كتبوا في السينما

 

 
 

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

أرشيف

إبحث في سينماتك

إحصائيات استخدام الموقع

 

«في وادي ايلاه» لبول هاجيس يقول حرب العراق من بعيد...

تلك الحروب التي تحوّل فتيان أميركا وحوشاً باردة

إبراهيم العريس

إذا كانت حرب فيتنام قد انتظرت الى ما بعد انتهائها، ولو أحياناً بسنوات قليلة، قبل أن تكون لها أفلامها، الغاضبة عموماً ضد التورط الأميركي فيها، فإن حرب العراق لم تنتظر كل هذا الانتظار، إذ ها هي الأفلام تتوالى متحدثة عنها، آتية من هوليوود خصوصاً، منذ فترة من الزمن فيما الحرب لا تزال محتدمة. وهذا أمر جدير بالسينما التي تتناول أحداثاً سياسية كبرى راهنة. فالمعتاد أن السينمائي ينتظر انقشاع الغيوم وتجذر الرأي العام، المناهض للحدث أو المؤيد له، حتى يشق طريقه في مجال إبداعه ويحقق عملاً، أو أعمالاً تحمل آراءه، أو تستند الى ما يمكن اعتباره رأياً عاماً شعبياً.

العكس، إذاً، حدث هذه المرة الى درجة أن عدد الأفلام المحققة، خلال الشهور الأخيرة عن حرب العراق وما يدور من حولها، تكاد توازي – عدداً على الأقل – كل ما حقق عن فيتنام خلال عقود طويلة. فهل ثمة تفسيرات ممكنة لهذا؟ هناك بالطبع تفسيرات عدة، ولكن يمكن – فقط – الإشارة الى ثلاثة منها:

أولاً هناك عولمة الإعلام التي باتت تجعل من أي حدث، أمراً عاماً راهناً لا يمكن السينما الانتظار طويلاً بعد أن تكون التلفزة أشبعته حديثاً وتصويراً، وهناك ثانياً أن هوليوود تتحول أكثر وأكثر لتصبح ضمير الشعب الأميركي، علماً أن حرب العراق ليست «شعبية» لا في أميركا ولا في العالم، وخصوصاً بعدما استنفدت غرضها الأول: إطاحة صدام حسين والتخلص منه، وانكشفت كذبة الغرض الثاني: تدمير أسلحة الدمار الشامل. أما ثالثاً فهناك واقع أن جورج دبليو بوش نفسه ليس رئيساً محبوباً في هوليوود، ذات الميول «الديموقراطية» عادة، ما يجعله ويجعل سياساته هدفاً مستطاباً لمبدعي هوليوود ومنهم الى نخبة متفرجي السينما في أميركا والعالم. فإذا أضفنا الى هذه العوامل الثلاثة، ان تجربة فيتنام نفسها وتوابيت القتلى الأميركيين العائدين من حربها، لا تزال ماثلة في الأذهان تدفع الناس الى أن يقولوا: «كفى»... في السينما وخارجها، يمكن بسرعة أن نفهم تكاثر الأفلام ثم... الإقبال عليها.

بين السطور

كثيرة، إذاً، هي الأفلام التي حققت حتى الآن حول هذا الموضوع وملحقه الأفغاني. وليس هنا المكان الأفضل لوضع لائحة. هنا نشير فقط الى أنه إذا كان في المستطاع المفاضلة بين الأفلام التي حققت، أو عرضت حتى اليوم، لا شك في أن أحد الأمكنة الأولى سيكون للفيلم الذي عرف كيف يصور حرب العراق، من دون أن يقترب من العراق ولو خطوة واحدة. نتحدث هنا، طبعاً، عن «في وادي ايلاه» (أو «وادي الإله» إذا شئتم) الذي حققه بول هاجيس، من بطولة تومي لي جونز وسوزان سارندون وتشارليز ثورون.

والحقيقة ان اجتماع كل هذه الأسماء في فيلم واحد من هذا النوع ليس مصادفة، إذ ان كل واحد منهم يعتبر، في الأوساط اليسارية الهوليوودية، مناضلاً على طريقته من أجل شتى القضايا، لا سيما ضد المزيد من التورط الأميركي في العراق، أو حتى في أفغانستان. ومن هنا يمكن النظر الى هذا الفيلم، على رغم موازنته ونجوميته وتوزيعه التجاري الواسع، وصولاً الى تسميته لبعض الأوسكارات المقبلة، على أنه فيلم نضالي من طراز مميز. ولئن كان الفيلم لا يقترب في نضاليته من المؤسسة السياسية الأميركية، ولا يشير الى جورج بوش أو أركان سلطته، ولا يرسل كاميراه لتصور مشاهد في العراق، فإنه – في الوقت نفسه – يخوض في هذا كله وفي العمق أيضاً. حتى وإن كان يخوض في شكل يبدو موارباً لمن لا يريد أن «يقرأ» الفيلم بين السطور.

فللوهلة الأولى يبدو «في وادي ايلاه» فيلماً عائلياً حميماً، تدور أحداثه من حول أسرة أميركية صغيرة، ربها ضابط سابق خاض حرب فيتنام في الشرطة العسكرية، وسبق له قبل عشر سنوات أن فقد ابنه الأكبر في حرب أميركية أخرى. أما الآن، فإن القضية تتعلق بابنه الثاني، الذي من المفترض أنه قد عاد لتوّه من فترة تجنيد أمضاها مع فرقته في أتون الحرب العراقية. لكنه بعد وصوله الى الأراضي الأميركية ضاع. لم يعد موجوداً. وها هو الأب يُخبر بذلك ليبدأ، إذ استبد به القلق، رحلة البحث عن ابنه، رحلة تواكبه فيها – هاتفياً على الأقل – زوجته وقد فاق قلقها قلقه بمراحل. والحقيقة أن الفيلم سيبرر لاحقاً ذلك القلق، حيث ان جثة الفتى ستنكشف مقطعة أشلاء وسط أرض قاحلة لا تبعد كثيراً من المدينة التي تدور فيها الأحداث.

ولسوف يكون واضحاً منذ البداية – أو هـــذا علــــى الأقل ما يميل إليه التحقيق وظنون الأب – أن الفتى مات لأسباب لا علاقة لها مباشرة بمجريات الحرب وما فعله في العراق. لكننا بالتدريج، وفي وقت ينكشف فيه تواطؤ القيادة العسكرية لإخفاء تفاصيل الجريمة تستراً على القتلة، الذين – وكما كان يمكننا أن نتوقع منذ البداية – هم رفاق الفتى في كتيبته، يتبين لنا أن الجريمة، إن لم تكن على علاقة بما فعل الفتى في العراق، فإنها على علاقة مباشرة بما عاشه هناك. وهذا الذي عاشه حوله، كما سنفهم بالتدريج، وحشاً.

ولئن كان هو، هنا، الضحية إذ قتله وقطع جسمه وحش آخر، فإن ما ستنتهي إليه الأمور، في الوقت نفسه، هو أن كل أولئك الفتيان صاروا وحوشاً: حولهم خوفهم في العراق من أي مسلح وأي إرهابي، وأي ظهور لأي كائن في طريقهم، الى وحوش. وليس ثمة ما هو أكثر دلالة على هذا الواقع من المشهد الذي يعترف فيه الفتى الجندي – ذو الوجه الملائكي أصلاً – بالكيفية التي قتل بها زميله وقطّع جثته. ففي المشهد يروي القاتل ما حدث وكأنه يحكي كيف شرب ماء في بئر، من دون مشاعر، مع شيء من الندم طبعاً، ولكن ضمن ذهنية انك إن لم تقتل في مثل هذا الموقف فإنك ستُقتل. ماذا؟ انه دفاع عن النفس لا أكثر. ثم ما قيمة هذا الفتى أو غيره إزاء ما عاشوا وشاهدوا وقتلوا في العراق؟ وعلى هذا النحو لا تعود المسألة، كما كانت حتى اللحظة، تحقيقاً بوليسياً، رغم أنف السلطات العسكرية، لمعرفة من ارتكب الجريمة، ولا لماذا ارتكبت. تصبح القضية قضية كيفية ارتكاب الجريمة. وهي، كما سنفهم كيفية شديدة الشبه بكيفية ارتكاب القتل العشوائي في العراق نفسه. وإننا لنطلّ على هذا الواقع من خلال الحدث الأميركي – الجريمة التي نحن في صددها – ولكن أيضاً من خلال جهاز الهاتف الخليوي العائد الى الابن القتيل.

من خلال هذا الهاتف – الذي هو كاميرا في الوقت نفسه – أي من خلال نافذته الضيقة ذات الصورة المشوشة، والتي تحتاج الى أكثر من وسيط لتتضح ونفهم ما فيها (أليس لهذا الواقع «التقني» دلالته المهمة هنا أيضاً؟)، نطل إذاً على حرب العراق عبر صور تستغرق دقائق قليلة. لكنها الدقائق التي حملها بول هاجيس جوهر فيلمه وربما رسالته أيضاً. فالعراق بعيد. وصورته وصورة حربه مشوشة، لكن ما نشاهده عنه في تلك الصور، ومن شأنه أن يكشف الوحش الذي تحول اليه الفتى القتيل، قبل أن يُقتل على أيدي رفاقه الوحوش الآخرين، ما نشاهده هنا يكفي لنفهم الفيلم... بل أيضاً ليفهم الشعب الأميركي حقيقة ما يحدث. وباللغة التي يفهمها هذا الشعب. فإذا كان هذا الأخير روّع قبل ثلث قرن لمرأى توابيت الجنود من أبنائه تعود من فيتنام بالمئات، عليه الآن أن يُروّع أكثر ليس لمرأى التوابيت الجديدة – وهي قليلة العدد نسبياً! – بل لمرأى الجنود العائدين وقد حوّلتهم حرب عبثية قاتلة كاذبة غامضة، الى وحوش لا رادع يردعهم ولا أخلاق تحرك عندهم أية عاطفة.

النجدة!

إذاً، حين يصل الأب (تومي لي جونز) الى حقيقة ما حدث، بمساعدة المحققة البوليسية (ثورون)، يعتبر أن ما توصل إليه بات كافياً... وأن ليس من حقه، بعد، أن «يتدخل» في صراع بين «وحوش». المصادفة وحدها جعلت ابنه ضحيته ورفاقه جلاديه.

ولئن كان الفيلم يختتم على الأب وهو يضع صورة ابنه الصغير القتيل، الى جانب صورة ابنه القتيل الآخر في الحرب السابقة والى جانب صورته هو الخائض حرباً أسبق، فإن هذا قد يوحي بنوع من المصالحة مع الذات انطلاقاً من حس واقعي ما. غير ان هذه «النهاية» ما كان يمكن أبداً أن تليق بفيلم يحققه بول هاجيس، الخائض، كاتباً ثم مخرجاً في المعارك الاحتجاجية في أميركا الزمن الراهن.

ومن هنا، حين يبقى في الفيلم مشهد وحيد أخير، يصور المخرج الأب المفجوع وهو يعلق مع جار أميركي، من أصل أميركي جنوبي علماً أميركياً ليرفرف عالياً... لكننا، بعد التباس أول، سنتنبه الى أن العلم رفع بالمقلوب ونتذكر كيف أن تومي لي جونز كان حين رأى جاره أول الفيلم، يرفع العلم نفسه مقلوباً، أنبه إذ نبهه الى أن العلم القومي لا يرفع مقلوباً إلا لطلب النجدة.

 

بول هاجيس:

من طفلة المليون الى الحرب المستحيلة

الحياة: لم يحقق بول هاجيس سوى ثلاثة أفلام روائية طويلة حتى الآن – وهي أفلام مر أولها («حر أحمر» -1993) مرور الكرام -، ومع هذا يعتبر اليوم من أصحاب الأسماء الأكبر شهرة في عالم السينما الهوليوودية. فإذا كان هاجيس، الكندي الأصل حقق فيلمه الأول في وطنه الأصلي، ما قلّل من حظوظ شهرته، فإن عاملاً آخر جاء ليساهم في ارتفاع أسهمه منذ سنوات. وهذا العامل هو، بالطبع، شهرته الكبرى ككاتب سيناريو من طراز رفيع.

وحسبنا للتيقن من هذا أن نذكر، من بين سيناريوات هاجيس ثلاثة حققها كلينت ايستوود واعتبرت من أهم الأفلام التي حققها هذا الأخير في مساره: «طفلة المليون دولار» (أوسكار أفضل فيلم قبل سنوات) و «بيارق آبائنا» و «رسائل من ايوجيما»، كما كتب سيناريوات شهيرة أخرى مثل «القبلة الأخيرة» وخصوصاً «كازينو رويال» في إعادة إنتاج لأول روايات وأفلام جيمس بوند (الذي سيعود إليه هاجيس هذا العام مخرجاً لفيلم عنه كتب السيناريو له بنفسه).

لكن شهرة هاجيس ومكانته لا تتوقفان هنا عند السيناريوات، حيث نعرف أنه نال قبل ثلاث سنوات أوسكار أفضل فيلم وأفضل سيناريو، عن فيلم «اصطدام» (كراش) الذي حقق نجاحاً عالمياً، ناهيك بأنه قدم عن هاجيس، وهو كاتب الفيلم ومخرجه، صورة طيبة كمبدع معاد للعنصرية، لا سيما منها تلك التي استشرت في الولايات المتحدة الأميركية بعد أحداث أيلول (سبتمبر) 2001. ولم يكن هذا من قبيل المصادفة، إذ ان هاجيس، على رغم أنه كندي، عرف في هوليوود بنضاله من أجل القضايا العادلة، لا سيما من خلال تأسيسه جمعية «فنانون من أجل السلم والعدالة» التي ناضلت وتناضل ضد الحروب غير المبررة ومنها حرب العراق.

ونذكر أخيراً أن بول هاجيس رشح مرات عدة حتى الآن لنيل أوسكار أفضل سيناريو، ما جعله يعتبر من كتّاب السيناريو المطلوبين أكثر من غيرهم في عالم هوليوودي من الواضح أن ميله أكثر وأكثر نحو المواقف التقدمية يعطي فنانين من طينة هاجيس فرصاً متزايدة للمزج بين أفكارهم ونتاجاتهم الفنية.

الحياة اللندنية في 25 يناير 2008