كتبوا في السينما

 

 
 

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

أرشيف

إبحث في سينماتك

إحصائيات استخدام الموقع

 

مهرجان روتردام السينمائي الدولي الـ37

تجارب مختلفة تجرّ الجدل السينمائي الفكري والفني الى قلب المهرجان... وإضاءة على السينما العربية تتحسس أصواتها الجديدة كما تحيي تجاربها المكرسة

روتردام ـ ريما المسمار

أوشك مهرجان روتردام السينمائي الدولي على نهايته مختتماً احتفالية سينمائية ضخمة ضمت أكثر من خمسمئة فيلم في فئاته الأساسية والجانبية. واذ ينأى المهرجان بنفسه عن المظاهر البراقة والنجوم والأضواء، يحتفل بالمخرجين وبالأفلام مفسحاً في المجال أمام الحضور لقاء المخرج ومناقشته بعد كل عرض. غالباً ما تساعد تلك النقاشات والأسئلة في تحديد مزاج الجمهور تجاه الفيلم وتمكن المتابع تالياً من قياس تجاوب المشاهدين مع الأفلام. وتلك ـ اي قياس جماهيرية الفيلم ـ ليست سمة غريبة في المهرجانات التي تتواصل مع محيطها ومجتمعها مقيمة جسورأً بين السينما العالمية وبين الجمهور المحلي والوافد الذي يرى في المهرجان نافذة على الانتاجات السينمائية العالمية. يميل مزاج الجمهور في هذه الدورة الى أفلام ذات نبرة سياسية تعقب على موضوعات معاصرة تشغل الرأي العام الاوروبي والعالمي. أفلام تتطرق الى موضوعات ذات سمة انسانية تفحرت في الآونة الاخيرة تحت ضغط التحولات الكبرى. هكذا نعثر في رأس قائمة اختيار الجمهور على فيلم "بيرسيبوليس" للايرانية مارجان ساترابي الذي أحدث ضجة بعيد عرضه في المسابقة الرسمية لمهرجان "كان" وكذا فعل هنا في روتردام. فهو شريط تحريك مأخوذ عن كتاب رسوم بتوقيع ساترابي أيضاً، يتناول تجربتها في ايران كابنة لعائلة منفتحة بعيد الثورة الاسلامية. الشريط المليء بالسخرية يصور حياة العائلة في نقطة تحول تاريخية اي الثورة الاسلامية. ساترابي الطفلة وقتذاك تتفاعل مع الاحداث انطلاقاً من موقف أهلها فتشيد بثورة الخميني التي اعتقد الشيوعيون أنها ستقودهم الى عصر جديد. مع بروز معالم الحكم الاسلامي، تغادر ساترابي المتمردة الى النمسا لتعيش هناك تجربة مختلفة لا تخلو من قسوة. على أثر عودتها الى ايران، تصاب بالاكتئاب قبل أن تقرر متابعة دراستها الجامعية. وبعد تجربة زواج فاشلة تقرر السفر من جديد الى فرنسا هذه المرة. يحمل الفيلم نقداً لاذعاً انما بسخرية وذكاء عاليين وما ذلك التناقض بين شكل الفيلم ولهجته من جهة ومضمونه من جهة ثانية الا مدعاة لتقدير تلك التجربة المرة والاعجاب بقدرة صاحبتها على تناولها بتلك الروحية الساخرة والطريفة. في مرتبة متقدمة في لائحة الافلام الاكثر رواجاً في المهرجان، شريط الافتتاح الارجنتيني Lamb for God للوسيا سيدرون الذي يستعيد فصلاً اسود من الحكم الديكتاتوري في الأرجنتين من خلال قصة "تيريزا" التي تعود الى موطنها بعد سنوات طويلة من العيش في منفاها الاختياري في فرنسا لتبحث عن والدها المخطوف. ولكن عودتها هي عودة الماضي بصوره الاليمة من الاعتقال والتعذيب والموت. كذلك قدم المخرج العراقي محمد الدراجي فيلمه الوثائقي "حرب، حب، حرب وجنون" الذي حاز نسبة مشاهدة عالية لاسيما ان الفيلم استكمال من نوع ما لفيلمه الروائي الاول "أحلام" الذي عرضه المهرجان في العام 2006 جالباً الأنظار الى تجربة اتسمت بالطزاجة والآنية اذ صورت بعيد سقوط نظام صدام حسين. استحوذ الفيلم هلى اهتمام المشاهدين وقتذاك وتوجهت معظم التساؤلات نحو آلية صنع فيلم في محيط متحول وخطر. في فيلمه الجديد، كأنما أراد المخرج أن يقدم الاجابة بشكل موثق فإذا به يلملم مادته الخام ويؤلف منها فيلماً أقرب الى الـ"مايكينغ أوف" (Making of) يصور مسيرة "أحلام" منذ التحضيرات الاولى وحتى استكماله وما رافقها من مصاعب ومخاطر وتحولات انسانية تخص المخرج وفريق العمل.

لا يتوقف ميل جمهور المهرجان عند ذلك الحد. فهناك بين الافلام الاكثر مشاهدة الاوسترالي Unfinished Sky لبيتر دانكن الذي تدور أحداثه حول علاقة بين مزارع اوسترالي أرمل وإمرأة افغانية تتعرض للاغتصاب على خلفية الصراع الصراع المتنقل بين المجتمعات الاوروبية والاميركية ومهاجريها لاسيما بعد 11 ايلول. تطول اللائحة لتضم افلاماً بمذاق متقارب من مثل Go with Peace Jamil لعمر شرقاوي الذي يرصد الصراع السني الشيعي بين ابناء الجالية العربية في الدانمارك والتركي My Marlon and Brando لحسين كاراباي المعقود على رحلة بطلته "عائشة" من اسطنبول الى كردستان مروراً بايران لملاقاة حبيبها. ولا يبتعد شريط الروسي ألكسندر سوكوروف Alexandra من تلك المناخات اذ يذهب بحكايته عن امرأة تزور حفيدها في الجبهة على حدود الشيشان الى طرح أسئلة حول الحرب والانسان والسياسة والانسانية.

ضمن منظومة الصراع بين الثقافات والمجتمعات على خلفية الجدل السياسي المتفجر، تتقارب الافلام من اوستراليا وايران وتركيا والدانمارك وروسيا والعراق كأنها تعلن صراعاً موحداً يصيب المجتمعات الانسانية ويجمعها حول سؤال اساسي: كيف السبيل الى التعايش؟ وعلى اية اسس؟

في الغالب، لا تسعى تلك الافلام الى تقديم اجابات وهي في كل الاحوال ليست معقودة على ذلك الهدف. بل هي تطرح وتناقش وربما تخرج بخلاصات. غير ان الاهم في كل ذلك هو كيفية انعكاسها على المهرجان باسره الذي يتحول وعاءً حاملاً للهواجس الانسانية كما الفنية. ومن هنا تتشكل هوية مهرجان روتردام بملامحها العامة انما الاساسية من خلال احتضان النقاش الى قلب المهرجان. بمعنى آخر، يرتبط اي مهرجان بالسينما بقدر ارتباطه بالجدل الدائر حولها اي ان المهرجان يتحول منصة لطرح الجدل السينمائي والفكري بما يمكنه من مواكبة السينما بالمعنى الواسع للكلمة. واذا كانت تلك الافلام تهيئ للمهرجان الاطار الفكري فإن برامج أخرى تشكل الاطار العام للجدل السينمائي الفني. هناك في البرامج الموازية، نقع على تجارب جديدة او شديدة الخصوصية في علاقتها ليس فقط بالصورة انما ايضاً في علاقة السينما بالفنون الأخرى. تلك هي حال برنامج "دراغونز إن" الذي يجمع تجارب ثلاثة مخرجين آسيويين من بينهم التايواني تساي مينغ ليانغ إذ يخطون خارج تجاربهم السينمائية الخاصة الى تخوم تعبيرية مختلفة كالفيديو والتجهيز.

لا تخضع اختيارات المهرجان لذلك فقط بالطبع. فعلى صعيد غير جماهيري، يرافق جدل اختيارات الافلام أي مهرجان مهما عَظُمت طاقاته وكَبُرَت قدراته. فتلك الآلية القائمة على الاستعانة بمبرمجين ومستشارين يتابعون الافلام الجديدة ويقترحونها على ادارة المهرجان، تخضع لعوامل كثيرة منها ما هو منظور ومنها ما هو غير منظور. ثمة مكان للمزاج الشخصي وآخر لـ"السلطة" السينمائية التي يتمتع بها بعض السينمات المكرسة. يقابل تلك المبالغة أحياناً فتور في مواكبة سينمات أقل حضوراً في المشهد العالمي كالسينما العربية مثلاً الواقعة بين أزمتين: فهي من جهة تخطت مرحلة البدايات التي تفرض تعاطفاً وانجذاباً. ومن جهة أخرى، لم تتمكن ـ اي السينما العربية ـ من تخطي البدايات تماماً الى انطلاقة واثقة تثبت حضورها. على أن الدورة الحالية للمهرجان خطت خطوة أكبر نحو الافلام العربية هذا العام ليبلغ عددها نحو خمسة عشر في فئات الروائي الطويل والقصير والوثائقي وهو ما لم تحظَ به من قبل في دورات المهرجان السابقة. ولكن ليس الأمر ذلك وحسب. فالاختيار في حد ذاته ينم عن دعم الاصوات الشابة والمختلفة. في هذا الاطار، حازت المخرجة اللبنانية رانية اسطفان في برنامج "إضاءة على القصير" اهتماماً خاصاً حيث عُرضت مقاطع من أفلامها السابقة كما قدمت آخر أعمالها "لبنان/حرب" الذي يضم ثمانية أفلام قصيرة صنعت لحرب تموز صورة مغايرة ولمعنى العمل الوثائقي في ظل واقع متحول مفاتيح شخصية بامتياز.

لقد اجتازت المخرجة اشكالية تلك الاعمال النابعة من طبيعتها. كيف يمكن الصورة في حالة الحرب ان تجمع بين الحدث من جهة وبين القدرة على ان تكون صورة حية للحاضر والمستقبل من جهة ثانية؟ ذهبت اسطفان الى حكايات فردية لا تروي المعاناة اليومية بخطاب مكرور ولكنها ايضاً لا تعلو فوق معاناتها بكلام لا جذور واقعية له. ربما يصلح القول ان تلك الافلام قبضت على مفارقات او مواقف خاصة او حالات انسانية ذات خصوصية... كلها تسميات صالحة ولكنها في المحصلة مثابرة المخرجة واصراره على مقاربة انسانية غير استعطافية وتكرارها المحاولة بحب هي التي جعلت من مشروعها مادة قوية عن الانسان والحرب.

في ثمانية أفلام ـ "4 آب 2006، بيروت وسط المدينة" و"8 آب 2006، ضاحية بيروت الجنوبية الشياح" و"9 آب 2006، كلية الحقوق بيروت" و"12 آب 2006، ذكرى الشهداء وسط بيروت" و"14 آب 2006، جسر الضاحية الجنوبية" و"15 آب 2006، مدرسة رمل الظريف" و"24 آب 2006، بنت جبيل 1" و"24 آب 2006، بنت جبيل 2" ـ حاولت رانية اسطفان التقاط "كواليس الحرب" من صور وحوارات لا تدخل في "الماينستريم". حوار بين ثلاثة أطفال يتبارون فيه على التباهي بالمرض والمعاناة او شاب يتموضع امام الكاميرا مردداً شعارات ومبدلاً أعلاماً او رجل أبكم يقول بالاشارات ما عاشه وخبره في تلك الحرب... يتصاعد الحديث من الوضوح الى الابهام مع تداخل الاصوات وفقدان الشخصيات القدرة على التعبير او عدم قدرة المشاهد على السمع. تلعب الحكايات على وجهين: الاول خصوصية الحالة وفرديتها والثاني علاقتها بالواقع. بمعنى آخر، تتعاطى اسطفان مع الشخصيات كحالات انسانية تاركة للمشاهد ان يستشف ما هو أبعد لجهة عكسها وجهاً آخر للواقع يتعارض مع احادية النظرة التي تعممها وسائل الاعلام والخطاب السياسي.

الى اسطفان، قدم المخرج اللبناني الشاب شادي زين الدين باكورة أعماله الروائية "على الارض السماء" في فئة "تايم أند تايد" وهو شريط خاص وتجربة جديرة بالمتابعة ليس استناداً الى كمالها انما من موقع جرأتها وشغف صاحبها. فالفيلم الذي حمل بدايةً عنوان "بانتظار بيروت" شرع مخرجه بتصويره منذ نحو اربع سنوات بماله الخاص وبمساعدة أصدقاء الى ان اكتمل التصوير وحظي بمساعدة توزيعية. يتناول السيناريو الذي كتبه زين الدين فصولاً من تاريخ بيروت الحديث ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالحرب. ولكل فصل حكايته وشخصياته التي تعيش حالة حرب داخلية على مستوى فردي وتحيط بها حالة حرب حقيقية تطاول البلد برمته. يتلون شريط زين الدين بموتيفات سينمائية معروفة. الماء والنار ثنائيتان حاضرتان على طول الشريط. وذلك الرجل المجنون ـ الحكيم (رفيق علي أحمد) الذي يهوى جمع الصور الفوتوغرافية المرمية في تلميح الى الذاكرة المهدورة او المنسية هو الرابط بين الحكايات الثلاثة. "على الارض السماء" شريط مسكون بالرموز والايحاءات وملامح الواقع وبقايا التاريخ القريب.

في اطار العروض الوثائقية الموزعة على فئات المهرجان، برز شريط المخرج الاردني محمود المساد "اعادة خلق" وهو في جوهره بورتريه لشخصية مجاهد سابق في أفغانستان عمل حارساً شخصياً لعدد من أمرائها وزعمائها. يتوغل الشريط في حياة "أبو عمار" ومحيطه في مدينة الزرقاء الاردنية التي نشأ فيها أحد قادة تنظيم القاعدة "أبو مصعب الزرقاوي" ويقاربه الفيلم في لحظة حاسمة من حياته وقد تحول جامع كرتون لمصانع اعادة التدوير من أجل إعالة اسرة تتكون من زوجتين وثمانية أولاد. يبني الفيلم أحداثه على ايقاع الحياة اليومية للرجل وما يتخللها من أحاديث في الدين والجهاد والالتزام والسياسة. انه في باطنه بحث عن جذور التطرف ومحاولة فهم لمكوناته وفي ظاهره صورة تجمع كل متناقضاته. بجدية تامة، نستمع الى نقاشاته مع أصدقائه حول الدين والهجرة المحرمة الى "بلاد الكفار" كما يسميها وأحداث 11 أيلول. لا يتكلف الفيلم اقحام اي نقاش حول القضايا الشائكة المعاصرة بل يترك لشخصياته أن تقود ذلك الخطاب بنتف حوارية عابرة أحياناً وكوميدية أحياناً أخرى وصولاً الى ذروة الفيلم المتمثلة بتفجيرات الأردن الارهابية عام 2005 التي يُسجن الرجل على اثرها بشبهة الضلوع بها. بعد أربعة اشهر من التحقيق يُخلى سبيله ويبين الفيلم بحساسية وبدون مجاهرة ان ثمة شيئاً انكسر في وجه "أبو عمار" وفي عالمه الداخلي لينتهي بقرار هجرته الى الولايات المتحدة الاميركية. نهاية غامضة لشخصية لا يدعي الفيلم الكشف عن غموضها بقدر ما يلمح الى تناقضاتها الداخلية غير المعلنة متخذاً من قدرته ـ اي الفيلم ـ على ولوج عالم "أبو عمار" وحمله على تشريع حياته بدون ادعاء امام الكاميرا نقطة قوته الاساسية.

على صعيد آخر، قدم المهرجان فيلم عبد اللطيف كشيش "البذرة والبغل" (عُرض في مهرجانات اخرى تحت عنوان "أسرار الكسكس"). يمتاز الشريط بقدرة عالية على تشريع النقاش حول قضايا اجتماعية وانسانية في اطار حكائي شديد الواقعية يكاد أحياناً يلامس التصوير الواقعي للحياة. انها حكاية "سليمان" الستيني الذي يعمل في شركة فرنسية لصيانة المراكب والمنفصل عن زوجته أم اولاده والمقيم في نزل يعشق صاحبته ويعامل ابنتها "ريم" كابنة له. عندما يكتشف ان المسؤول في الشركة خفض ساعات عمله الى النصف، يواجه نهاية المطاف: هل يعود الى تونس كما ينصح ابنه الذي يسأله عما بقي لديه في فرنسا؟ يأتي جواب "سليمان" ليثبت ان مازال لديه الكثير حيث يعيش. يقرر افتتاح مطعم متخصص بالكسكس الاكلة المغاربية الشهيرة مشتغلاً على ذلك بمساعدة عائلته بعد ان رفضت البلدية والمصرف تمويل مشروعه. في ليلة الافتتاح، يدعو المتنفذين في البلدة ليشهدوا على نجاح مشروعه العيني وتالياً للمساهمة في المشروع الذي بات منجزاً ومضمون النجاح. ولكنها ستكون ليلة المفاجآت. يستمد الفيلم قوته من لغته وبنائه. الكاميرا شديدة الاقتراب من خصوصية الشخصيات، تتخذ شخصية فرد من العائلة وتترجم تلك الحميمية التي تسم طباع العائلة حيث لا خصوصية ولا مساحة للفرد. في تلك المعادلة، يتحول الفيلم مشاهد متساوية الطول لأحاديث الشخصيات، يصورها كما لو انه يوثقها ويذهب الى الآخر في محاولة الاحاطة بها بالمعنى الحرفي للكلمة حيث الكاميرا تلهث من كل جانب ملتقطة ادنى اشارة وأصغر تعبير. الكاميرا تأخذ وقتها تماماً كما الحياة في تلك البقعة من العالم وبين تلك المجموعة من الناس. الحياة كناية عن تأمل طويل وتنظير أحياناً. في الجانب الفني، يتبع الفيلم الزمن الحقيقي للأحداث وللمشاهد. لا تقطع الكاميرا حواراً ولا مشهداً بل تنتظر بفارغ الصبر ان ينتهي فعلاً قبل ان تنتقل الى شيء آخر ما يمنح الفيلم والشخصيات ايقاعاً خاصاً جداً يكتسب معناه صوب النهاية. فكل لقطة او مشهد هي خطوة على طريق الرحلة الداخلية لكل شخصية. وفي ليلة الافتتاح التي تشكل نصف الفيلم زمنياً، تصل الرحلة الى نهايتها. رحلة التحول والتبدل. وفي شريط يتناول حياة المهاجرين في فرنسا بشكل او بآخر، يقدم كشيش مقاربة شديدة الخصوصية لا تفصح بقدر ما تلمح ولا تفضح بقدر ما تنسج عالماً منمنماً لتلك الحياة. انه نقدي بامتياز انما على الدرجة نفسها من التهذيب الذي يغلف أداء الفرنسيين العنصري ـ على الاقل في الفيلم ـ تجاه سليمان. لا يفلت من كشيش اي تفصيل. من التصوير الى الحكاية، يبرز التمثيل نقطة الثقل الحقيقية لاسيما انه ليس تمثيلاً بقدر ما هو حالة كاملة تخلقها كل شخصية وتعيشها على مدى الفيلم الى حد يخال معه المتفرج انه أمام شخصيات واقعية تصورها كاميرا غير مرئية بينما هي على سجيتها تعيش انفعالاتها بصدق وشفافية.

هي فوضى

لم تكن التجارب الجديدة والمختلفة وحدها ممثلة السينما العربية في الدورة السابعة والثلاثين لمهرجان روتردام الدولي. فلعبة "المحاصصة" بين السينما المستقلة والجديدة والسينما المكرسة التي يمارسها المهرجان بحرفة مدروسة انسحبت كذلك على الافلام العربية المشاركة ليجد فيلم يوسف شاهين وخالد يوسف الجديد "هي فوضى" مكانه في "كينغز أند آيسز" المخصصة للسينمائيين المكرسين والرواد. لأسباب كثيرة، لا ينفصل النقاش حول السينما العربية، لاسيما من وجهة النظر الاوروبية، عن سياق هذه السينما ومحيطها. فالسينما في وصفها مؤشراً الى احوال مجتمعاتها السياسية والانسانية تشكل نقطة اجتذاب للجدل الفني كما السياسي والاجتماعي. هكذا خرج "هي فوضى" من وجهة النظر تلك فيلماً "جريئاً" وساخناً، يتناول قضايا الفساد في الشرطة واساليب القمع والاعتقال غير المشروعة. والفيلم يأتي شحوناً بحوادث واقعية لم تخمد نارها بعد وأبرزها حكاية الشاب الذي تعرض للتنكيل والتعذيب على يد الشرطة وسُرب الشريط الذي يسجل الواقعة لارهاب الناس. ولكن الحكاية اتخذت منعطفاً آخر حين اقتنع الشاب بالتقدم بشكوى اعتُقل الضابط الذي عذبه على أثرها وحوكم بالسجن بعد محاكمة استغرقت قرابة السنة. من تلك الخلفية، أبصر "هي فوضى" النور وسط توقعات بحمله مادة سياسية دسمة وخطاباً ضد السلطة والفساد. وذلك صحيح الى حد بعيد ولكن الفيلم يقتفي اثر الفيلم السردي الذي تلعب الحكاية فيه الدور الرئيسي وتشكل الوعاء لخطابه. والمفارقة ان الحكاية هي الاقوى في الفيلم او الاحرى ملامح تلك الحكاية التي تقودها شخصية أمين الشرطة "حاتم" (خالد صالح) المردد باستمرار "اللي مالوش خير في حاتم مالوش خير في مصر". وحاتم هذا يشكل ببطشه وتمادي سلطته الموظف الحريص المناطة به مسؤولية استحكام الامن بالناس. تبدأ الدراما عندما يقع في حب جارته المعلمة "نور" (منة شلبي) بينما الاخرى لا تفلت فرصة للفت نظر وكيل النيابة ابن ناظرة المدرسة (هالة صدقي) التي تعمل فيها. تصل الحال بحاتم الى حد الهوس الذي يدفعه الى اختطاف الفتاة واغتصابها بما يحرك اهل الحي فيثورون مطالبين يتوقيف حاتم ووضع حد لبطشه. يقتل حاتم نفسه ويتوقف بطشه بالفعل ولكن أليس هو مجرد أداة لتطبيق النظام الامني؟ في شقي الحكاية، تتفوق الدراما على كل ما عداها وتبهت الصور الاخرى من الرموز التي يزرعها (شخصية الناظرة العروبية الثائرة) اليالتوازنات التي يحاول تحقيقها (شخصية وكيل النيابة النزيه في وجه امين الشرطة المستبد والوصولي) مروراً بمشاهد التعذيب والسجن التي تلامس الكاريكاتور أحياناً. يبقى الفيلم معلقاً بين عالمي الحكاية والاطار السياسي عاجزاً عن صوغ نسيج متماسك يجمع العالمين بما يحد من عمق الدراما وتركيب الشخصيات.

المستقبل اللبنانية في 1 فبراير 2008