كتبوا في السينما

 

 
 

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

أرشيف

إبحث في سينماتك

إحصائيات استخدام الموقع

 

برهان علوية وصرخة "خلص" المُتعَبَة والساخرة والمتألمة

بيروت تجترّ جروحها وتتحول حاوية للتناقضات

ريما المسمار

في قاعة متروبوليس الملاذ الأخير وربما الاوحد في بيروت لأصحاب التجارب السينمائية الخارجة على قانون السوق والتسويق، لفتني تعليق رفيق المشاهدة. بل هزني وربما يكون قد أرشدني إلى المدخل الذي بحثت عنه طويلاً لدخول عالم برهان علوية في آخر أفلامه "خلص". قال: "لم يعد هناك أحد يصور صخرة الروشة بهذه الطريقة". فكرت طويلاً بكلمته لأجدها مفتاح هذا الفيلم الشعري والقاسي في آن. بل لم يعد هناك أحد يصور بيروت هكذا أو ربما لم نعد نقبل بيروت في هذه الصورة الممزوجة بالحنين لزمن الحرب والتعاطف مع جيلها الا من سينمائي تكسرت أحلامه مرتين: الاولى على متاريس الحرب الاهلية والثانية على سد الطائفية المنيع في زمن السلم.

غريبة تلك العلاقة بين السينما والحياة او بمعنى أبسط بين الفيلم والواقع. فمرة يكون الفيلم منغمساً في واقعه. ومرة أخرى، سابحاً في فضائه. وثالثة ملمحاً اليه... ولكنها علاقة متبدلة خاضعة للمتغيرات الخارجية. قد لا تصلح تلك العلاقة وحدها لتكوين رأي حول العمل وربما لا تصلح لأن تكون معياراً لفنية الفيلم. ولكنها، اي العلاقة، تتخذ في منطقتنا أبعاداً غير منظورة وربما ضاغطة ومقيدة. انها اختزال للظرف الانساني والفني لحظة تشابكهما على أرض تميد بها التحولات معلنة الآني مادة مستحيلة للبحث ونائية عن قدرة الامساك بها. في كل ذلك، ثمة ما هو ثابت هو أثر علاقة الفيلم بواقعه على علاقة المتلقي بالفيلم. وشريط برهان علوية الأخير "خلص" يصلح مادة للنقاش في هذا الإطار لاسيما انه لا يلبث يتشكل من جديد في علاقة جدلية مع الظرف الزماني.

في مختلف مراحل كتابته وتصويره وصولاً إلى ابصاره النور، تقلب الشريط من مشروع يحكي بيروت في مرحلة السلم إلى فيلم يصارع عتمة الاقصاء ـ والزمن ـ بسبب مشكلاته المالية العالقة وصولاً إلى عمل فاته الزمن المشبع بأحداث سياسية غيرت وجه الحاضر والمعيش. انها الصورة المكبرة وربما المبسطة لمسيرة "خلص" الذي استغرق قرابة سبع سنوات من الكتابة إلى ابصار الحياة. في مسيرة المخرج، "خلص" هو عودة جديدة إلى علاقته ببيروت بعد "بيروت اللقاء" فيلمه الروائي الاول عام 1982 و"رسالة من زمن المنفى" و"اليك أينما تكون" الوثائقيين. اختلفت اللغة السينمائية في "بيروت اللقاء" وهو ما يفسره علوية بالتحول الاول في مفهومه للسينما منتقلاً من سينما القضية إلى سينما الذات. فهذا الشريط الذي يصور بيروت أثناء الحرب من خلال حكاية حبيبين تفرقهما الحرب والحدود بين شقي بيروت، أعطى المخرج نظرة سينمائية جديدة فأصبح يرى "اللغة حاملة للموضوع". بمعنى ما، كانت نظرة علوية إلى بيروت في هذا الفيلم بسيطة، تختصر معاناتها في انعدام التواصل. ولعل ذلك مرده تصوير الواقع بفاصل زمني قصير او معدوم ربما. ولكن الأحداث المقبلة لاسيما الاجتياح الاسرائيلي ستؤسس لعلاقة مختلفة مع بيروت. من باريس، منفاه الاختياري، يخاطب علوية بيروت بفيلمه الوثائقي "رسالة من زمن المنفى" عام 1984. يجبل حكايته مع جكايات أربعة أصدقاء، يعيشون جميعاً خارج الوطن ويدركون في مرحلة متأخرة ان سفرهم هو قدر أبدي وان منفاهم في كل مكان. تُرى، هل كان يعلم علوية انه سيتوجه بعد نحو ست عشرة سنة برسالة من منفاه الداخلي؟ جاء "إليك اينما تكون" عام 2000. في الأخير، يصور السينمائي علاقة أكثر تعقيداً ببيروت. فعندما كان يخاطبها من الخارج من باريس، كان مازال في داخله إحساس بأنها الملاذ او ربما المحطة الأخيرة. ولكنه في "إليك أينما تكون" يعكس علاقة أكثر قسوة تربطه بها. انها ايضاً منفى، منفى المهمشين، كائنات الليل الأرقة المسكونة بماضٍ مرعب، لا تستطيع نسيانه.

"خلص" هو سطر جديد في فصل طويل يكاد لا ينتهي محكوم برغبة البوح و"تحريرالشياطين الداخلية" على حد قول علوية في وصف الفيلم أكثر مما هو محكوم بتحولات تلك العلاقة بالمدينة. ليست هناك تحولات كبرى على الأقل بل شعور بالمرارة تزداد وطأته مع مرور الزمن وتلاشي "المشروع" الذي حلم به السينمائي طويلاً: مجتمع المواطن. انه فيلم عن حب يفنى وانتهازية تنتصر وعدالة فردية تسود... اما بيروت التي يصورها هنا، فهي مدينة تجتر جرحها وتتحول حاوية للتناقضات: تفاوت طبقي هائل، مدينة كلاب وقطط في الليل، مساحة خانقة للحب والحرية... حكايات سوداء وفناء داخلي للقيم تتجسد في شريط ساخر النبرة خفيف الروح لا يخلو من قسوة. بخلافه، كان "بيروت اللقاء" قاتم الشكل، يتحدث عن الضياع وانعدام التواصل انما بدون حسم. في "خلص"، يحسم علوية الأمر.. الاستكانة إلى الوضع القائم او الرحيل.

ولكن في العمق، الفيلم هو لحظة بين زمنين قد يكونان حربين او سلمين او حرباً وسلماً في تاريخ المكان ربما اكثر من زمانه. انه اللحظة التي يرجع اليها المتفائل خائباً والخائب متيقناً. لهذا يبدو الشريط مرتبطاً عضوياً باللحظة الراهنة فاذا فشلت مساعي الاصلاح على أرض الواقع، تألق الشريط مرآة للخيبات المتلاحقة وعودة إلى أصل الداء ونقطة البداية. ربما من هنا اختار السينمائي أن يفتتح شريطه بمشهدين يقولان الكثير. البحر اللامتناهي باب الامل الوحيد والأفق الباقي متبوع بمشهد حواري يستعيد فيه الصديقان "أحمد" (فادي ابو خليل) و"روبي" (ريمون حصني) مشهد القناص يردي برصاصه المتلاحق امرأة يتصاعد أنينها كمواء القطط حتى الرمق الأخير. انها الكلمات الأولى التي ينطق الفيلم بها قاذفاً بمُشاهده إلى عتمة الحرب وسكونها المدوي الذي يشبه إلى حد بعيد ليل المدينة لحظة تحاور الصديقين، ليل يخرقه مواء القطط وذاكرة الحرب التي تسكن الرجلين. لا يني الفيلم يسترجع تلك الذاكرة ان من خلال نسج علاقة شخصياته بالمدينة او من خلال مشاهد الحلم التي تداهم "أحمد" خلال نومه. في الاولى، يعمل المخرج على فصل "أحمد" و"روبي" عن بيروت. قليلة هي اللقطات التي تصور الاول في أحيائها. بيروت في هذا الاطار حاضرة كديكور منفصل، ورشة إعمار أو صور قديمة لبيروت الحرب معلقة على حائط الغرفة كما على جدران ذاكرة "أحمد". انها المدينة اذ تلفظ هذا الجيل­جيل الحرب ـ وتقصيه عن نسيجها وحياتها اليومية كأنه يحيا على هامشه فوق أسطح أبنيتهااو على رصيف كورنيشها مذلولاً بعدما تعرض للضرب والاهانة من مرافقي زوج حبيبته السابقة. لعل المكان الوحيد الذي يشكل نقطة تقاطع بين "أحمد" وبيروت هو البحر، مقهى الروضة او صخرة الروشة. وفي كلا المشهدين، البحر هو الافق هو الطريق المفتوح أمام "أحمد" بينما المدينة في ظهر الكاميرا وفي ظهره أيضاً. البحر يدعوه وليس المدينة ولكن الامَ؟ إلى السفر او الانتحار؟ ام انه منتحر أصلاً كما يردد متسائلاً عن عدد المرات التي رمى نفسه فيها عن صخرة الروشة. شيءٌ ما مات في "أحمد" هكذا تقول حياته وكذلك حلمه المتكرر حيث يرى نفسه محارباً أمام متراسه ينفجر ليصحو على ذلك الصوت متسائلاً في قرارة نفسه ربما عما اذا كان حياً أم لا. بخلافه، يبدو "روبي" أكثر اتصالاً بالمدينة وحياتها بواسطة الكاميرا التي يتجول بها مصوراً القطط وصبياً متسولاً. بهذا المعنى، يشبه علوية "روبي" في محاولاته المتكررة ابقاء صلة مع المدينة بواسطة الكاميرا قبل أن تعلن الاخيرة فشلها امام لحظة الموت تماماً كما يتحول الفيلم فيلماً عن الموت وليس الحياة، موت جيل وحلم ومدينة. من اللحظة التي يفارق فيها الصبي الحياة على أثر اصطدامه بسيارة مسرعة، تغيب الكاميرا. انها لحظة تبديل الوسيلة والمنطق بالنسبة إلى "أحمد" و"روبي". الاول يترك الكلمة سلاحه في الصحافة وفي الحفاظ على علاقته بـ"عبير" (ناتاشا الأشقر) والثاني يترك الكاميرا. يعودان إلى منطق الحرب او ما بعدها، الانتقام. والوسيلة في كلتا الحالتين السلاح. "حان دور بيروت لتسمعنا" يقول "أحمد" كأنما في محاولة أخيرة مستميتة للتشبث بالحياة والمدينة. أولم يتجاور الموت والحياة في بيروت لزمن طويل؟ أولم يكن الموت في أوقات كثيرة وسيلة الحياة الوحيدة الممكنة؟

لا يرى "خلص" في بيروت الا جيل الحرب ولا تعنيه الحياة الا من حيث هي معلقة على أمل منكسر أو مغتالة تنزف. ربما هو بهذا المعنى تظهير للصورة التي تسكن عقل مخرجه، صورة شديد الخصوصية سوداوية ومحددة المقاسات، يذهب الفيلم إلى التقاطها بأمانة قصوى لا تترك مجالاً للمتفرج ان يخترقها او ان يناقش المخرج حول دقتها بقدر ما يضعها امامه كما هي صلبة وقاسية مجازفاً بإمكانية أن يرفضها الأخير او أن يقبلها بكليتها. في الجزء الثاني، تتصاعد النبرة العبثية بتحول "أحمد" و"روبي" روبن هود معاصر او بطلي ويسترن يجوبان المدينة ليلاً لإحقاق الحق وتحقيق العدالة كما يتصورانها. يسرقان ويقتلان لينالا من أثرياء الحرب وفاسديها كأنهما ينظفان المدينة مما علق بها ويجعلانها مكاناً قابلاً للحياة. يستوليان على أموال تاجر مخدرات ويقتلان مدير المستشفى الذي رفض معالجة الصبي المصاب حتى مات ويصفيان حسابهما وحساب الشهداء مع رفيق النضال الذي تحول تاجر الأفكار والثورة في زمن السلم. وتصل العبثية إلى ذروتها في مشهد يولم فيه الصديقان على شرف القطط في منطقة الآثار في وسط بيروت بينما تعزف الموسيقى كأنما لحناً جنائزياً أخيراً. ولكن "أحمد" يقف عاجزاً عن الانتقام من حبيبته التي تركته لتتزوج من تاجر/مهرب آثار. يكتفي بترك الخاتم زهيد الثمن ـ رمز حبهما ـ على فستانها الحرير باهظ الثمن في خطوة توسلية أخيرة او ربما كفعل قطع آخر صلة بالماضي. ولكنها ايضاً مصالحة من نوع آخر مع صورة الأب المهزوزة في حياة "أحمد" كما في حياة المخرج، تتجسد بأبسط تعبيراتها العاطفية. بين الخاتم والفستان وصورة الأب، تتشكل تناقضات هذا الجيل: الثورة أم الحياة؟ الافكار او المال؟ الماضي او الحاضر؟ التمرد او العائلة؟ الشعر او التجارة؟

الاسئلة ربما بمعظمها حصرية لجيل علوية، قد لا تدق وتراً عند جيل اليوم وقد لا تجد متسعاً من النقاش في هذا العصر. ربما لهذا وقع الفيلم على كثيرين وقع النعي او الأحرى الحداد على جيل ومرحلة. فيلم خلاصات وتصفية حسابات وربما تحية إلى الرفاق ـ رفاق المخرج ـ الذين غابوا او يحيون في غياب. ينحاز الفيلم اليهم ويتعاطف معهم وأحياناً يقدمهم ايقونات تنطق بالشعر للتعبير عن قسوة واقعها. قد نتخيل "أحمد" امتداداً لشخصية "حيدر" في "بيروت اللقاء" الذي ينتهي الفيلم به واقفاً على أرض المطار قبل أن يحسم خياره بالبقاء. بخلافه، يغادر "أحمد" على وينتهي الفيلم على وقع صوت ملاح الطائرة معلناً: "تجدون إلى يمينكم الصحراء العربية الكبرى وإلى يساركم الصحراء العربية الكبرى ومن أمامكم الصحراء العربية الكبرى ومن خلفكم الصحراء العربية الكبرى". يغادر "أحمد" كما "روبي" ليس يأساً انما لعدم قدرته على البقاء في المكان الذي جره إلى خيارات قصوى.

وبعد، هل يختم "خلص" حوارية برهان علوية مع بيروت؟ هل تكفي نبرة العنوان القاطعة لوضع حد لهذه العلاقة؟ أم ان كل ما تقدم هو نثرات جوانية لا تجد سبيلاً للخروج الا على شكل صور تبدو في أحيان كثيرة غير متصلة الا من حيث انتمائها إلى وجدان صاحبها الصاخب؟

المستقبل اللبنانية في 8 فبراير 2008