كتبوا في السينما

 

 
 

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

أرشيف

إبحث في سينماتك

إحصائيات استخدام الموقع

 

فيلم هو وهي للتونسي الياس بكار:

عمل سينمائي شاب عن جيل العجز والضياع

تونس ـ من أنسي اليوسفي

إلياس بكار من المخرجين السينمائيين التونسيين الشباب. له تجربة سابقة في مجال الأفلام الوثائقية (زنقة ـ زقاق ـ الماضي المفقود، باكستان يومي 6و7ـ وهو عن الزلزال). وكان قد درس السينما في باريس ثم في لوس أنجلس. وبعد عودته إلي تونس عمل مساعدا لعدة مخرجين تونسيين وأجانب. ثم أنتج أفلاما قصيرة (المرآة الممنوعة،آخر سفرة...)

في سياق الجرأة التي باتت تتسم بها الأفلام التونسية، فاجأنا هذا الفيلم بطرح حالة الضياع. فالشخصيتان الرئيسيتان ضائعتان: هو و هي ؛ لا نجد اسما ولا كنية. المكان عبارة عن منزل من دون عنوان، ضائع هو الآخر. هذا الضياع سبب للمشاهد نوعا من الضياع. فهو لا يدري ماذا يتوقع من الفيلم أو من القضايا المطروحة. ما يفسح المجال للتأويل.

منذ بداية الفيلم، يحس المشاهد أنه أمام مسرحية وليس أمام فيلم. تدخل هي ويحل الصمت، فإذا بتحركات الممثلين تشبه تحركات المسرحيين علي الخشبة. وهذه التحركات تتميز بالسكون، فوقفة الشخصيتين تجعل من الكاميرا مشاهدا وليس أداة لنقل الأحداث للمتفرج. نري هي تقف أمام هو في مواجهة للكاميرا بينما يتحرك هو ببطء: يبتعد ويعود حسب ما يتطلبه الدور. كذلك الكلمات في أول الفيلم كانت قليلة ما يثير مخاوف المشاهد: فيظنه فيلما صامتا. أما تكرار الكلمات علي غرار تصبح علي خير آش تحب فيوحي بالسأم لدي الشخصيتين، كما يولد السأم لدي المشاهد وهذا ليس متأتيا من غياب الحركة والكلمات، بل من غياب الوضوح والشفافية لدي المخرج. وهذا السأم متأت أيضاّ من عدم معرفتنا بمرامي الفيلم الذي تنقصه ردة الفعل المتأتية من حدث أو كلمة. لم يستطع المشاهد أن يعيش الحالة التي يقوم عليها الفيلم.

كل ما سبق ليس اتهاما لأسلوب الفيلم بكونه مضجرا أو غير أصيل، فلقد عشنا مع دارن أرنوفسكي هذه التجربة خاصة في فيلمه جنازة حلم . نجد تكرارا للأحداث وغيابا للحركة ونوعا من السكون الستاتيكي غير أن أرنوفسكي عرف كيف يشد انتباه المشاهد بتقنيات التصوير والمونتاج: فتارة تنقسم الشاشة إلي جزئين أو أكثر وتارة أخري تغيب الصورة ليبقي الصوت.... وكان للمؤثرات الصوتية والموسيقي تأثير مهم في الفيلم، الأمر الذي كان غائبا لدي بكار. لم يكن لأسلوب الفيلم أي بصمة واضحة تعرف بمخرجها. (درس السينما في لوس أنجلس).

تذكرنا طريقة تصوير الفيلم بمسرح العبث لدي سارتر وكامو وخاصة صموئيل بيكيت، إذ يشبه غياب الكلمة والحركة مسرحية الأيام السعيدة أو في انتظار غودو . هذا الغياب مركزي لأنه يركز علي استلاب الوعي أمام الواقع. فنجد الشخصية غير مكترثة بالعالم الخارجي (مجال القمع والرقابة وفقدان الحرية) خالقة بذلك عالمها الداخلي الوهمي ما يوحي بعبثية الوجود، وكأننا نعيش كي نموت.

الموسيقي كانت مميزة من دون مبرر قوي لوجودها. فمثلا نستمع مع سكون الشخصيات إلي خليط من أصوات مبهمة توحي بجو من الهلوسة والخطر. بينما كان سكوت الممثلين أقوي تعبيرا من الموسيقي نفسها.

في حوار مع جريدة الراية القطرية اعترف المخرج قائلا: إن الحالة النفسية التي كنت أعيشها في ذلك الوقت هي التي دفعتني لأن أصور شخصيتين من هذا النوع. ومن الممكن أن أكون أنا نفسي فاقدا لهويتي في ذلك الوقت وأبحث عن هويتي أو أني كنت أشعر أنني من دون هوية . ولعل هذا من شأنه أن يعلل أسلوب الفيلم لكنه لا يبرر ضجر المشاهدين...

خلق هذا الفيلم نوعا من الجو المرضي الذي يدخل المشاهد في عالم الظلمة والتساؤل والخوف ويدفع به إلي مساءلة نفسه في عالم غامض ربما من أجل إعادة اكتشاف نفسه ومواجهتها.

غير أن بكار عرف كيف يخرجنا من هذا الجو، خاصة وأنه جو أشبه باللعب بالنار فقد يسبب نوعا من التأزم لدي المشاهد. ومن الوارد أن يكون المشاهد قد بدأ بالوقوع في فخ التماهي عند منتصف الفيلم إلا أن المخرج سرعان ما يخرجه من هذه التجربة بدفعه إلي إنكار التماهي بالطريقة التي ينهي بها فيلمه. فشخصية هو تصبح أشبه بالشخص المريض نفسانيا، وهذا ما يمنع التماهي.

يعترف بكار أن من التحديات التي واجهها في إخراج هذا الفيلم كمخرج وكاتب سيناريو هو كسر بعض القواعد المتعارف عليها في الكتابة والإخراج ويتجســــد هذا التحدي فعلا في جرأة الفيلم علي صعيد الإخراج والحوار، فالدور الذي يؤديه الممـــــثل محمد علي بن جمعة في شخص هو دور جريء جدا، ومن المفاجئ بعد العــــديد من الأفلام التي عودتنا علي جرأة دور المرأة، كقضية وجنس (جندر)، أن يراقب المشاهد رجلا يعيش تحت رحمة امرأة. فمرة تطلب منه أن يهبهب يعوي كالكلب أو يغني أو يركض كالحصان وهي فوقه... من دون أن نعلم سبب هذا الخضوع. بادئ الأمر كان الرجل في مكان قوة وما لبثت أن تغيرت قوانين اللعبة دون سابق إنذار. لا شك أن هذا الدور يتطلب جرأة من الممثل، فلأول مرة نري رجلا في أسوا حالاته. لقد اتسم الحوار وهو أقرب إلي المونولوغ بالعنف. كانت كلمات أنيسة داوود في دور هي ذات تأثير أقوي من أي بذاءة عرفها الرجل العربي يا راجل، يا عربي، يا ذكر، يا قوي... كل هذه الصفات من فم امرأة عوض أن تكون سلاحا لتعزيز قوة الرجل تكاد تنزع إلي الخصي. إضافة إلي ذلك هناك مشهد يقدم الرجل في حالة هستيريا بينما تقبع المرأة مبتسمة، والعكس هو الدور الذي طالما أسند للمرأة. فهل يمكن اعتبار الفيلم صيحة رجل ضد هيمنة المرأة في مجتمع بات يغادر قيم الماضي؟ وأكثر من ذلك، هل هو إدانة للعجز الذكوري العربي إزاء ما يهدد المنطقة بأسرها؟

أما هذا الانقطاع عن العالم الخارجي، فقد جعل المشاهد يتساءل عن مدي أهمية المبادئ والقناعات التي تبناها ومدي صحتها. لقد جعلنا إلياس بكار نشاهد الإنسان في حالته البدائية، من دون أي أحكام مسبقة فقد كان نوعا من الدعوة للمشاهد كي يضع تحت المجهر كل معتقداته ومسلماته حتي يحطم ما بناه ويعيد البناء من جديد، في رؤية عرفناها عند فلاسفة مثل أفلاطون وحتي لدي فلاسفة العبث... فإلي حد ما اختلط الواقع بالوهم والوهم بالواقع، مما ولد حالة الضياع وبالتالي أصبح المشاهد ضائعا بين الوهمي والواقعي، فهل ما عاشه واختبره من معتقدات وأفكار ساهم في إقحامه في وهم الواقعية أم أن الواقع ليس إلا وهم الوهم أي أن الواقع ماهو إلا رفض الوهم وخلق وهم آخر؟

كذلك اتسمت المشاهد العاطفية في الفيلم بالجرأة، مع عودة القبلة التي باتت تفتقدها السينما العربية، والتركيز علي عري الجسد الخارجي الذي يحيل علي عراء الداخل. ولم يكن حضور القبلة مجانيا بل كان معللا وفق السياق، وليس لمجرد الإثارة.

مع ذلك قد يكون المخرج وقع في فخ المبالغة عندما أراد أن يقطع مع العادة، فنري هو جالسا علي مقعد المرحاض ثم يغتسل أمام الكاميرا. لقطة جريئة لكنها ليست بالمهمة. يدفعنا هذا للتساؤل عن مدي ضرورة هذه اللقطة. مثال آخر عن هذه المبالغة هو عندما سألت هي هو عن المزهرية أجابها كما تكسرت أمي وأمك، تكسرت المزهرية (تلميح إلي عملية الافتضاض بالعامية التونسية) فظل المشاهد جامعا بين الابتسامة والدهشة.. رغم أنه يمكن تبرير هذا العنف اللفظي برغبة المخرج في تصوير الاستياء في حد ذاته... وعكست هذه الجرأة مدي عدم الاكتراث بالعالم الخارجي.

وتوحي العديد من اللقطات بمدي خبرة المخرج وفقا للحالة التي يريد أن يصورها. فلو كانت تلك اللقطات تحت تصرف سينما هوليوود لدفعت بالمشهد إلي أقصاه علي طريقتها المعتادة والساذجة أحيانا. فمثلا نري هي مستلقية علي الفراش في العتمة ويتم التركيز علي عينيها مع لقطة زووم ، وفيما يستعد المشاهد لمفاجأة هوليوودية تتدخل فيها الموسيقي، لا يحدث شيء في الفيلم. من المؤكد أن هذه اللقطات تنم عن خبرة المخرج. غير أنه يمكننا التساؤل: بما أن بكار طرح مسألة القطع مع العادة لماذا لم يقم بدفع التجربة إلي أقصاها خاصة أن السينما التونسية لم تتمكن بعد من هذا النوع من اللقطات...؟

أدخلنا الفيلم في صلب الموضوع ( إذا ما كان هناك موضوع) دون مقدمة، بالضبط كما لو أن المشاهد نام خلال الفيلم واستيقظ ليجد نفسه في مكان آخر بعيد عن السينما. كان الضياع مسيطرا من أول الفيلم إلي آخره.

وتعود حبكة المخرج لتشد انتباهنا ولتسيطر علي هذا الضياع. فنجد عنوان مقال جريدة بالفرنسية لغز بن... ثم يقوم هو بفرد الجريدة لكي نكتشف أن المقال عن... بن لادن، مع آفاق تأويلية. وعندما تجلس هي إلي جانب هو بعد خلع قميصها مواجهة للكاميرا وتقول له ما تخدمش مخك (لا تشغل دماغك) يبدو الخطاب موجها إلي المشاهد العربي أكثر منه إلي شخصية هو . وتحصل مشاجرة بين الشخصيتين فترمي هي علي هو كتابا؛ غير أن الكاميرا تتحرك بذكاء مع حركة الكتاب فتوضح عنوانه الجنون والدولة . التركيز علي كلمة جنون من شأنه أن يفسر الكثير من الأشياء، منها أن سبب ضياعنا هو محاولتنا فهم عالم إنسان مجنون، بقوانيننا نحن، العاقلين المنضويين تحت قوانين الدولة...

ما أضاف تفردا للفيلم، إلي جانب الشخصيتين الرئيسيتين، هو إدخال المخرج شخصيتين ثانويتين لهما وظائف ملغزة وباعثة علي التساؤل والتأويل أيضا: أم تبحث عن ابنتها، تطرق بابه وتسأله عنها. وفي سياق الحديث تعلمه أن ابنتها تدْرس الهندسة المعمارية من أجل إعادة البناء. اختيار مميز للكلمات. ولكن المشاهد يجد نفسه متسائلا ومسرعا إلي التأويل: لماذا اختار المخرج أن تكون الأم جزائرية، ولماذا لم نشهد حالة الاضطراب التي تعاني منها أي أم تبحث عن ابنتها؟

في مرحلة متقدمة من الفيلم نري الممثل عبد الحميد قياس (في دور الجار) الملم بما كان يحدث، يدق جرس البيت ويسأل صاحبه عن سبب تأوهه، في تلميح إلي الدور الرقابي للمجتمع.
يفتح نص إلياس بكار الباب علي مصراعيه للتأويل، فكل مشاهد يستطيع فهم نص السيناريو، من خلال أفكاره ومعتقداته أو حالته النفسية...

لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو ماذا لو يترجم فيلم هو وهي إلي مسرحية؟ هل يمكن أن يتأقلم مع متطلبات المسرح أكثر من السينما؟ هل من الممكن الاستغناء عن الكاميرا كراوية للأحداث وتعويضها بالمشاهد في المسرح فيصبح النص أكثر نجاعة وأقرب للمشاهد؟ أسئلة لن يجيب عنها نص الفيلم أو شخصياته أو مخرجه. الحكم الوحيد هو المشاهد الذي رأيناه في آخر الفيلم يزداد ارتباكا مع ما أتت به خاتمة الفيلم إذ نري هو يطرد هي من البيت ثم نراه يفتح الباب من جديد بعد سماع الجرس، ونعود إلي بداية الفيلم... لكن هذه المرة من دون وجود هي ما يوحي بأن الأحداث كلها إنما كانت تدور في رأس رجل انزوي عن مجتمعه ليسكن الهستيريا والجنون...

القدس العربي في 22 فبراير 2008