أسطورة براندو

 
 
 

نشرت هذه الدراسة في مجلة هنا البحرين في ثلاث حلقات

بتاريخ 14 - 21 يوليو - 08 سبتمبر 2004

 
 
 
 
 
 
 
 
 

براندو.. مدرسة

"دون فيتو كورليوني".. "ستانلي كوالسكي".. "تيري مالوي".. "الدكتور مورو.. شخصيات متألقة دائماً.. لابد أن تبقى في الذاكرة.. مع الكثير من الشخصيات المركبة التي أداها مارلون براندو بأسلوب مختلف ومبتكر.. ضمن مدرسة التمثيل التي أنشأها "ستانسلافسكي".. وأجادها براندو بل وأضاف إليها وصار رائدها وقام بتطويرها لتستوعب الكثيرين من الأجيال اللاحقة من الممثلين.. ولتمهد لظهور عظماء آخرين في مجال التمثيل أمثال: بول نيومان، جاك نيكلسون، داستن هوفمان، روبرت دي نيرو... وظل براندو مصدر الهام لجيل كامل من الممثلين المتمردين من بينهم الشهير جيمس دين.

وها هو هذا العملاق صاحب هذه المدرسة يرحل عنا بعد معاناة مع المرض والفقر.. عن عمر يناهز الثمانين عاماً.. ليخلف ورائه تراث سينمائي هام.. وتلاميذ كثر يواصلون المشوار الذي بدأه.. هذا الفنان الذي كان أحد عضماء التمثيل في العالم.. والذي أجمع أهم نقاد العالم بأنه ضاهرة لن تتكرر أبداً.

التزم أسطورة هوليوود براندو؛ موقفا أخلاقيا طوال حياته ضد العنصرية التي كانت متفشية في أميركا أثناء خمسينات القرن الماضي ضد السود والهنود الحمر والملونين، فقد وظف ملايين هوليوود التي كان يربحها في خدمة الهنود الحمر، وقضايا حركات السود في أميركا. وأمام الهجمة التي كان يتعرض لها هؤلاء البشر المغلوبون على أمرهم، لم يكن أمام النجم مارلون براندو من سبيل ليعلن خلاله سأمه واشمئزازه وخجله من تاريخ بلاده سوى أن يرفض جائزة أوسكار أفضل ممثل التي حازها في العام 1972، وأرسل بدلاً عنه فتاة هندية أعلنت في الحفل أن مارلون يعتذر عن قبول الجائزة احتجاجاً على الطريقة التي تتعامل بها هوليوود مع الهنود الحمر. لقد كان هذا أوضح موقف رافض لعنصرية الإعلام، ونتيجة لذلك تمت مقاطعة مارلون من قبل الاستوديوهات الأميركية، وبدأت الحرب عليه.

كان أول دور سينمائي يمثله براندو ضمن مدرسة المنهج في التمثيل، هو دور رجل مشلول يشعر بالمرارة في فيلم ''الرجال'' في أول الخمسينيات، ولتشخيص الشخصية، لزم براندو الفراش بلا حراك لمدة شهر كامل في مستشفى حربي حتى يعرف تماما ما هو الشلل.

كيف لا.. وهو أستاذاً لعبقري التمثيل الآخر روبرت دي نيرو، الذي تخرج من نفس المدرسة.. هذا الذي نجح في زيادة وزنه 25 كيلوجرام خلال شهر واحد فقط، لكي يؤدي دور الملاكم لاموتا في فيلمه الأشهر "الثور الهائج".

 

براندو.. أسطورة

تعرفت على أداء هذا العملاق براندو لأول مرة.. من خلال مشاهدتي لملحمة كوبولا (الأب الروحي)... هذا الدور الذي كان بمثابة الفتح العظيم بالنسبة لي على عالم براندو المذهل.. حقاً كانت من بين أهم المفارقات التي صادفتني، من خلال تعاملي مع السينما.. شاهدت لبراندو بعدها كل ما وقع تحت يدي من أفلام.. (في الواجهة البحرية، تمرد على السفينة بونتي، إحرق، آخر تانغو في باريس، القيامة الآن). وكانت بالطبع قراءاتي ومتابعاتي لتاريخه ومشواره الفني، متتابعة مع هذه المشاهدات.. عندها اكتشفت طبيعة هذا الممثل المتمرد.. الذي أصبح نموذجاً للمراهق الأمريكي لجيل كامل، مع بداية تواجده على الساحة السينمائية.

فهذا الشاب براندو ولد في ولاية نبراسكا الأميركية في 3 ابريل سنة 1924م، لأبوين غير ملتزمين أخلاقياً، وهو ما سبب له مشاكل عديدة، لعل أبرزها ظهور نعرة ثائرة لديه تسببت في أن يطرد من عدة مدارس وألا يستكمل دراسته في الأكاديمية الحربية. مما أسرع في هجرته لحياة والديه، والذهاب إلى المدينة الصاخبة نيويورك. حيث درس هناك فن وعلم التشخيص على يدي ''ستيللا آدلر و''لي ستراسبرج" في ''أستوديو الممثل'' الشهير.

بعد مجموعة من الأدوار على مسارح برودواي، وأول أدواره في السينما (الرجال).. تيقن براندو بأن السينما هي مبتغاه.. فقدم دور "ستانلي كووالسكي" في فيلم "عربة اسمها الرغبة" للمخرج الشهير ''إيليا كازان''. ورشح اليافع براندو لأول أوسكاراته عن دور "كووالسكي"، وكان براندو قد لعب دور ''كووالسكي'' بنجاح كبير على خشبة مسارح برودواي عام 1947. لكنه استطاع أن ينتزع الأوسكار في عام 1954 أي بعد أربعة أعوام فقط من بداية مشواره الفني عندما أدى شخصية الملاكم تيري مالوي “في الواجهة البحرية”.

أما ذروة التألق لدى براندو، فقد كان دوره في ثلاثية المخرج فرانسيس فورد كوبولا “الأب الروحي” التي حققت نجاحا ساحقا في الولايات المتحدة والعالم ولعب فيها براندو دور الأب الروحي لعصابات المافيا دون فيتو كورليوني في تجسيد قال عنه النقاد إنه “لن يتكرر”. هذا الدور الذي حصل عنه على الأوسكار الثاني لأفضل ممثل.

براندو الأسطورة.. كان شديد الحساسية، إضافة إلى تمرده المشروع.. فعندما شعر بأن نهايته قد اقتربت (كان ذلك قبل عام من وفاته).. ساعتها قرر أن يعد بنفسه ترتيبات وفاته، بعد أن أبلغ أصدقائه وأسرته، إنه مستعد للموت، وإنه أعد سيناريو جنازته.. سيناريو أحد أبطاله النجم جاك نيكلسون، الذي سيتقدم المعزين في وفاة براندو.. وفي السيناريو الذي كتبه براندو نفسه، يلقي المغني مايكل جاكسون صديق براندو المقرب كلمة في حفل التأبين.. أما نهاية السيناريو، فهي حرق جثمان براندو ونثره بين أشجار النخيل في واحدة من جزر تاهيتي التي كان يملكها براندو.

 

براندو.. الشاعر

في مذكرات مارلون براندو، التي ترجمها عبدالنور خليل ونشرها في جريدة القاهرة.. تعرفت على براندو الشاعر.. كانت كلماته تصيبني بالدهشة والإعجاب والاستمتاع، في نفس الوقت.. كانت بالفعل اعترافات لا يجرؤ على فعلها سوى شاعر.

(...عندما أتجول بين سني عمري التي قاربت علي الثمانين محاولا استعادة فيما كان هذا العمر لا أجد شيئا واضحا تماما.... وأظن أن أول ذكري لي هي أنني كنت أصغر من أن أتذكر كيف كنت صغيرا...).

(...بعض أمتع ذكريات طفولتي الباكرة كانت عن «إيرمي» وضوء القمر يضيء حجرتي في ساعات الليل المتأخرة كنت في الثالثة أو الرابعة عندما جاءت «إيرمي»، لكي تعيش معنا في أوماها كأسرة بديلة.. ومازلت أذكرها كما رأيتها عندئذ... كانت في الثامنة عشرة، بعيون واسعة، ولها شعر حريري أسود.. كانت دنماركية لكن بمذاق خاص نابع من جذورها الإندونيسية.. ضحكتها لا أنساها أبدا... وعندما تدخل حجرة كنت أشعر بها دون أن أراها أو أسمعها بسبب الرائحة غير العادية التي كانت تسبقها إلي المكان وقد لا أجد تبريرا كيماويا لكن أنفاسها كانت حلوة كفاكهة طازجة مقطعة، كنا نلهو ونلعب طيلة النهار... وفي الليل ننام معا، كانت تنام عارية وأنا أيضا، وكانت تجربة أحبها... كانت عميقة النوم ويمكنني أن أتخليها الآن، نائمة في فراشنا بينما القمر ينصب من النافذة، وتحدد أشعته جسدها العاري بلون ليموني مشع، وكنت أجلس متأملا جسدها... وأداعب ثدييها.. وألتصق بهما حتى أعتليها تماما، كانت كلها ملكي تنتمي لي ولي وحدي، هل كانت تدرك شغفي بها هل كان من الممكن أن نتزوج فوق السحاب ونتقاسم حبنا ولكنت قد حميتها فوق  عربتي السماوية وجمعت لها كل اللآلئ التي تتناثر حول النجوم، وعبر الزمن وأبعد من الضوء إلي الأبد...).

(...في ذلك الزمان كان الناس كرماء، كانوا علي استعداد أن يطعموك مقابل عمل إضافي، ولم تكن الجريمة شائعة.. وطرقت باب إحدى المزارع وعرضت أن أقوم بعمل مقابل وجبة عشاء، وسألني الرجل: «ما الذي يمكن أن تعمله مقابل عشائك؟». وأجبته أفعل أي شيء، وعندما عرف أنني تربيت في مزرعة، أخذني إلي حظيرته لأحلب بقراته وأطعم خنازيره، واقتادني إلي المطبخ لأجلس مع أسرته لأتناول عشائي، وبعد العشاء قادني إلي حجرة ابنته لكي أنام.. كانت جميلة جدا، وعندما أطفئت الأنوار زحفت إلي فراشها، لكنني ندمت لائما نفسي علي فعل ذلك بعد أن أحسنوا إلي، ولم أعد أبدا في حياتي لمثل هذا التصرف الغبي...).

كيف لا.. ونحن أمام متمرد استثنائي.. آثر أن يعطي للفن والتمثيل على الأخص كل حياته.. لذا فلا بد أن تكون مذكراته (اعترافاته) استثنائية إلى أقصى درجات الصدق.

 
 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004