عنهم جميعًا وبضمنهم داوود عبد السيد المُلقّب بـ "فيلسوف السينما المصرية" الذي أنجز 3 أفلام وثائقية، و 9 أفلام روائية، وسبق له أن عمل مساعد مخرج في ثلاثة أفلام روائية أخرى. فلاغرابة أن يصرّح حدّاد بأنّ هذا الكتاب يغطي 3 أفلام روائية فقط لداوود عبد السيد ويعتقد أنها تمثل أسلوبه، وتوجهاته الفكرية، ورؤيته لعالم الفن السابع. ومن يتمعّن في فصول هذا الكتاب سيرى أنه أقرب إلى السيرة الذاتية والإبداعية لداوود عبد السيد وإن اقتصرت على ثلاثة أفلام روائية وهي: "الصعاليك" 1985م، و"البحث عن سيد مرزوق" 1990م، و"الكيت كات" 1991م. كما رصد الناقد تطلعات المخرج في يفاعته وسنوات شبابه، ودراسته للإخراج السينمائي في المعهد العالي للسينما في القاهرة، وتخرجه سنة 1967م، التي وُصفت بسنة الهزيمة التي تركت أثرها السيء على الشباب في كل مكان من عالمنا العربي. كما يقدّم رؤية داوود عبد السيد للزمان والمكان وبناء الشخصية إضافة لاهتمامه بعناصر الفيلم الأخرى كالتصوير والمونتاج والمؤثرات الصوتية والبصرية وما إلى ذلك.

تبدأ المقدمة بجملة صادمة مفادها "ليس اعتزلاً وإنما فضيحة"! ويقصد بها "صرخة احتجاج على أوضاع الساحة السينمائية في مصر". لم يكن عبدالسيد هو المحتج الوحيد وإنما هناك آخرون يحتجون بطريقتهم الخاصة، فيُسري نصرالله قد صرّح قبل سنوات بأنه "يبحث عن فرصة عمل كطبّاخ"، وأنّ خيري بشارة، وعلي بدرخان، ومحمد فاضل ليسوا أفضل حالاً من صاحب "الكيت كات" الذي اعتزل مذ وضع اللمسات الأخيرة على "قدرات غير عادية" 2015م، آخر أعماله الروائية حتى الآن، فهم لا يعملون أيضًا، وليس هناك ما يُغريهم في العمل الإخراجي. يتتبع الناقد انغماس عبد السيد في ثلاثة أفلام وثائقية وهي: "وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم" 1976م، و "العمل في الحقل" 1979م، و"عن الناس والأنبياء والفنانين" 1980م. ثم عمل مساعد مخرج في فيلم "الأرض" ليوسف شاهين، و"الرجل الذي فقد ظله" لكمال الشيخ، و"أوهام الحُب" لممدوح شكري لكنه لم يحب هذه المهنة التي تتطلب تركيزًا عاليًا يفتقر إليه. ويعترف عبدالسيد بأنّه كان يطمح أن يكون صحفيًا ولم يفكر بالإخراج السينمائي الذي حفّزه عليه ابن خالته. يؤكد الناقد بأن عبد السيد يتبنّى "سينما المؤلف" التي تُتيح له أن يجسّد رؤيته الفنية والفكرية. وأنه يحب الكتابة رغم أنها مهنة شاقة، ويفضل التصوير في الإستوديوهات، ويُولي عناية كبيرة بشخصيات أفلامه، كما يعتمد على النهايات المتعددة في الفيلم الواحد كما حصل في "الكيت كات". ورغم اختلافه مع محمد خان، وخيري بشارة، وعلي بدرخان في الأساليب والأفكار السياسية إلاّ "أنهم مهتمون جميعًا بالسينما كفن".

يعرف المتابعون للسينما المصرية أحداث فيلم "الصعاليك" الذي عُرض في مهرجان القاهرة السينمائي وكان بمثابة "شهادة ميلاد لمخرج جديد، وسينمائي يمتلك رؤية فنية اجتماعية". أما ثيمة الفيلم فتتمحور على موضوع الصداقة بين شابين وليس عن صعودهما. ويرى الناقد بأنّ الفنانة يسرى قد وصلت في أحد مشاهد الفيلم إلى ذروة أدائها الذي تألقت فيه. كما راهنَ عبدالسيد على الأداء الطبيعي لنور الشريف، وعلى قدرة محمود عبدالعزيز في شدّ انتباه المتلقين لحيويته، وخفّة دمّه، ويقَظته المتأججة. ومع ذلك فإنّ حدّاد ينتقد فتور السيناريو في النصف الثاني من الفيلم وتطويل فكرته لكنه يُشيد بنظرة الفيلم المتحررة من الأفكار والأحكام المسبقة.

على الرغم من أنّ فيلم "البحث عن سيد مرزوق" 1990م لا يبتعد عن الواقع كثيرًا، بل يعبّر عنه بحرارة وصدق إلاّ أنه عمل فني متميز حطّم فيه المخرج كل تقاليد الفيلم المصري البالية، كما يرى حسن حدّاد، بل يعتقد أنه تجاوز فيه الواقعية الجديدة التي صنعها الفرسان وقدّم أسلوبًا تعبيريًا قريبًا من السُريالية أو مُحاذيًا لها. يتمحور الفيلم على أربعة عوالم وهي: عالم السادة الذين يملكون كل شيء ويحميهم القانون، وعالم المُطارَدين المناوئين للسادة، والخارجين على قوانينهم، وعالم "الغلابة" الذين لا حول لهم ولاقوة، وعالم المتمردين الذين يواجهون السادة بقوة وشجاعة. يصف الناقد سيناريو هذا الفيلم بالخلاّق وقد اعتمد فيه عبدالسيد على منطق اللاوعي الذي تجلى في الأحلام والكوابيس من دون أن يجعلنا نفقد الصلة بالواقع. تتمثل خلاصة الثيمة بأنّ "السلطة مشغولة بحماية حرية السيد وتكبيل حرية المسود". كما تتشظى الثيمة إلى حيرة المثقف الذي ينتمي إلى الطبقة المتوسطة وترصد ما يعانيه من أزمات فكرية وروحية من خلال بحثه عن العدالة والحرية. لم ينل هذا الفيلم ما يستحقه في عرضه الجماهيري لأن دعاية المنتجة سميرة أحمد كانت ضعيفة كما أن عرضه جاء بعد انتهاء مهرجان القاهرة السينمائي الذي تزوّد فيه الجمهور بجرعة كبيرة من الأفلام.

يعتقد حسن حداد بأن "الكيت كات" هو أنموذج جيد لترجمة العمل الأدبي إلى رؤية سينمائية. فالسيناريو الذي كتبه عبدالسيد مستوحى من رواية "مالك الحزين" لإبراهيم أصلان وهي تحتوي على أكثر من 40 شخصية، وأحداثها تدور في أقل من 24 ساعة لكنّ عبد السيد انتزع منها شخصيتين محوريتين وجعل باقي الشخصيات تدور في فلكهما وهما الشيخ حسني وابنه يوسف، فالأول مدرس موسيقى سابق، فاقد للبصر لكنه يمتلك بصيرة ثاقبة وإصرار عجيب على تحدّي العاهة ورفض العجز. والثاني هو ابنه شريف، شاب عاطل عن العمل، ومُصاب بالإحباط، ويعاني من العجز في التواصل الجسدي مع فاطمة، ويحلم بالسفر إلى الخارج هربًا من الأوضاع المزرية في البلد. أمّا بقية الشخصيات فهم إجمالاً من المنسيين الذين يعيشون على هامش المجتمع ويجدون أنفسهم مُحاصرين في واقع أليم وخانق. ويذهب الناقد إلى أنّ جدران المنازل في شارع "الكيت كات" تحاصر ساكنيها وتدفعهم إلى الهرب. ويختم حدّاد إلى أنّ عرض "الكيت كات" قد استمر لأكثر من 20 أسبوعًا وقوبل بالاستحسان والتقدير من النقّاد والمشاهدين على حد سواء وحصل على عدد كبير من الجوائز حتى أنّ مهرجان جمعية الفيلم أسند إليه ثماني جوائز دفعة واحدة فلاغرابة أن يتربع عبد السيد من خلال 3 أفلام لا غير في مقدمة الصفوف التي تحتفي بكبار المخرجين السينمائيين المصريين.

جدير ذكره بأنّ حسن حدّاد ناقد سينمائي من مواليد "المحرق" في البحرين سنة 1958م. عمل في صحف ومجلات ومواقع سينمائية متعددة، ويشرف حاليًا على موقع سينماتك منذ عام 2004م. أصدر عشرة كتب في النقد السينمائي من بينها "ثنائية القهر والتمرّد في أفلام عاطف الطيب"، و"صلاح أبو سيف.. أستاذ الواقعية في السينما المصرية"، و"محمد خان.. سينما الشخصيات والتفاصيل الصغيرة"، و"فاتن حمامة... سيدة السينما العربية".

 

الشارع المغاربي التونسية في 

05.12.2023

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004