كتبوا في السينما

 

 
 

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

أرشيف

إبحث في سينماتك

إحصائيات استخدام الموقع

 

«ستكون هناك دماء» لبول توماس أندرسون

مملكــة اللـه العائمـة علـى النفــط

زياد الخزاعي

من جُبّ الأرض يخرج الطاغية الذي يخطف الوليد ويزوّر الدم ويسرق الثروة. نراه في المشاهد الافتتاحية وهو يدنّس حجارتها بمعوله، منقّباً عن خيراتها التي تقوده نحو جشع لا نظير له. إنه صنيع العناد القائم على الشكّ بالآخرين، الذي يقوده إلى تبريره الذاتي في خداعهم والتحايل عليهم. دانيال بلينفيو يكدّ بصمت يشبه الخرس المقدّس وهو قابع في منجم حفره بإرادة جبّارة، ينال مكرماته من جدران تشبه سحنته المتجهمة المعفرّة. هذا الكائن بلهاثه الوحشي يتوّج صبره بثروات صغيرة من الصكوك، عندما يسلّم الحجارات الخام الى أصحاب معامل التذويب، من دون أن يعيقه كسر قدمه الذي حدث بعد سقطته المفاجئة داخل جُبّه العميق.

الغول النفطي

بلينفيو (أداء صاعق للايرلندي دانيال داي لويس) غول اقتصادي في طور التكوين وتراكم السطوة. لا يرفع عينيه إلى أعلى، بل يبقيهما شاخصتين نحو التراب. الحجر هنا موئل ثروته المقبلة، التي «ستعفيني من الجميع، الذين لا أرى فيهم خيراً» كما يعترف لاحقاً. بطل «ستكون هناك دماء»، جديد صاحب «ليالي البوغي» (1997) و«ماغنوليا» (1999) المخرج الأميركي بول توماس أندرسون (ولد في العام 1970 في استوديو سيتي كاليفورنيا، وأنجز عمله القصير «سجائر وقهوة» في العام ,1992 ألحقه بأول فيلم طويل له بعنوان «ثمانية عصيّة» في العام 1996)، ينأى بحاله عن العاطفة وشرورها، فهو موعود بأمجاد لا تقارب الصدف أو المنح الإلهية. إيمانه المطلق أولاً وأخيراً بنفسه وعزمه ودهائه، وصوته وطريقة كلامه اللذين يستخدمهما أداتين بالغتي التأثير على ضحاياه. عندما يطل بلينفيو بشاربيه الكثّين على ضوء الشاشة بعد ثلاث عشرة دقيقة من ظلمة المناجم البدائية، نواجه محنة ملء السيرة الناقصة لهذا الغول البشري. يرمي المخرج أندرسون به في وجوهنا كالفجاءة ليسمّرنا، على مدى الـ158 دقيقة (مدّة الفيلم)، ويلوعنا فيها بمؤامراته ودنسه الذاتي وأسواره الذكورية التي تحميه من الزلل وضياع الهمّة المالية. كائن بلا تاريخ أو حلفاء كُثر، يُعرِّف مستمعيه الى الصبي المستكين خلفه: «هذا هو ابني أتش دبليو... شريكي»، بعد أن يُعلن لهم أنه «رجل يبحث عن النفط». هذا الاعتراف يؤرّخه المخرج أندرسون بالعام 1902 كمفتتح للألفية الثانية التي تزخر بصراع البترول إلى اليوم. بلينفيو هو أحد رواد هذا الهوس القدري الذي سيغيّر العالم والنفوس والكرامات والسياسات. عندما اكتشف الطين السائل الأسود مصادفة، كوّن هذا المارد مملكته التي لا يتجانس فيها إلا مع صبيه ـ وريثه الذي يبصق لاحقاً على ثروته المؤسَّسة بالحقد. عند الهامات الثلاث للجبال الصخرية (التي تُذكّر بمواقع فيلم «كنز سييرا مادري» (1948) للكبير جون هيوستن)، يرفع بلينفيو كفّه المخضّبة بـ«الدم الكريم» الثمين والمُكلف إيذاناً بإعلان حربه على الجميع. اشتراطاته منذئذ أن لا يجاريه أحد، أو على الأقل ألاّ يتجرّأ أي كان على قضم الفرص الكبيرة منه، فالعقاب جاهز كما قال لكبير مستشاري إحدى الشركات الذي اقترح أن يتخلّى عن مؤسسته: «سآتي الى غرفتك وأحزّ عنقك». إن الدموية صنو جبروته ومفارقتها التي تؤدّي بالغول النفطي نحو عزلاته ووحشيته المتفاقمة على الجميع من حوله، ويقول فيها: «لقد بنيت حقدي شيئاً فشيئاً عبر أعوام».

في العام ,1911 يطرق بابه شاب غريب الأطوار يدعى بول صاندي يرابيه (كما يهوذا) على خمسمئة دولار مقابل سر بقعة نفطية تضمها مزرعة والده في كاليفورنيا. هناك تتقابل كذبة بلينفيو عندما يبرّر للعائلة مجيئه وابنه بصيد طائر السُّمَاني (الفرِّي) وجشع الشاب الآخر إيلاي (أدّى الدورين بحذاقة عالية الممثل الشاب بول دانو من دون أن يكشف أندرسون هل هما شخص واحد أم توأمان!)، المأخوذ بيسوعيته وقدرات كنيسته على التخليص من الخطايا. هنا، يتحوّل «ستكون هناك دماء» (اقتبسه أندرسون عن رواية الكاتب أوبتن سنكلير «نفط!» المنشورة في العام 1927 وصادفها الأول في إحدى مكتبات لندن) الى مقاربات درامية حول ثباتهما على كسر شوكتي أحدهما الآخر. الأول، الذي يرى في الشاب ممثلاً بارعاً «كان عرضاً مشوّقاً!»، يغمز بلينفيو في قناة قداسه الذي يتخيل فيه إيلاي طرده للشيطان، فيما يعتبر الأخير الغول النفطي إنساناً تخنق روحه اليائسة آثام لا تحصى، لا كفيل بكفاراتها سوى إرغامه على الدخول بنسق كنسي لا يتخطّاه، وعليه أن يخشاه بما يكفل تخفيف شراسة خُلقه.

ابتزاز

لن يرضخ البطل (أبقى أندرسون، في رهان غريب الدوافع، الطلّة المهيبة لممثله داي لويس في غالبية المشاهد، ولم يغب سوى في اللقطات الطبيعية ذات اللمسات التفخيمية على غرار أفلام جون فورد، الذي صوّرها بحذاقة مدير التصوير روبرت أليسوت) الى نوازع الشاب التي تقوم على الابتزاز المالي. ولن يلين إلاّ عندما فَقَدَ ابنه أتش دبليو سمعه إثر انفجار بئر النفط، إذ يهمس إيلاي:«ما كان هذا يحدث لو أقمت التبريكات. إن كنيستي محتاجة اليك». ما إن يقع بلينفيو على ركبتيه في مشهد مفعم بطقوسية إقصائية لكينونية الجبّار النفطي، حتى يكرّر المتنسّك الشاب سُبته مردداً: «قل أنا مذنب. لقد تخلّيت عن ولدي»، ونرى حجّاج الكنيسة وقد التفوا حول البطل بما يشبه تقديم القداسات الى المخطئ الذي عَبَرَ نحو غفرانه. ما أخطأ فيه الجميع، أن هذا الوحش العقلاني لا يمت إلى التنازلات بصلة، ولا يؤمن بعطايا أحد. إنه ينتظر قليلاً كي يكيل الصفعات (العقاب الأول لإيلاي) على وجه الكاهن الجشع قبل أن يمرّغ سحنته بالطين النفطي.

وعى أندرسون (كاتب النص أيضاً) أن نفط الكاتب سنكلير مجاز تاريخي وليس منتوجاً للثراء وحسب. فبلينفيو هو صناعة التحوّل المتعجّل لمجتمع وفد من أصقاع العالم كي يبني «دولة الله» التي تتحمّل أوزار نشر العدالات (في «عصابات نيويورك» لمارتن سكورسيزي تحميل مؤدلج مقارب لهذا العمل، مع فارق أن الوحشية التي اصطبغ بها العمل الأول رسمت سيرورة مدينة، فيما ذهب أندرسون إلى أقانيم التوأمة المتعاكسة بين الدين والمال بصفتيهما استحقاقين لتعميم امبراطورية الهيمنة. من هنا نفهم إصراره على مفهوم العائلة وبذورها البشرية). وما ارتحالات البطل التي تداخلت بين أزمان وأمكنة متنوّعة (وإن ظلّت أميركية الطابع) سوى استعارة لكونية ريادته في مجال الاستكشافات النفطية التي تتحوّل في السبعينيات اللاحقة إلى قوة كارتلات عملاقة تمزج العمل التقني بخبث السياسات وانقلاباتها.

كيف نسد النقص في سيرة هذا الجائر؟ بحسب نص أندرسون، سطا بلينفيو على وليد أحد مستخدميه الذي قضى في حادث وتبناه ابناً وشريكاً، مبرّراً لسيدة استفسرت عن أم الصبي: «لقد قضت في نفاسها». في منتصف الفيلم، تظهر شخصية غامضة تدّعي أنها شقيقه الذي تخلّى عنه رضيعاً، وفي لحظة ضعف نادرة يميل البطل إليه ويضمّه تحت جناحه قبل أن تتكشّف ظنونه حول الدعيّ الذي أراد مناصفته أمجاده. ومثلما يلغي الابن من تاريخه، يكون على المارد أن ينظّف هذه السيرة المقحمة عليه، فيقوم بـ «أداء» أولى جرائمه. يُصفّي الغريب، ويطمر جثته في العراء. وكما كان هذا الدم سهلاً، فإن بلينفيو يحقّق خطيئته الثانية المزدوجة في العام 1927: أولاً، حين يتقابل وهو هرم وسكير ومعزول في دارته الثرية (أصرّ نقاد كثيرون على مقاربة هذا الفصل مع «المواطن كين» لأورسون ويلز) مع الابن الذي يطالب عبر مترجم (كونه يعاني خرساً إرادياً) بفك الشراكة، فيصرخ الأب المزيّف (بعد أن يجبره على قول طلبه وتجاوز علّته الكاذبة) مردّداً في وجهه: «اغرب عني. أنت أقل من نغل». ثانياً، الظهور المفاجئ لإيلاي وهو في قمة جبروته آتياً لجني غلّته، فيطارده العجوز بكرات البولينغ بعد أن يرغمه على ترديد كفرته: «أنا نبي مزيّف، والرب خرافة»، كإثبات على دونيته وفساده وخديعته الدينية التي ابتز بها الجميع. وكما يقول الكتاب المقدس: «من دون سفك دماء، لا تحصل مغفرة» (عبرانيين 922)، ينهال بلينفيو على رأس الثعبان مهشّماً إياه، «لأن أجرة الخطيئة هي الموت» (رومية 623).

لن يحقّق العجوز غفرانه، إذ إن حجم رمزيته لا تشتمل حمله لذنوبه بل تأكيدها على اعتبار أنه أحد الغيلان التي جاءت من جِبَاب الأرض لتفجّر دماً أسود، أعلن الحقبة النفطية التي تستمرئ حروب الجشاعات وموت الضمائر.

)لندن(

السفير اللبنانية في 24 يناير 2008