جديد حداد

 
 
 
 

ناصر خمير:

جذوري في ابن خلدون والطبري

 
 
 

جريدة الوطن

 
 
 
 
 
 

يبدأ فيلم "بابا عزيز" مشواره مع الجوائز من عُمان.. حيث فاز مؤخراً بجائزة أفضل فيلم في مهرجان مسقط السينمائي الأخير.. بعدما عرض في مهرجانات كثيرة قبله، منها دمشق، القاهرة، مراكش، وغيرها من المهرجانات التي جرت خلال عام 2005. هذا الفيلم يشكل عودة قوية لصاحب فيلمي "الهائمون" و"طوق الحمامة المفقود".. المتصوف التونسي المخرج المتميز "ناصر خمير". وفيلمه الأخير هذا يتناول من خلال مجموعة متداخلة من القصص والحكايات بأسلوب ألف ليلة وليلة، فكرة الماضي وعلاقته بالحاضر، كما يناقش مغزى الوجود من خلال الدين بالمعنى الفلسفي الروحي حتى التصوف، والمعاصرة بمعنى عدم إنكار الحياة.

لنتخيل.. بأن مخرجاً قدم طوال أكثر من عشرين عاماً فيلمين روائيين طويلين و"بابا عزيز" ثالثهما.. هذا هو حال مخرجنا "ناصر خمير". وهذا لم يأتي إلا لأن هذا المخرج قد أصر على عدم مجاراة المناخ السائد في السينما العربية، مثله مثل العبقري شادي عبد السلام.. الذي رحل وترك في ذاكرة السينما فيلمه الاستثنائي "المومياء". يقول خمير: (...إن لزمني عشر سنوات لإنجاز فيلم فلا بأس. أنا أكتب وأرسم. عرضت 300 قطعة من لوحات ورسوم ومنحوتات وجداريات في المتحف القومي للفنون الجميلة في تونس عام 2002 وعرائس دعيتها "طفولة فلسطينية". ثمة تمويه لدور الفنان عندنا. وتحت تأثير المساعدة جعلنا من الفنان مناضلاً militant. ثمة أعمال متوسطة لا تحتاج إلى السينما بل إلى عالم اجتماع أو سياسي أو لمقالة تكتب عنها ولكن ليس لفنان. الفن والجماليات مقومات أساسية في كل مجتمع, هي قلب المجتمع النابض ونحن أكثر من أي مجتمع آخر بحاجة إليها...). 

ولنتخيل أيضاً.. بأن فيلماً مثل "الهائمون" مضى على إنتاجه أكثر من عشرين عاماً.. لم يعرض قط في البحرين.. إلى أن جلبه المقيمون على الأسبوع الثقافي التونسي عام 2004. هذا بالرغم من أهمية فيلم كهذا.. حصل على تقدير عالمي وجوائز كثيرة (جائزة أفضل مخرج في قرطاج عام 1984، الجائزة الذهبية في مهرجان فالنسيا بأسبانيا عام 1985).. ومازال يعرض في المحافل السينمائية العالمية.. ونخشى أن ننتظر عشرين عاماً أخرى لنرى فيلميه "طوق الحمامة المفقود"، وعشرون أخرى لمشاهدة فيلمه الجديد "بابا عزيز"..!!

"الهائمون".. كان واحداً من الأفلام التي قرأنا عنها كثيراً ولم نشاهدها.. وكان مثار الرغبة الجامحة لمشاهدته.. لذا كانت مشاهدتنا المتأخرة له مختلفة على أكثر من صعيد.. الأول هو أنه فيلم من إنتاج الثمانينيات من القرن الماضي.. زمن السينما الجميل.. وثانياً، لإحساسنا بأننا نشاهد فيلماً فيه طعم سينما العبقري "شادي عبد السلام"، وهذا بالفعل إحساسنا الصادق.. لأن صانعه، فنان ومفكر أكثر منه سينمائي. كانت الصور والمناخ الذي وفره لنا خمير في الفيلم.. يوحي بتلك الحضارة المفقودة عند العرب.. حضارة علمت الغرب الكثير.. لاحظ.. "علمت"، ولا وجود لتأثيرها الآن بالطبع. ثم ذلك التداخل بين الحلم والواقع.. الأسطورة والحلم. إنه جمال أخاذ يوحي لك بذلك العمق الجمالي لدى ناصر خمير.

قال خمير ذات مرة.. في وصفه للحال السينمائية: (...أرى إن للسينما بعدا ً روحيا وهو غائب عن العقلية العربية، لذا فلا سينما عربية. فيبدو أن الفهم العربي للتطور هو إلى الأسفل وليس للأعلى الذي تم نسيانه. فبات كل ما يجري الآن هو الاهتمام بالأسفل فقط! أما السينما العربية فهي لا تنفك عن إعادة نفسها. نشاهد أفلاما ً مستنسخة عن أفلام أخرى وأفلاما ً مستنسخة عن تلك المستنسخة!  وهذا ينسحب على معظم الإنتاج السينمائي العربي...). بينما يؤمن بأن دوره كفنان هو (...بعث الروح في الفرد, في المجتمع, في الحضارة. القيام بقراءات جديدة وتوليد للماضي والحاضر والمستقبل. الفنان هو الخلاصة هو الشمولية...).

وهو يؤكد على هويته الحضارية، عندما يقول: (...لست من الشرق ولا من الغرب. لكن جذوري في ابن خلدون والطبري والأمير عبدالقادر والرومي وناظم حكمت. أنا مجبر على السير دائماً وليس بمقدوري التوقف فلا ملجأ لدي. وما يدفئني هو الأمل وللاستمرار في الأمل أمامي وسيلة وحيدة: متابعة العمل. ومن ثم وعلى رغم إحساسي بأنني يتيم هذه الحضارة (العربية الإسلامية) بيد أنني أحتفظ بحب كبير لها وهذا ما يدفعني للبحث الدائم...).

ناصر خمير.. فنان ـ أخشى ـ أن يصبح مصيره كمصير صاحب "المومياء".. الذي رحل بعد أن كان عنيداً في حربه مع الجهل المتفشي في مؤسسات وأجهزة ثقافية أحجمت عن إنتاج فيلماً، كان سيعتبر مفخرة لمن يصنعه.. فهل خشيتي هذه في محلها.. لا أرجو ذلك!!

حسن حداد

 

ناصر خمير:

تربى ناصر خمير منذ طفولته، الذي ولد بتونس عام 1948، على الحكاية وثقافتها الخارجة من ألف ليلة وليلة. ليهيم بعدها بالتصوف الذي كان مادة لأفلامه التي أثارت انتباه النقاد إليه. تعلم كيف يسرد الحكاية وكيف يطورها من خياله الخاص بطريقة ساحرة جعلت "أنطوان فيتز" يدعوه عام 1982 ليروي قصص "ألف ليلة وليلة" على خشبة مسرح شايلو الوطني، حيث كان يحكي أمام النظارة المشدودين إليه طوال ساعة ونصف من ذاكرته وخياله. هو كاتب وشاعر وسينمائي وخطاط ورسام ونحات. نشر 12 كتابا حكائيا وشعريا منها: "شهرزاد"، "الغيم العاشق"، "الشمس المحبوسة"، "ساحة العباقرة"، "أبجدية الرمال" و"حكاية القصابين". في تونس أقام، معرضا للرسم والنحت (260 لوحة و 409 عملا نحتيا) بتقنيات مختلفة. اخرج أول فيلم للسينما في تونس عام 1975 "حكاية بلاد ملك ربي" ثم اخرج بعده بعام فيلم "الغولة"، وهي تسجيلية. ثم في عام 1984 اخرج فيلمه الروائي الطويل المهم "الهائمون"، وفي عام 1990 فيلمه الأهم "طوق الحمامة المفقود"، وعام 1991 الفيلم القصير "البحث عن ألف ليلة وليلة". أكمل العام الماضي فيلمه الثالث ذي الإنتاج والتمثيل المشترك (إيراني تونسي أوربي) وباللغات العربية والفارسية والفرنسية (بابا عزيز) كتسمية أولية. وهو ضمن نفس الموضوعة التي يشتغل عليها في كل أفلامه (التصوف والبحث عن المفقود أبدا). يعتبر نفسه كلا متداخلا كرسام وكاتب وسينمائي.

 

الوطن البحرينية في

08.02.2006

 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2018)