كتبوا في السينما

 

 
 

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

أرشيف

إبحث في سينماتك

إحصائيات استخدام الموقع

 

هواجس حول الفيلم الفلسطيني في (مناطق الـ 48):

هل يمكن الحديث عن الحب والجنس في مكان خاضع للاحتلال؟

رجاء بكريّة

في صلب هذه الهواجس المسجّلة عن ومن الفيلم الفلسطيني تقف الطّروحات الكثيرة الّتي عمّمت هذا التّعريف فأحدثت خللا وبلبلة لدي المهتمّين بمسيرته حين جعلته فضفاضا، وأضافت كلّ فيلم يشرف علي إخراجه مخرج فلسطينيٌ إلي هذا التّعريف، بينما ظلّ الفيلم الفلسطيني يطمح إلي إخراج موضوعته من قبل مخرج فلسطيني، السياسيّة والاجتماعيّة المشوّهة والغائبة غالبا لدي كلّ المهتمّين بمسألة وجوده وحضوره إعلاميّا وفنيّا. وظلّت المعالجة الفنيّة ثانويّة في اعتبار الشّارع الفلسطيني الّذي ظلّ يبحث عن أدوات مفترضة لطرح إشكاليّة هويّته السّياسيّة بالدّرجة الأولي. لكنّ الطّرح السياسي لمسألة الهويّة يعاني هو الآخر من إشكاليّة علي جانب كبير من الأهميّة يتعلّق بهواجس هذا الطّرح السياسي، وهو يشبه ولحدٍّ بعيد هواجسنا نحن حين بدأنا الإعداد لهذه الورقة.

أيجب أن تظلّ إشكاليّة الحصار والمعاناة وأحداث القتل والاغتيال والتّشابك مع المحتل الإسرائيلي بالحجارة والرّصاص والقذيفة مرجعا مفترضا للموضوعة الفلسطينيّة، أم أنّ للمضامين الحسيّة شأنٌ في هذا الخليط العجيب؟ هل يمكن الحديث عن الحبّ والعشق والجنس في منطقة ملغومة بسلب الحريّات ومصادرة الحقوق من محتلٍّ يصرّ علي إلغاء الفرد لمجرّد أنّه يحمل هويّة فلسطينيّة؟ وحين سينتهي مسلسل القتل بماذا ستنشغل الموضوعة الفلسطينيّة، هل سنعرف الخوض في منطقة الجسد دون الإحساس بحاجة لقذيفة هنا ودسيسة هناك؟

حاصرتني مثل هذه التّساؤلات، وأنا أفسح مساحة للفكرة، وعليه ليس من السّابق لأوانه أن نختلق الأعذار لنفي حاجة السيناريو الفلسطيني لتصوّرات الحلم الرّوحيّة والجسديّة، وأقصد العشق والجنس مثلا مقابل القتل والمقاومة والرّفض. ولسنا نعتبر أن العشق أو الجنس هنا رديفان محتملان للقتل والمقاومة كهروب مؤقّت إلي إسقاطات الفرضيّة، ولن نستعير الفضاءات الشّعريّة كي تشفع لما نحبّه عمّن لا نحبّه، ولما نخافه عمّن يخافنا.

وعودة علي أطروحة هذه الورقة فإنّنا نضع الطّريق الشّاق الّذي عبره هذا اللّون من الفنون المرئيّة أمامنا كي نلاحظ في مرآة الآخر أنفسنا كفاعلين ومنتجين للغة حضور مختلف، ليس كما أراد الشّريك السّياسي في اختلال الهويّة، ولكن كما لم يتوقّع.

والشّوط الّذي أنجزه السيناريو الفلسطيني منذ الثّمانينيّات يجب اعتباره ذريعة لتأكيد حضوره علي المستويين الحسّي والفكري. الحسّ الفكري والفكر الحسّي، وكلاهما يرسمان نضال الأمكنة والأزمنة بأدوات فاجأت الاحتلال بسبب النّفق الّذي دُفع إليه الفيلم الفلسطيني عموما ولزمن طويل داخل الخطّ الأخضر ضمن من يسمّون فلسطينيّي مناطق الـ 48 وضمن حدود مناطق الـ 67. وصحيح أنّ التّسجيل الواقعي للهويّة أحدث سبقا في مناطق الـ 67، لكن غالبا لدي القلّة الّتي تمكّنت من تجنيد الأموال والميزانيّات خارج الضفّة وغزّة، أي في الشَّتات. وغالبا جنحت هذه الأفلام ، كما أشرنا سابقا إلي توثيق المعاناة وإشكاليّة الهويّة. وقد شكّلت حالة البحث عن الهويّة لدي الرّعيل الأوّل في الإخراج السينمائي الفلسطيني، في الثّمانينيّات، في مناطق الـ 48 والـ 67 حاجة للتوثيق والتّسجيل خشية ضياع الشّواهد، وفيما بعد هاجسا. فكان أن لجأت الأفلام الأولي في الثّمانينيّات إلي تسجيل تاريخ الهويّة الفلسطينيّة، والانتماء ومفردات أخري علي نهجها، حدث هذا غالبا لدي مخرجي الشّتات، فلهم نمنح السّبق في إثارة إشكاليّة الهويّة سينمائيّا. هم الرّعيل الأوّل الّذي أثّر في شريحة واسعة من الشّباب الفلسطيني في مناطق الـ 48، ويمكن هنا أن نشير إلي الدّور الفاعل للحزب الشّيوعي في دعم الفعل الثّقافي الفلسطيني الفقير عبر البعثات الّتي نظّمها بتمويل من الدّول الاشتراكيّة، الاتّحاد السوفييتي، في حينه.

في هذا السياق سنؤكّد علي حضور المخرج علي نصّار كأوّل مخرج سينمائي فلسطيني في مناطق الـ 48 حاز علي رعاية الحزب الشيوعي في خوض عالم الإخراج، وأنّه يعتبر أوّل من أحدث حِراكا لتاريخ الفيلم داخل مناطق الـ 48، سواء علي المستوي التّسجيلي أو الدرامي. ويبدو أنّ تجربته الفنيّة رغم الصّعوبات الّتي واجهها قد دفعت بغيره إلي هذه المغامرة ممّن وجدوا أنفسهم في حالة بحث عن كينونة مختلفة في دولة لا ينتمون إليها حسيّا، داخل إسرائيل تحديدا.

مغامرات التّسجيل في الفيلم الفلسطيني

مغامرة، لأنّ فكرة الإخراج الفنّي في ظلّ انعدام الميزانيّات تظلّ حلما معلّقا. فالفنّان الفلسطيني داخل مناطق الـ 48 يعاني علي عدّة مستويات. البلبلة علي صعيد الهويّة، التّمييز علي خلفيّة كونه عربيّا وليس يهوديّا، وفلسطينيّا وليس صهيونيّا، يضاف إلي ذلك خلل التّواصل بينه وبين المؤسّسة الإسرائيليّة، وغياب الجهات الدّاعمة. هذه الأسباب مجتمعة تحدِث قلقا في حضوره الفردي داخل زمانه ومكانه المصادرين أوّلا، ومع الآخر ثانيا. وهما مادّة كافية لتشكيل عالم آخر خلف الواقع بالكاميرا. لكنّ الحاصل أنّ الحصار السّياسي الّذي عاناه ويعانيه، والإعلامي قبل الانفتاح التكنولوجي وضعه داخل علامة سؤال كبيرة، لذلك بقي تحليقه موضعيّا بسبب غياب مصادر التّمويل. في ظروف كهذه شكّلت البعثات خارج إسرائيل، مناطق الـ 48 منجي.

ونحن إذ نستعرض حيثيّات هذا الضياع نعتبر إشكاليّة الهويّة مصدر إلهام لجميع الأفلام التّسجيليّة والدّراميّة المحتملة. وفي هذا الظّرف سيكون مجرد التّفكير بإخراج فيلم درامي يتعامل مع فعل الحبّ والجسد شيئا من قبيل التّخريف أو الخيانة. التّخريف لأنّ حيثيّات الواقع المعاش تستدعي تيّارا فكريّا ملتزما في التّعامل مع الواقع الصّعب، والخيانة لأنّ من سيمتلك ميزانيّات لمعالجة حكايا الحبّ وحاجات الجسد في ظلّ الاضطهاد والقتل الّذي يعيشه الواقع الفلسطيني يجب أن يكون متعاونا.وفكرة الخيانة أرعبت الفرد الفلسطيني بمجرّد أن لمح اليهودي الذي سلبه أرضه شريكا تحت عين الكاميرا. ورغم ذلك شهد فيلم الدّاخل تجربة أولي في الإخراج الدرامي والتّسجيلي وقف خلفها المخرج علي نصّار، عبر عمله التّسجيلي، حكاية مدينة علي الشّاطيء، الجليل.

وضمن السّياق التّجريبي تسجَّل لصالحه الإنجازات الدّراميّة الأولي الصّادمة للمجتمع الفلسطيني في الدّاخل بسبب جرأة موضوعتها، وعدم استجابتها التّامة لإيقاع الشّارع تماما، إذ أنّها غامرت بموضوعة الجسد والحاجات الرّوحيّة الأخري من خلال الموضوعة الاجتماعيّة الفلسطينيّة عن طريق فيلمه الأوّل المرضعة 1994.

إشكاليّات الفيلم الفلسطيني

يترادف الإخراج السينمائي مع مصطلح الإشكاليّة لأنّ دوافعه اللاحقة في التّسعينيّات والقرن العشرين لم تبق علي مادّتها الأولي، وأريد أنّ موضوعة الهويّة شهدت تكرارا كاد يتلف مشهدها الجمالي الفكري رغم قلّة الأعمال الّتي عالجتها بشكل مباشر، ربّما لأن صناديق إسرائيليّة وقفت خلف تمويل هذه الأفلام بالأساس، وكان لها الحق في رفض سيناريو لا يلائم سياستها. ولولا الوعي الّذي توفّر عليه المخرجون الأوائل الّذين غامروا في الدّراسة داخل المعاهد الإسرائيليّة بضرورة إعادة صياغة الرّؤية الفنيّة الإخراجيّة للهويّة الفلسطينيّة كالالتفاف عليها مثلا لما حظيت بالحضور الإعلامي الّذي نراها عليه اليوم. فإلي جانب التّجارب الواقعيّة الأولي خرجت رؤية جديدة تحاول أن تعالج الهويّة بالاستناد إلي مرجعيّاتها الإنسانيّة أوّلا بهدف تعميمها علي مستوي الإعلام الغربي، ثمّ اعتماد نماذج خارجة عن إطار الأنا الّذي شكـّل مادّة أساسيّة في صناعة المقاطع التّسجيليّة القصيرة.

الفيلم التّسجيلي

إجمالا شهدت التّسعينيّات وأوائل القرن العشرين تحديدا انتفاضة عارمة للفيلم التّسجيلي الفلسطيني داخل مناطق الـ 48، ومعه مجموعة من المخرجين الشّباب الّذين حاولوا أن يقودوا مرحلة جديدة تلتفّ علي إشكاليّة الهويّة بمثل ما تحاورها. فالفيلم أحمر أزرق الّذي أخرجه خالد إدريس في محاولة للبحث عن هويته المنقسمة بين عالمين إسرائيلي وفلسطيني مشكوك بأمرها، يجسّد الدّوامة التي يذهب إليها معظم الشّباب الفلسطيني في مرحلة البحث عن أناهم الحقيقيّة. والضياع الّذي صوّره في فيلمه الأوّل قبل سبع سنوات لا يمكن اعتباره مرآة لحالة البحث الّتي سجّلها في فيلمه الأخير ذاكرة مكان 07 إذ يستحيل الذّاتي مع اختبار التّجربة ونضوجها إلي رؤية أكثر شموليّة واتّساعا، وينتقل من لغة الواقعيّة المبسّطة إلي الواقعيّة المركّبة ذات التقنيّة الفنيّة المزدوجة. وهو هنا يمتلك تصوّرا فكريّا وحسيّا لافتا ذا أبعاد وأدوات.

هذا يعني أنّ الفيلم التّسجيلي يعبر مرحلة هامّة علي صعيد تذويت الرّؤية وتحديد التوجّه، امتلاك التقنيّة وتطوير آليّاتها. وضمن هذه الخطّة البحث عن النّوعيّة والمضمون، وبالقدر الّذي يُسمح لعين الكاميرا وعين الذّاكرة اعتماد المصداقيّة الجارحة. ونقول بالقدر، ذلك لأنّ سيناريوهات الأفلام لم تعد إنتاجا ذاتيّا بحتا، إذ خرجت شركات إنتاج صغيرة، معظمها إسرائيليّة بعروض مغرية علي مخرجي الدّاخل ومع إملاءات مفترضة يجوز معها الاحتيال علي صياغة النّص، كما حاول المخرج خالد إدريس في فيلمه التّسجيلي سفيرة علي الخطّ الاستوائي بهدف عرض الموقف الفلسطيني السياسي والاجتماعي مثلا من الموضوعة المُخرجة. ففي وضعيّة كهذه يجب العمل بحذر وانتقائيّة، وضمن أطر لا تتوفّر علي مساحات معقولة من الحريّة في تحديد مضامين السيناريو السينمائي.

في السّنوات الأخيرة خرج الفيلم الفلسطيني بأعمال كثيرة بعد إعلان المؤسّسة الإسرائيليّة عن دعمها للفيلم التّسجيلي من منطلق توفير فرص متساوية. ورغم المآخذ الكثيرة علي هذه المبادرة لكونها تمنح ميزانيّات ضحلة لعدد كبير من الإنتاجات، إلا أنّها دفعت إلي الأضواء قطاعا كبيرا من الأعمال السينمائيّة، ليس بالضّرورة اعتبارها سيّئة. ونحن نستذكر في هذا المجال مرحلتين من الأعمال التّسجيليّة، الأوّلي وسيناريوهاتها قليلة نذكر منه، حكاية مدينة علي الشّاطئ لعلي نصّار، ياسمين لنزار حسن، النّاصرة 2000 لهاني أبي أسعد. أمّا الموجة الجديدة فتشمل عددا لا بأس به من الأعمال مثل، عرس الجليل لباسل غطّاس، عبر الحدود لبلال حسن، أون هولد لرقيّة صبّاح، بدل لابتسام مراعنة، نازك ، لرامز قزموز. سفيرة علي الخطّ الاستوائي لخالد إدريس، واحدة في الإجِر، وواحدة في القلب ، لسهي عرّاف، مشاهد منسيّة لتغريد مشيعل، بغضّ النظر عن التّفاوت في جودة الإخراج والرّؤية الفنيّة المضمونيّة.

ولعلّه من المهم أن نذكر أنّ العرض إلي مقارنات مفصليّة لكلّ من هذه الأعمال يستدعي الكثير من الحذر لأنّ الثّقافة الذّاتيّة، الفكريّة والحسيّة تشكّل حكما في الرّؤية الإخراجيّة لكل من المخرجين الّذين تعرض إليهم هذه المداخلة، وهي تتفاوت شكلا ومضمونا. ولذلك يمكن أن نجمل بأنّ ما يذهب إليه الفيلم التّسجيلي يبدو محاولات تجريب جديّة علي صعيد المعالجة الإنسانيّة بالدّرجة الأولي وسط خفوت حدّة الخطاب الفردي، وتحاشي إثارة إشكاليّة الهويّة والنّضال وفق خطاب مباشر.

فالهويّة هنا تلبس شكل الأماكن والشّخصيات المقهورة، أو ذات الإشكاليّة كما يحدث في عروس الجليل لباسل غطّاس، وانقسام الذّات ضمن قصّة زوج ضائع الانتماء داخل الزّمان والمكان لرقيّة صبّاح، وحكاية ثلاث نساء مقهورات سياسيا واجتماعيّا في عبر الحدود . وشخصيّة امرأة مزدوجة الانتماء تحت المجهر في نازك لرامز قزموز، وحكايا نساء مضطهدات عبر تفنين سيرتهنّ الذّاتيّة لابتسام مراعنة، ومشاهد مكثّفة عن حياة الآخر الإفريقي اليوميّة من خلال قصّة إمرأة أعمال إسرائيليّة تنشئ مشاريع تطويرية مع الحكومة الإفريقيّة.

لكنّ المساءلة تحدث حول المساحة الممكنة لهؤلاء المخرجين للتغريد خارج السّرب، وأعني صناعة رؤية ذاتيّة خارجة عن البنود الّتي تنصّ عليها الجهة الإسرائيليّة المموّلة لأمثال هذه المشاريع. وضمنها سلطة البثّ الإسرائيليّة الّتي منحت ميزانيّات قليلة لعدد كبير من الأعمال السينمائيّة القصيرة، وتمّت إحالتها إلي شريط أحداث طويل دون تغيير جوهري بمضامين مادّة السيناريو، كتقنيّة الإنتركت مثلا،(مقاطع حياتيّة حيّة).

ونحن نعرض إلي هذه الموضوعة بتذكير واضح إلي الإشكاليّة الّتي أثارها فيلم نازك التّسجيلي لرامز قزموز قبل عدّة أسابيع، الّذي تقف خلفه شركة إنتاج صغيرة متواضعة، الأرز للإنتاج، وبتمويل من صناديق إسرائيليّة. وإشكاليّة نازك مصدرها هويّة المرأة الّتي يسجّل الفيلم سيرتها الذّاتيّة، فهي امرأة من عيلبون، الجليل تلتحق بجهاز التّحقيق في الشّرطة الإسرائيليّة في مرحلة تشكّل مسألة الخوض في شكل هذا التّعاون شيئا من قبيل الخيانة. خلال العمل يتمّ تسليط الضّوء علي مقاطع كثيرة من علاقاتها اليوميّة مع المجتمع، البيت، والأصدقاء من جهة، وجهاز الشّرطة من جهة. ورغم أنّ التوجّه لدي قزموز اعتمد التّسجيل المشهدي لحياة نازك دون تقرير موقف شخصي من عين الكاميرا الملفتة إلا أنّ مشروع هذه الشّراكة بين الفنّ وسلك الشّرطة اعتبر في عرف المجتمع الفلسطيني والحركات السياسيّة اليساريّة محرّضا علي خيانة الهويّة والقضيّة والانفلات الأخلاقي، ولدي قطاع لا بأس به من الأوساط الثّقافيّة. لقد ظهر الفيلم في مرحلة حسّاسة تدعو فيها الحكومة الإسرائيليّة السكّان الفلسطينيّين إلي أن يكونوا شركاء في الحفاظ علي قوانين الدّولة عبر الالتحاق بجهاز الخدمة المدنيّة، لذلك وجدت الجهات الكثيرة المناهضة للفكرة نازك مصدرا للتّحريض علي التأسرل. وعليه، يبدو أنّ إشكاليّة الهويّة ستظلّ مصدرا للخلافات والاضطرابات في الجهاز الثّقافي العام لفلسطينيّي الدّاخل لأنّهم لم يحصلوا علي حدّ معقول من المساواة مع الوسط اليهودي من جهة، وظلّوا بالتالي مستثنين من الحقوق المدنيّة الّتي تبدو شرطا من شروط الإحساس بالأمن والانتماء. ورغم التغاء فكرة المواطنة لفلسطينيي الدّاخل إلا أنّ المؤسّسة الإسرائيليّة للآن لم تفقد الأمل بالعثور علي مبرّرات لتجنيد الفعل الثّقافي الفلسطيني، ولو بثمن إيجاد صناديق لأعمال سينمائيّة مستقبليّة لا يملك المخرجون منها القليل.

جنين جنين ، و أولاد آرنا

مقابل نازك يقف الفيلم التّسجيلي للممثّل المعروف محمّد بكري كنقيض مضموني ومشهدي لفيلم نازك . ورغم عدم رغبتنا التّامة في رؤية هذا التحوّل لممثّلين إلي عالم الإخراج إلا أننا سنتعامل مع دوافع هذا العمل برويّة. فهو يعتبر التّجربة الثّانية لبكري بعد فيلمه من يوم ما رحت . وهو يقارع المؤسّسة الإسرائيليّة الحكومة والجيش ويحاول أن يقدّم شهادة عن واقع مذبحة جنين الّتي نفّذها الجيش الإسرائيلي في جنين قبل عدّة سنوات. أثار العمل الرّأي العام الإسرائيلي بسبب ادّعاءات فبركته، ورفض عرضه في صالات العرض. لقد قدّم مادّة غنيّة وبضمنها شهادات من أرض المعركة سجّلت صوتا وصورة من وعن المذبحة. ومادّة الإدهاش في كلا العملين مرجعيّتها حضور الفكر الحسّي والحيثيّات المزدوجة بقوّة. فتأكيد حضور الهويّة لدي نازك يحدث عبر تأسرلها، وانضمامها لسلك التحقيق الشرطوي، هذا مقابل تأكيد مرجعيّة الفكر الحسّي النّضالي من منظار سياسي لدي بكري صوتا وصورة. فتأكيد الهويّة في نازك يحدث عبر محوها الأيديولوجي بينما يحدث تأكيدها لدي بكري عبر محوها الجسدي والاجتماعي. وبقاء نازك وثباتها الاجتماعي والسياسي يقابل تصفية سكّان المخيم المشتبكين مع الجيش، وإلغاء حضورهم التنظيمي والاجتماعي.

في نفس السياق التسجيلي نعرض إلي الفيلم التّسجيلي أولاد آرنا وهو من إخراج الممثّل مير خميس، ويتناول فكرة الهويّة من منظار فكري حسّي سياسي. إذ يشكّل حسّ التضامن الفكري دافعا لمشروع هذا العمل. إذ تنظّم أمّه آرنا مجموعة من الصبية داخل حلقة مسرحيّة تشكّل نواة لمسرح فلسطيني للأطفال في قلب جنين ولسنوات عدّة. يكبر الصبيان علي أحداث الانتفاضة والظّلم الاجتماعي ثمّ السياسي من خلال تقتيل الجيش لعائلاتهم واضطهادهم وملاحقتهم.

يستحيل فعل المسرح كفكرة تجريبيّة في ظروف كهذه إلي مسرح شوارعي، مسرح الصبيان الكبار. ينتقل إلي الشّارع في محاولة مساندة لفعل النّضال اليومي ومواجهة المحتل. وأعتقد أنّ النهايات الحزينة الّتي يذهب إليها أولئك المسرحيّون الصّغار تسجّل الرؤية الفنيّة والفكريّة لمخرج العمل. تجربة مثيرة للاهتمام لأنّها مغامِرة واقتحاميّة وتنطوي علي نسيج قصصي فنّي محبوك بعناية رغم تسجيله في ظروف صعبة توخّت قبل كلّ شيء توقيع حركة الواقع المعاش. هذا النّوع من الفنّ التّسجيلي لا يريد الموضوعيّة بقدر ما يستدعي تجنيد تضامن عالمي حسّي مع الهويّة، ودفع منظوماته إلي إيقاف سيناريو القتل والاضطهاد لعموم الشّعب الفلسطيني في الضفّة وغزّة.

وواضح أنّ ذهاب المخرجين إلي أرض مشتعلة استدعي مقاومتهما إسرائيليّا ونفيهما من اعتبار المؤسّسة الرّسميّة، لكنّ فعل النّفي هذا بالذّات يؤكّد أثرهما في المحيط الثّقافي الإسرائيلي، وإخلالهما بخطط جهازه الثّقافي تجاه الأقليّة الفلسطينيّة. هما يثيران أيضا الشّارع الإسرائيلي بين متضامن ومعارض، ويفتّح وعيه علي حقيقة ما يجري من مواجهات في الضفّة وغزّة. هذا ما يطمح إليه هذا النّوع من السيناريوهات المسجّلة، إحداث قلق في نظام المؤسسّة الدّاخلي وتحريض الشّارعين اليهودي والفلسطيني ضدّ الظلم والانتهاك للحقوق، ثمّ إثارة الشّرعيّة الدوليّة ضدّ خرق نظمها ودستورها من قبل إسرائيل.

في هذا المضمار يشكّل الفيلم التّسجيلي الفردي المدعوم خارجيّا أداة ردع ومقاومة بالدّرجة الأولي مقابل الآخر المدعوم إسرائيليّا عبر صناديق التّمويل المختلفة لتحديد مضامينه وتوجّهاته، بل وأسرلته أحيانا.

ولا بدّ لي من تذييل هذا الاستعراض التّسجيلي بتأكيد حضور المخرج كمال أبو شارب الّذي يكاد لا يذكر في معرض الحديث عن الفيلم التّسجيلي الفلسطيني الّذي سجّل مجمـــــوعة أفلام تسجيليّة عن معاناة أهل النّقب البدو تحت بطش المؤسّسة الإسرائيليّة الرّافضة لوجودهم، والسّالبة لحريّاتهم الوجودية والدّأب علي ترحيلهم وتهميشهم. فهم مجموعة مشتّتة وبلا حضور إعلامي لولا الجهود الفرديّة الّتي بذلها المنبر الإعلامي، الشّمس، لرفع أصوات معاناتهم وسلّط الضّوء علي فكرة تهميشهم ومصادرة بيوتهم رغم التحاق النخبة الكبيرة من شبابهم في الجيش!

المغامرة الدراميّة في الفيلم الفلسطيني داخل الـ 48

قلّة الأعمال الدراميّة إذا ما قورنت بالأعمال التّسجيليّة تجعلها مغامرة مضاعفة. وفكرة المراهنة علي نجاحها أو فشلها تشكّل ذريعة للتردّد والإحجام عنها، خصوصا وأنّنا نتحدّث عن سيناريوهات ذات مضامين مختلفة ليس بالضّرورة أن تشكّل الهويّة فيها مرتكزا، ويجوز للأفكار ممنوعة التجوّل في الأعمال التّسجيليّة الملتزمة أن تصبح محورا للعمل، أو أحد المحاور الأساسية. ونعني موضوعة الجسد وتبعاته، الجنس والعشق، والشّوق الإنساني.

هذه الأعمال تستدعي ميزانيّات كبيرة، لذلك لا يخاطر مخرجون كثر فيها ولا يعتدون علي مجالها قبل أن يضمنوا صندوقا داعما لها. وغالبا تدخل إشكاليّة الهويّة فيها من الأبواب الخلفيّة لاستصدار تأشيرة انتماء للقضيّة لأنّ خلوّ الأعمال الدراميّة الفلسطينيّة من قلقها الوجودي فكرا وانتماء يؤدّي بمخرجها إلي الإحساس بالنّقص أو الإخلال بولائه لانتمائه وشعبه. لكنّ التجاوز حدث لدي بعض المخرجين لفكرة الالتزام بإشكاليّة الهويّة عبر تحديثهم للحالة والموقف، وإِحداث أبعاد حكائيّة غرائبيّة للشّخصيّة البطلة كما حدث لدي علي نصّار في درب التبّانات .

وأعتقد أنّه من المناسب هنا التوقّف عند الأسماء الّتي سجّلت لمشروع الفيلم الدرامي الفلسطيني كتوطئة للأعمال الّتي سنذكرها. فإلي جانب علي نصّار الّذي يمتلك رصيدا نوعيّا في تجربته الإخراجيّة ضمن أعمال أربعة منذ الثّمانينيّات، هي : المرضعة، درب التّبانات، الشّهر التّاسع، وصلاح الدّين يحضر إيليا سليمان ضمن فيلمه اليد الإلهيّة كي يعيد الذّاكرة إلي إشكاليات الهويّة والصّراع الدائر بين الأرض والاحتلال. ثمّ هاني أبي أسعد في فيلميه ، بيت من ورق، والجنّة الآن.

ولعلّ الموضوعيّة وحدها ستدفعنا في عرضنا إلي الفيلم الدرامي الفلسطيني لتسجيل لفتة علي صعيد التّجربة الغنيّة فنيّا ومضمونيّا للمخرج علي نصّار في أفلامه الأربعة، إذ استطاع أن يخرج عن القاعدة وأن يسجّل لنفسه خطوة نوعيّة في معالجة سيناريوهات تدمج بين الاتّجاه النراتيفي القصصي والديكومنتاري التّسجيلي من خلال نسيج حكائي غني يمتلك رؤية فكريّة شموليّة وحسيّة عميقة. وهو يحرص في إخراجه الفنّي علي المعالجة التّصويريّة متوخيا الانحدار إلي الوعي الحسّي لشخصيّاته خصوصا في فيلمه درب التبانات الّذي اعتمد مصادر إدهاش ملفتة في بناء إحدي شخصيّاته المركزيّة، وأدّاها سهيل حدّاد.

لقد انطوت المعالجة الفكريّة لديه علي أبعاد حسيّة مدهشة فيها من الغرائبيّة بقدر ما فيها من الواقعيّة.

ولعلّني سأعزو التفوّق النّوعي لإنتاجات علي نصّار في الدّاخل وتضارب الآراء بصددها إلي الصّدام الحسّي الّذي أحدثته شخصيّات أفلامه للمشاهد. وهي إنتاجات عالقة في ذاكرة المشاهد خصوصا درب التّبانات الّذي مهّد لإنجازاته أرضا خصبة حيث أنّ الحكاية الجميلة لبطل درب التبّانات سجّلت تاريخا فنيّا طريفا لاحتلال فلسطين، وبضمنه العلاقة غير السويّة بين الفلسطينيّين واليهود. بين ثنايا الحكاية يمرّ العشق مرورا سريعا أو بطيئا. ويسجّل علي امتدادها علاقة حبّ خفرة شاهدة علي كون الحكاية الفلسطينيّة لأفراد يحبّون ويعشقون ، ويمارسون الجنس والغضب، المقاومة والنّضال كغيرهم من شعوب الأرض. نقيض هذا السيناريو فيلم الشّهر التّاسع الّذي لم يتعب من البحث عن الشّهوة والجسد، وانشغل بهما حدّا أفقد فعل المقاومة المصداقيّة. لقد بدت فكرة الصّراع والمجابهة بين الجيش والبطل مبتذلة ومقحمة في السيناريو لإثبات التبعيّة وردم النّقص الّذي سيؤدّي إليه غيابها. ورغم ذلك يظلّ نصّار صاحب سبق في تسجيل الحكاية دراميّا والسّعي لإِحداث تغيير علي صعيد الرّؤية العامّة للهمّ الوجودي الفلسطيني في مناطق الـ 48.

أمّا هاني أبي أسعد فسوف نشير إلي إنجازه النّوعي في الجنّة الآن الّذي اقتحم الدراما من منظوره الفردي للعدالة السياسيّة. ورغم أنّه لم يتجاوز الموضوعة التّقليديّة لمسألة الهويّة والنّضال إلا أنّه سجّل تجاوزا حين ذهب إلي منطقة الصّراع غزّة علي نهج ما فعل خميس وبكري، وألقي بشخصيّاته إلي نيران المحتل كي يجسّد رؤيته الذّاتيّة للعدالة الاجتماعيّة، والغبن السياسي الّذي يلحقه الجهاز المخابراتي الإسرائيلي بالشّعب الفلسطيني جيشا وحكومة. وهو لم يتورّع خلال شريطه الحكائي عن دفع شخصيّاته إلي التيّار الأكثر تطرّفا في الرّد علي ممارسات الجيش في شوارع غزّة عبر إحالتها إلي قنابل موقوتة، مشروع انتحاريّين علي الحواجز وأمام الجيش. هذا التطرّف الفكري في منطق السيناريو أراد أن يرفع شهادة عجز وانسداد المنافذ أمام الجيل الجديد الّذي لا يعثر علي مستقبل أفضل من نسف وجوده ووجود الآخر. وبلا شك فإنّ تطرّف الفكرة يشكّل تجاوزا حتّي لفكرة التّسجيل النّضالي ويمنحها تفرّدا وتجاوزا لمنطق المألوف، ونوعيّة في المعالجة المضمونيّة والحسيّة.

إذن يمكننا أن نخلص إلي كون التّجربة السينمائيّة الفلسطينيّة لفلسطينيّي مناطق الـ 48 في طور البلورة والصّقل، والتفوّق علي المنطق التقليدي الفكري والجمالي. فالتّجارب السينمائيّة التّسجيليّة والدراميّة علي قلّتها تتوخّي الآن تجاوز التوجّه التّسجيلي إلي تفنينه أوّلا، وإحداث خلل في مفاهيمه الرّائجة لصالح تفعيل الحوار الفردي الحسّي ضمن الخطّة العامّة للسياق التّاريخي علي مستوي الشّخصيّات والأمكنة.

إلي ذلك نضيف أنّ التحدّي القادم للتوجّه التّسجيلي يعتمد علي تطوير أدوات التّوثيق وإحالتها إلي أدوات تثوير ضمن المنطق الحسّي الجمالي العام للسيناريو، ودفع الذّات إلي خضمّ العمل كشريك في فعل الحدث.

ولا بدّ من التّفكير جديّا بمنافذ جديدة لرسم هويّة المرحلة الرّاهنة بكاميرا لا تحرص تماما علي الضّوابط في مرجعيّاتها المضمونيّة والجماليّة مع الأخذ بعناية اتّساع الرّؤية ومساحة الحلم في نسيج الواقع. ربّما نؤسطر حينذاك واقعنا ونخرج بحكايا جديدة تصهر الحكاية الفرديّة داخل الرّواية الجماعيّة لسؤال الهويّة من خلال النّسج الحكائي السّريع. والمطلوب تكثيف رؤيتنا للرّواية من مصادرها المختلفة.

وباعتقادنا السّؤال المطروح الآن، كيف يمكن أن يصير التّسجيلي إلي حالة دراميّة مسجّلة عن هويّتنا الممزّقة!

هذه المداخلة قدّمت في سينما آسترا، نابولي، إيطاليا

كاتبة من فلسطين

القدس العربي في 22 يناير 2008