يتناول داود عبدالسيد في فيلمه (البحث عن سيد مرزوق
ـ 1990)، وبأسلوب
جديد، يوماً حافلاً في حياة بطله يوسف كمال (نور
الشريف)، وهو موظف يعيش ما بين
عمله وبيته، في عزلة عن العالم منذ عشرين عاماً.
نراه يستيقظ صباحاً كعادته ليذهب للعمل، لكنه يكتشف بعد خروجه من
المنزل، بأن اليوم هو الجمعة وأجازة. هنا يقرر في
أن يخرج من عزلته الطويلة هذه، ولو ليوم واحد،
يقضيه خارج المنزل.
وبالتالي يبدأ رحلة مليئة
بالأحداث الغريبة عليه، ويلتقي بشخصيات عدة، أيضاً
غريبة عن عالمه. ومع تطور
استيعابه ـ تدريجياً ـ لهذا العالم، يشعر بخطئه
بعزلته الطويلة تلك. ولكي يتطور
استيعابه وينمو وعيه، بخروجه من هذه العزلة، عليه
أن يصطدم مع الآخرين ومع السلطة
أيضاً. فهو يلتقي بشخصيات غامضة تظهر وتختفي..
شخصيات تبدوا وكأنها متصلة ببعضها في
لعبة صحيتها هو، ومخططها وقائدها شخص يدعى سيد
مرزوق.
والفيلم في تناوله وتشخيصه
للمجتمع المصري في مطلع التسعينات، يتحدث عن أربعة
عوالم يتكون منها الواقع الراهن.
عالم السادة الذين يملكون كل شيء ويحميهم القانون،
وعالم المطاريد الخارجين على السادة وقوانينهم، وعالم الغلابة
القابعين في منازلهم، وأخيراً عالم المتمردين المشاغبين الذين
يواجهون ويجابهون بقوة وشجاعة. وبهذا التقسيم للمجتمع، يدين الفيلم
ـ وبعنف ـ تلك السلبية التي تكمن في أمثال بطله
يوسف كمال، والذين سمحوا لبعض
الطفيليين بأن يتبؤوا مراكزهم في حاضرنا، وإنهم
بسلبيتهم وعجزهم عن المواجهة، قد
أتاحوا الفرصة لأمثال سيد مرزوق أن يفرضوا وجودهم
وسلوكياتهم على واقع الحياة في
مصر. فبطل الفيلم يوسف قد آثر العزلة، وأحجم عن
الخروج إلى الحياة والمشاركة فيها، خوفاً وهلعاً وامتثالا لصوت
قاهر أمره بالرجوع إلى بيته. ولأن الفيلم يرفض حالة
الإذعان والامتثال والسلبية التي يعيش فيها يوسف،
فهو بالتالي يقدم تحليلاً دقيقاً
ـ عبر بناء درامي محكم ومتماسك ـ عن نقل بطله من
حالة الهزيمة الداخلية إلى حافة
الفعل المجهض والتمرد الأخرس.
في بداية الفيلم، ومنذ اللحظات
الأولى، يكتشف يوسف عالم سيد مرزوق ويقع أسيراً له
.. بل ويعلن بصراحة وبراءة «أنا
بحب سيد مرزوق.. أنا عايز سيد مرزوق» . إلا أنه
يدرك، وعبر رحلة يوم واحد فقط، مدى
زيف هذا العالم الذي انبهر به، ومدى توحشه وكذبه.
فسيد مرزوق هو نموذج لعالم السادة المتحكمين في كل شيء.. عالم بدأ
يزحف ليستعيد مواقعه السابقة.. عالم نجح تماماً في
أن يتسيد عن طريق ثروته ونفوذه. هذا بالرغم من أنه
عالم يتصف بالسوقية والابتذال
والخواء الروحي، والمستند أساساً على تاريخ مزيف،
ساعياً نحو لذائذ الحياة بتطرف،
حتى ولو كان ذلك على حساب العوالم الأخرى. ومع ذلك
النمو المتواصل لوعي يوسف كمال،
نتيجة توالي الأحداث وتأثيرها عليه، يقرر مواجهة
سيد مرزوق والتمرد عليه. فهو يشعر
برغبة في التحرر والتحدي، إذ يعلن في ثقة «ح أقتلك
يا سيد مرزوق»، وبذلك يعتبر من عالم المطاريد في نظر السلطة، التي
تحمي سيد مرزوق.
هنا لا يفوتنا الإشارة إلى أن
الفيلم يقدم هجائية متواصلة للسلطة/ الشرطة، ممثلة
في رجلها المقدم عمر وبقية رجال
الأمن والمباحث، وذلك من خلال عشرات المشاهد
المشحونة بالتفاصيل الصغيرة الموحية.
فنحن مثلاً نفهم بأن الذي أمر يوسف بالرجوع إلى
منزله، هو مخبر.. والذي يطارد شابلن
المصري ويقاسمه في رزقه هو عسكري أو ضابط.. ويد
المقدم عمر هي التي تضغط على جرح
يوسف وتؤلمه، حين يدعي بأنه يربت عليه ويعتذر منه..
ورجال عمر هم الذين يقتحمون
الحضّانة.. وكلابه هي التي تسعى لنهش جسد يوسف
وحماية جسد سيد مرزوق. إن السلطة
/
الشرطة، كما قدمها عبد السيد في فيلمه هذا، مشغولة
بحماية حرية السيد، وتكبيل حرية
المسود.
وفي مشهد موحي ومؤثر، يعلِّم عبد
السيد يطله درساً بليغاً، حين يقول بأن الحرية أقرب
إلينا مما نتصور، وإن القيد
الحديدي، أو أي قيد آخر يكبلنا، من السهل التحرر
منه إذا امتلكنا الإرادة. جسد عبد
السيد هذا المعنى في مشهد يظهر المقدم عمر وهو يحرر
قيد يوسف، حيث نرى كيف أن القيد
يخرج بسهولة من معصم يوسف، وهو الذي ظل يربط يوسف
بالكرسي، وجعله يحمله على كاهله
أينما ذهب، متوسلاً عمر كي يفكه. وتركيز الكاميرا
على الكرسي، والقيد يتدلى منه،
لهو تأكيد بالصورة على أن الحرية أقرب إلينا من حبل
الوريد، إذا شئنا أن نراها
وفكرنا في انتزاعها. |