في باكورة أفلامه الروائية (الصعاليك ـ 1984)، يقدم
المخرج داود عبدالسيد قصة صداقة حميمية وساخنة
جداً، بل آسرة وحزينة.. صداقة بين صعلوكين، صلاح (محمود عبد
العزيز) ومرسي (نور الشريف).. يعيشان حياة اللامبالاة
والصعلكة، ويمران بمراحل تصاعدية في السلم
الاجتماعي إلى أن يصلا إلى عالم الصفقات
والمال. مستعرضاً حركة المجتمع المصري وما صاحبها
من تغيرات اقتصادية واجتماعية، حولت البعض من صعاليك إلى أصحاب
ملايين.
يقترح علينا عبدالسيد الصداقة كطريق لمواجهة مجتمع
الصفقات والملايين.. ويحاول البحث عن المنطق
النفسي والاجتماعي في تصرفات شخصياته.. كما استطاع
الكشف عن ما يعتمل في داخلها من الحب والاشتهاء والندم أو الخيانة
والجشع. كل ذلك من خلال عرض واقعي صادق لحياة
صعلوكيه، في محاولتهما تأمين احتياجاتهما المعيشية،
التي تبقيهما أحياء بواسطة أي عمل شريف (الشيالة، السياقة، مسح
السيارات وتنظيفها والمناداة على الركاب)، أو غير
شريف (النصب، السرقة، أو العيش بقوة الذراع).
في النصف الأول من الفيلم، نجح
عبد السيد في تجسيد معنى تلك الصداقة بين صلاح
ومرسي، في مرحلة الفقر والتشرد
والصعلكة، وذلك من خلال مشاهد قوية وقصيرة ذات
إيقاع سريع، وبشكل عفوي وواقعي ندر
تناوله في السينما المصرية.
أما النصف الثاني من
(الصعاليك)،
فقد جاء مختلفاً في أسلوب الطرح والمعالجة، وفاقداً
لبعض قوة التأثير والجمال. هنا
يتابع عبد السيد مسار شخصياته، مقدماً لنا تفاصيل
كثيرة ومعقدة. فالصديقان الآن يعيشان فتوراً وتوتراً في علاقتهما،
تلك العلاقة التي بدأت تفقد بريقها الأول. فقد
وصل عبد السيد بالفيلم إلى المنطقة الحرجة في علاقة
صلاح مع مرسي، أو بالأحرى إلى
ثنائية العقل والقلب أو العقل والمشاعر.
يصل الفيلم إلى النهاية
المأساوية، نهاية العلاقة الحميمية بين الاثنين..
نهاية لحياة صلاح الذي رفض الخضوع
لابتزاز مافيا الانفتاح. وهي بالطبع ثمناً غالياً
لاحتفاظ مرسي بكل ما وصل إليه.
إنها نهاية للفيلم، لكنها بداية جديدة لصعلوك آخر..
نهاية تعني الكثير وتنقل واقعاً
قائماً.. إنه عالم الصراع في دنيا المال. وعبدالسيد
هنا لا يعبر عن هذه الثنائية
(العلاقة) كأمر طبيعي لا مفر منه، وإنما يعتبر أن
الطبيعي هو عدم وجود هذه الثنائية
واستمرارها، حيث أن نهاية الفيلم هي النتيجة
الوحيدة لهذه الثنائية على أرض
الواقع.
وفي (الصعاليك) تبرز لنا وجهة نظر مختلفة للجنس عن
ما هو سائد في السينما المصرية. فالجنس هنا لا يحمَّل بفكرة
الخطيئة، والشخصيات مكللة ببراءة أولية تجعلها إنسانية.. وقد كان
عبد السيد حريصاً ـ أيضاً ـ على اختصار الزمان إلى أقصى درجة
ممكنة، بحيث لا يتعارض ومسار الأحداث الدرامية وتكوين شخصياته.
فاستطاع بذلك التخلص من الزوائد التقليدية، خصوصاً في النصف الأول
من الفيلم. فهو يقدم لنا مثلاً، علاقة مرسي بصفية وزواجهما، في
مشاهد معدودة قصيرة جداً. كما أنه لا يسرد لنا قصة مطولة ومقحمة عن
وفاة والد صفية، بل يكتفي بلقطة واحدة قصيرة لصفية وهي بثياب
الحداد السوداء. ثم لا ننسى الإشارة إلى أن السيناريو كان موفقاً
إلى درجة كبيرة في رسم وصياغة مشهد تهريب المخدرات من الميناء.
مستفيداً من أسلوب المفاجآت، لشد انتباه المتفرج والتلاعب بمخيلته.
لم يستطع عبد السيد - في فيلمه الروائي الأول -
التخلص من مآخذ العمل الأول، حيث احتوى (الصعاليك) على التطويل
والدسامة في الأفكار خصوصاً في النصف الثاني، رغبة منه بالإحاطة
بكل شيء، مع أنه لو واصل فيلمه بنفس الوتيرة التي في النصف الأول،
لنجح فعلاً في تخطي سلبيات كثيرة. وبالرغم من تلك السلبيات التي
احتواها الفيلم، إلا أنه استطاع الكشف عن ميلاد مخرج متمكن من
أدواته السينمائية ومتواصل مع مجتمعه. فقد أثبت بأنه قادر على
كتابة الصورة السينمائية المعبرة، وتحويلها إلى نبض متدفق بالمشاعر
والأحاسيس الجياشة. كذلك نجح بالتخلص من قيود الأستوديو الجامدة،
مقدماً نظرة جديدة للإسكندرية بشوارعها وأزقتها، خصوصاً وأن تجربته
في مجال الفيلم التسجيلي قد وهبته إحساساً غنياً بالطبيعة والواقع.
لهذا جاء فيلمه الروائي الأول غنياً بالتفاصيل الحية، مستغلاً
أماكن التصوير بشكل موحي ومؤثر، مما أضفى على طابعاً واقعياً
صادقاً.
ثم لا ننسى الإشارة إلى أن فيلم (الصعاليك)، لا
يشكل مولد فنان سينمائي فحسب، بل يشكل ـ أيضاً ـ مولد فنان موسيقي
مبدع، هو الفنان "راجح داود"، حيث عبرت موسيقاه عن مسار أحداث
الفيلم ودواخل شخصياته، واستطاع تقديم نموذج حقيقي للموسيقى
التعبيرية، تندمج في الفيلم فتصبح جزءاً من الصورة السينمائية.
فيلم (الصعاليك)، كتابة
وإخراجاً، يقدم نظرة جديدة للعلاقات الشخصية.. نظرة
متحررة من كل حكم وأفكار
مسبقة.. نظرة غير أخلاقية، بمعنى أنها لا تنجر وراء
الأحكام الأخلاقية على السلوك البشري، بل تبحث وتتفهم الدوافع.
فالشخصيات التي يقدمها عبدالسيد، يلفها بالحنان
دون التقاضي عن نقاط ضعفها. وفي منأى عن ثقل فكرة
الخطيئة، يلتقط نماذج شفافة تحيا
مشاعرها بقوة.. بتطرف، تحترق من ركضها اللاهث وراء
شعاع سعادة
ورفاهية. |