جديد حداد

 
 
 
 
 

من ذاكرة السينما..

العوامة رقم 70

 
 
 
 

جريدة

أخبار الخليج

 
 
 
 
 
 

في ظل موجة الأفلام الهابطة التي سيطرت على سوق الفيلم المصري في ثمانينات القرن الماضي، برز لنا فيلم (العوامة رقم 70) إنتاج عام 1982، لمخرجه خيري بشارة. ليكون بشارة للغد الآتي لسينما تحترم المتفرج.. وليعتبر أحد الأعمال الجريئة والجادة التي ناضلت من أجل قيام سينما متقدمة وسط الكم الهائل من الأفلام التجارية التي تصيب المشاهد بالتبلد الحسي المؤقت عند مشاهدتها.

و(العوامة رقم 70) رمز لجيل السبعينات ومشاكله، ومن خلال استعراض شخصيات الفيلم يكون لدينا محصلة نهائية لمفهوم الفيلم .. فشخصية أحمد الشاذلي (أحمد زكي) هي الشخصية المحورية. أحمد مخرج أفلام تسجيلية ويحلم بالتحول إلى مخرج أفلام روائية لكن الظروف لا تسمح بذلك، ويعيش حلماً دائماً وصعب التحقيق خاصة في الظروف التي عاشها وعاشتها مصر خلال العشر سنوات الماضية، إنه ينتمي لجيل ممزق فقد الكثير من حماسه والتزامه الثوري، وفقد كذلك القدرة على مواجهة الواقع بشجاعة ففضل الاستسلام للأقدار. إن أحمد واع لذلك ولكنه مصاب بمرض جديد هو اللامبالاة، فعندما يخبره عامل محلج القطن عبدالعاطي (أحمد بدير) عن الاختلاسات في المحلج الحكومي، لا يحرك أحمد ساكناً وكأن الأمر لا يعنيه، بل ويحاول إلقاء العبء على خطيبته وداد (تيسير فهمي).

وتزداد حدة الصراع داخل أحمد الشاذلي من خلال قضية عبدالعاطي، ويصبح غصباً عنه طرفاً فيه، وعليه مجبراً اتخاذ موقف، ولأنه يعاني بعض الشيء من سيزيفية اتخاذ القرار فلم يكن بالأمر السهل خاصة في ظل الأزمة التي وجد نفسه فيها.

حاول المخرج وكاتب القصة (خيري بشارة) أن يوضح الأزمة التي يعاني منها أحمد بإلقاء الضوء على تاريخه وأحلامه وعلى علاقاته بمن حوله. فأحمد الذي ترك الريف ليتلقى تعليمه في القاهرة يراوده شعور دائم بأن براءته قد سرقت، حين يقول: (أنا لما سبت البلد براءتي إتسرقت مش قادر أرجعها تاني).. فهو يرفض السكن في قلب القاهرة ويرفض أن ينصهر فيها.

في مقابل شخصية أحمد السلبي اللامبالي الذي يجد في عمه حسين الشاذلي السكير الفاشل مثلاً أعلى له، علماً بأن عمه هذا يجسد جيلاً سابقاً حطمته الهزيمة ولم يبق منه سوى حلم مكسور وحكايات بطولية واهية، نجد هناك نماذج لشخصيات أخرى في الفيلم أكثر إيجابية من أحمد الشاذلي.

شخصية وداد خطيبته التي تعمل بالصحافة أكثر إيجابية منه، فهي المرأة الجديدة المثقفة المتحررة والملتزمة في نفس الوقت، والتي ترفض أن تكون تابعاً للرجل بل نداً له. وهي أيضاً نقيض النموذج النسائي الآخر الذي يقدمه خيري بشارة .. نموذج المرأة الضائعة في شخصية سعاد (ماجدة الخطيب)، الوجه النسائي لأحمد الشاذلي، فهما ينتميان إلى الوسط الريفي الذي يعيش تمزقاً بين قيم القرية وقيم المدينة.

تتجسد الأزمة في داخل أحمد الشاذلي من خلال علاقاته بمن حوله، ولكن هناك بقية شجاعة قديمة يمتلكها أحمد زيادة على الوعي الفكري الذي يحمله والذي يمارس عليه رقابة دائمة. فالمشهد الأخير من الفيلم يوضح لنا موقف أحمد لرفض ما يدور وإيمانه بأن الحل لن يكون بعمل أفلام عن قضية مقتل عبدالعاطي وإنما عن دودة البلهارسيا التي تعيش في نخاع الفلاح المصري.

إن خيري بشارة وكاتب السيناريو (فايز غالي) في هذا الفيلم يدينان جيلاً كاملاً من خلال هذه النماذج السلبية التي تقوم بدور البطولة في الفيلم، وهما يصران حتى النهاية على عدم خلق أي تعاطف مع بطلهما. فالمتفرج هنا لا يجب أن يكون سلبياً يخرج من صالة العرض وهو راض عما شاهده، بل عليه أن يحكم على البطل ويرفض سلوكه.

أما اختيار العوامة لمكان إقامة أحمد الشاذلي فلم يأت اعتباطيا، فهي جزء من هذه الهامشية التي فرضت على جيل كامل ودفعته إلى الاستغراق في اللامبالاة. والمهم هنا أن أحمد ليس ميئوسا منه، وهذا في حد ذاته أمر إيجابي.

نجح المخرج في توظيف إمكانياته التقنية والفنية لإظهار عمل جديد وجيد في صنعته السينمائية. حيث كان الإخراج ذو طابع مشوق وذلك لتتابع أحداثه بشكل غير ممل، بحيث يجعلك مشدوداً حتى النهاية.

أما اختيار الممثلين، فقد كان موفقاً إلى حد كبير، فأحمد زكي في دور جعلنا نفهم أبعاد الشخصية بكل مواقفها السلبية والإيجابية، أكدت على مقدرة هذا الفنان في تقمص أي شخصية وإتقانها. كذلك تيسير فهمي، التي كانت منطلقة واعية تملك الصدق والموهبة. أما الفنان الكبير كمال الشناوي في دور (حسين الشاذلي) فقد نجح في إظهار عمق الشخصية وتقمصها بقدرة فائقة تؤكد حرفيته كممثل له خبرته الطويلة في السينما، وهو بهذا الدور يقدم واحداً من أهم أدواره على الشاشة. وماجدة الخطيب في دور صغير لكنه يؤكد أهمية الدور الثانوي، حيث أعطت للدور كل ما يريده ونجحت في ذلك.

التصوير كان ذو طبيعة واقعية شاعرية تؤكد مقدرة مدير التصوير محمود عبدالسميع على التصوير في الأماكن الحقيقية خارج الأستوديو. والموسيقى لجهاد سامي، لم يكن لها دور رئيسي في الفيلم، فقد كانت أغلب المشاهد صامتة، فيما عدا مشهدين أو ثلاثة، ورغم ذلك فقد كان للصمت دوراً مهماً من خلال بعض المشاهد.

(العوامة رقم 70) يقدم لغة سينمائية راقية حاولت قدر الإمكان عدم السقوط في توظيف مفرداتها من أجل الإبهار، وإنما من أجل تحقيق شيئاً جديداً يرفع من مستوى الفيلم المصري وينتشله من الإسفاف والاحتضار.

 

أخبار الخليج في

01.07.2015

 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2018)