كتبوا في السينما

 

 
 

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

أرشيف

إبحث في سينماتك

إحصائيات استخدام الموقع

 

مهرجان كليرمون فيران السينمائي الدولي في دورته الثلاثين

 عــصــيّ فـــي دوالـيـــب الـفـــيــلـم الــطــــويــل

كليرمون فيرّان - من هوفيك حبشيان

وحدها لحظات سينمائية جريئة ومعبّرة مثل الذي اكتشفناها في "أماكن مقدّسة" كانت كافية ربما للسفر من أجلها الى كليرمون - فيرّان (وسط فرنسا): في يده كاميرا رقمية من مثل التي في كل بيت تقريباً، يدخل المخرج الفرنسي الان كافالييه الى حمّام الذكور في أحدى الحانات الباريسية التي يرتادها، ثم يروح يضغظ على كبسة الزوم في اتجاه أحد المراحيض، على نحو تحتل مساحة المرحاض البيضاء الشاشة برمتها، ويصبح الجميع في الصالة، رجالاً أكانوا أم نساء، جالسين في قلب هذا المرحاض. يتكلم كافالييه عن أمه الراحلة للتوّ بصوته المدهوش، وعن ذكريات طفولته أيضاً، مصوّباً آلة التصوير للحظات طويلة على البورسلين الابيض، وأمامنا لا شيء الاّ صورة هذا المرحاض الذي يعتبره السينمائي البالغ من العمر 77 عاماً مكاناً مقدساً. كلامه عن أمه لا يمنعه أن يتساءل عن مصير سيجارة عالقة في أسفل المرحاض قائلاً "ترى من يلمّها؟". أشياء في منتهى البساطة يلتقطها كافالييه، ليحولها مادة فلسفية وتأملية. هل اختل توازن مخرج "المتمرّد" (1964، مع الان دولون) و"تيريز" (1986)، وهل فقد عقله كي تنتهي به الحال ليختار الحمّامات المتروكة لمصيرها باعتبارها استوديو للتصوير؟ الأكيد أنه من خلال هذا الاختبار الذي ينم عن الكثير من الحرية والجرأة، يحقق كافالييه، الذي ينكب منذ بضعة أفلام على تجارب رقمية معيداً النظر في وظيفته كسينمائي، حلماً قديماً جديداً هو أن يكون كائناً غير مرئي ويصوّر كل شيء من دون أن تزعجه ظلال الآخرين وأن يكون لصاً يسرق لحظات من هنا وهناك في الخفاء. لم يلق الفيلم استقبالاً حاراً، بل على العكس نال صيحات استهجان بعض المحصنين ضد التجديد والتنويع والاختبار والتجريب. لكن كافالييه هو أكثر صدقاً من منتقديه، وهذا ما أخافهم ربما. لم يصوّر المخرج المراحيض كلها بالوتيرة عينها. فقد تأخر عند بعض المراحيض، وجلس على طرف الكرسي متأملاً نفسه في المرآة، ومرّ بالبعض الآخر مرور الكرام، اذ لم تلهمه كثيراً. ولكن في كلّ مرّة، كان مهتماً بأن يلمّ بالتفاصيل الحيّة التي تؤكد أن الانسان مرّ من هنا. هذه التفاصيل وجدها في الحمّامات التي زارها ولا يزال يزورها بخشوع واحترام كبيرين. هذه الحمّامات التي، بحسب قوله، شكّلت ملاذه الآمن، منذ نعومة أظفاره، فقرر أن يردّ الاعتبار الى هذا المكان الذي قلما ظهر في السينما. في سؤال أحد الصحافيين عما اذا كان هذا الموضوع مادة سيئة لفيلم، أجاب كافالييه ان الفيلم بمنزلة بورتريه ذاتي، وأن المادة السيئة الوحيدة فيه هي الشخص الذي يقف خلف الكاميرا!  

واذا كان كافالييه على هذا القدر من التجديد والابتكار، نستطيع ان نقول الكلام عينه عن الكثير من الافلام المعروضة في هذه الدورة من مهرجان كليرمون فيرّان الدولي للفيلم القصير. انها حقاً دورة استثنائية بكل المعايير، اذ جمعت أعمالاً من كل أنحاء العالم، ومعظمها ذو مستوى تقني عالٍ جداً، وإن تكن الافكار المطروحة متفاوتة الأهمية من شريط الى آخر. في خضمّ هذه الفورة للفيلم القصير، يصعب أن نحافظ على موضوعيتنا ونظرتنا النقدية. لدورته الثلاثين، نحو من 4500 فيلم ارسلت الى إدارة المهرجان من مئة بلد، علماً ان هذا العدد تضاعف في العامين الماضيين. لم يختر منها في المحصلة النهائية الاّ 73 في المسابقة الرسمية، وتراوح بين الفيديو المصنوع بـ"ليرتين" والـ35 ملم الاكثر ميلاً الى استعراض طبقي. لكن الادارة لا تفرّق بينهما اطلاقاً وبتاتاً، والدليل أنها تضعهما في المسابقة عينها، لأن الامكانات معرّضة للتفاوض المادي، أما الخيال والافكار وتقنيات السرد والدراما، فليست عرضة للمساومات. لا بأس اذا ساهمت الثورة الرقمية في أن تشجع البعض من غير الموهوبين للذهاب بالكاميرا الى حيث الابواب المسدودة، فاذا لم يلقّنهم أعضاء لجنة التحكيم درساً، فالجمهور هو من يتولّى ذلك! 47 بلداً اذاً متمثل في هذه السوق التي هي الاكبر للفيلم ذي الطول المختلف (في كلمة قصير بعض التجني و"العنصرية" أحياناً)، الى حدّ أن كثيرين يعتبرون مهرجان كليرمون فيرّان بمثابة "كان" للفيلم الذي لا يتعدى حجمه الزمني النصف ساعة حداً أقصى. 47 بلداً مع غياب شبه كلي للفيلم العربي (ولا سيّما الخليجي الذي تجري على شرفه تظاهرات سينمائية لا ترقى حتى الى مستوى الأفلام الطالبية)، وأيضاً تمثيل ضعيف لكل من الاعمال الآتية من البلدان الشرقية وأميركا الشمالية. أما لبنان، فيمثله في المسابقة المخرج الشاب رامي قديح بفيلمه "وسكتت شهرزاد عن الكلام المباح" الذي كان ذهب الى مهرجانات عدّة، علماً ان لبنانيا آخر، هو وسام شرف، يشارك بـ"جيش من النمل" لكن بوصفه فيلماً فرنسياً كونه من انتاج فرنسي.

هناك ايضاً لائحة الافلام الفرنسية القصيرة المشاركة. 1500 فيلم تم اقتراحها على لجنة الاختيار لم يبق منها للعرض الاّ حفنة. الملاحظ أن ثلث هذه الافلام هو الخطوة الاخراجية الاولى لأصحابه، مع ميل مستجد الى ما هو خرافي وغرائبي وعلمي - خيالي لدى الشبان الفرنسيين الداخلين مجال السينما (تأثير التسعينات عليهم لم يذهب سدى). افلام كثيرة لم تلق أيّ دعم مادي، وصُنعت بلا أي موازنة، كما هي الحال مع "وحش 2" لأنطوان بارو. ضمن الباقة الفرنسية المقترحة، كان هناك على الاقل فيلمان من أصل 59، وأيضاً "كما الأب، كذلك البنت" لسيلفي باليو، نستطيع ان نقول انه عمل سينمائي حقيقي رغم مجيئه من المسرح، تمثيلاً واخراجاً. الفيلم اسمه "الأوهام" لجيمس تييريه، وهو يرينا أحوال مخرج مسرحيّ الذهنية والنفسية والابداعية في آخر عرض لمسرحية يقدمها على الخشبة منذ سبع سنوات. هناك شيء بسيكيديليكي في الشريط المصنوع بامعان ودقة وشطارة. بين الواقع والمتخيل، الشيء وتجسيده، يتيه الفيلم في مجموعة حلقات حلزونية ويرينا عودة فنان الى دنيا الانسان. أما العمل "الطليعي" الآخر، فمن توقيع ديدييه بلاسكو عنوانه "المسلخ" وقد جعلنا نقفز من على مقاعدنا في احد المشاهد الأكثر رعباً. مارك، شاب عادي يعمل في مسلخ. يقطع يده بالمنشار خلال قيامه بعمله. لكنه يرفض الانفصال عن اليد المقطوعة، وبعد خضوعه لعملية، يأخذ العضو المبتور معه الى المنزل، علماً ان زوجته تعبّر عن استيائها من هذا الشيء. يوماً ما ستعود الى المنزل، لتجد مارك مستلقياً على الارض ويده المبتورة في فمه. هناك شيء من كروننبرغ في "مسلخ". العلاقة بالجسد، الجو الموتور، زوايا الكاميرا. هذه كلها تمنح الفيلم نبرة قاتلة وسقيمة وشاذة، وتجعلنا نعتقد ان مارك قطع يدة قصداً. سوء النيّة هذا من جانب المشاهد يقابله اخصاء فظيع من الطرف الآخر.   

ورغم هذه العناية الدقيقة التي يحظى بها الفيلم القصير في كليرمون فيران، يبقى "جانراً" مهمّشاً، ولا يزال الى اليوم خارج دائرة اهتمام أصحاب القرار في التلفزيونات، باستثناء شاشتين فرنسيتين، هما العملاقة "كانال بلوس" والنخبوية "آرتي" اللتان تخصّصان حصصاً للفيلم القصير. ويقول كريستيان دينييه، أحد الذين يشكلون اللائحة الفرنسية، أن غالبية ما يعرض في المهرجان ليس موجهاً الى الجمهور العريض، لكن هذا لا يمنع الأفلام في ما بعد من أن تجد جمهورها المحتمل. وعليه، لا يزال الفيلم القصير مختبراً حقيقياً (ألم تكن الأفلام كلها قصيرة في بدايات السينما؟) ونوعا من الحديقة السريّة للسينما التقليدية التي تثقل كاهلها في معظم الاحيان الارتباطات الاقتصادية والالتزامات التجارية (الايرادات دائماً وأبداً). الفيلم القصير هو السينما التي قد تُصنع في المستقبل القريب، لكنه ليس فقط المستقبل أنما أيضاً الحاضر والماضي. مع هذا، يصعب عليه أن يكون هدفاً وفناً قائماً في ذاته لأن معظم السينمائيين لا يستخدمونه الاً من أجل العبور منه الى الفيلم الطويل. لكن تجارب من مثل التي يقترحها آلان كافالييه تؤكد نظرية أن على الكثير من الأفلام الطويلة أن تولد قصيرة!
من بانوراما كاملة مخصّصة للكلاب والافلام الـ30 عنهم (انطلاقاً من فكرة "لمَ تنفع الكلاب؟") الى فيديو كليبات (عددها 31) نكتشف كم يحتمل هذا الفنّ الطالح والصالح، حيث لم يتوان المهرجان عن تقديم كل ما يصدم حساسية المشاهد البليد الذي لا يمنعه كسله من المزيد من الابحار في عالم الصورة التي تتحكم اليوم بكل شيء تقريباً، بحيث ان من يملكها يملك السلطة. هناك أسرار كبيرة تنام عليها الصورة، وهذا ما يحاول فهمه خصوصاً المخرجون المشاركون في قسم "مختبر" من خلال تقنيات تفكيكية تخرج عما ألفناه في الافلام التقليدية. مخيف عدد الافلام الذي أرسل الى المهرجان: ستة ألاف فيلم تم قبول 42 منها، بعد وفاة الفنان التشكيلي سيريل ستين. نيكولا بروفو الذي عرض ثلاثة أفلام في هذا القسم، كان أكثر من لمع نجمه، الى جانب فيليب باركر ("رؤية ليلية")، ومالكولم ساثرلاند وفيلمه الجميل "السياح" بدقائقه الثلاث والذي يروي يوما عاديا على أحد الشواطئ، لكن في الاسلوب يكمن الفرق، وكل الفرق. هناك أيضاً افلام على حافة التجريب، لكن لا لغة سينمائية بل ترابط مشهدي يعمل وفق منطق التشابك والتصادم، مثل هذا الفيلم الفرنسي، "مئة في المئة"، البالغة مدته دقيقة، وتقوم فكرته على جمع كل المقاطع التلفزيونية لسياسيين فرنسيين، على خلفية الانتخابات الفرنسية الصيف الماضي، يلفظون فيها نسبا مؤية (90 في المئة مثلاً). والنسب التي تبدأ عالية تتدهور تدريجياً.

في مناسبة الاحتفاء بعيده الثلاثين، قدّم المهرجان استعادة لدزينة من الافلام التي نالت "جائزة الجمهور" هنا في هذا المكان بالذات. مايك لي، توماس فينتربرغ، جان - بيار جنيه، كلهم صفّق لهم المشاهدون، في احدى الدورات السابقة. هذا الجمهور الذي يأتي الى المهرجان بأعداد هائلة مشكلاً الضمان الاكبر لحدث ما كان له أن يبصر النور من دون دعم السكان المحليين له. لا شكّ ان المجال لا يسمح هنا حتى بتعداد اقسام المهرجان، ولا بتحمّل هذا القدر من الصور المخربة والمتمردة التي تبقى صالحة من بداية الحدث الى نهايته. ورغم أهمية الافلام المتسابقة لنيل جائزة الـ"فيرسانغيتوريكس" (3500 أورو) التي تمنحها لجنة تحكيم مؤلفة من سينمائيين على وجه الخصوص (تشارك فيها المخرجة اللبنانية دانييل عربيد)، الاّ أنه يصعب على المتابع ان يغوص فيها، وينسى مثلاً أن هنالك في الوقت نفسه عروضاً أخرى في 14 من شاشات هذه المدينة ذات الايقاع الهادئ. وكيف يتجاهل أيضاً الندوات واللقاءات اليومية التي تضع العصي في دواليب الفيلم الطويل...

النهار اللبنانية في 8 فبراير 2008