كتبوا في السينما

 

 
 

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

أرشيف

إبحث في سينماتك

إحصائيات استخدام الموقع

 

حين ميسرة : الارهاب والفن والعشش الصفيح!

جدلية السينما والسياسة

القاهرة ـ من كمال القاضي

الدخول الي أغوار العشوائيات مهمة بالغة الصعوبة علي المستويين الواقعي والفني، وقد تبدو محاولة الاقتحام مغامرة غير محسوبة العواقب، لا سيما ان العشوائيات بطبيعتها محاطة بالمخاطر ويصب فيها رديف المجتمع كله وعادة ما يكون الانسان الفدائي الذي يتجاسر ويدخل الدائرة المحرمة عرضة ليس للضرر وانما للهلاك والموت المحقق، وطبقا لهذا المفهوم وبناء علي هذه الخلفية يجوز ان نعتبر اي عمل فني يتطرق للحياة داخل المجتمعات العشوائية استثناء بوصفه إبداعا موازيا للإبداع الفني ذاته، حيث رصد ما يدور من تفاصيل وعلاقات انسانية معقدة ومتشابكة يحتاج لمهارات إضافية غير تلك المهارات الفنية كالكتابة والاخراج والتصوير والاضاءة فالمعطي الاول للمعطيات الاساسية الواجب توافرها في صناعة فيلم من هذا النوع هو التراكم الثقافي المتوافر لدي المبدع وحجم ما يمتلكه من امكانيات وثقافات، كي يتسني له التعبير عما يراه ويلمسه بعيدا عن المبالغات التي قد تنسب اليه او يوصف به إبداعه، ليس لأن المتلقي دقيق الملاحظة او شديد الحرص علي خروج العمل بشكل أفضل، ولكن لأن التجارب الفارقة تثير نوازع الشر وتفجر طاقات الحقد داخل النفوس فيبحث الانسان الشرير عن مواطن الضعف في العمل الفني قبل مواطن القوة كي يجد لنفسه مبررا للإجهاز علي النجاح وهو في المهد فلا يبين له في غيره أثر، وهذا بالضبط ما تعرض له فيلم حين ميسرة ومخرجه خالد يوسف الذي انبرت الاقلام من كل الاتجاهات لتنهش فيه لأنه أتي بتجربة هي بكل المقاييس مختلفة وتستحق ان يثار حولها كل هذا الجدل وان وصل الخلاف الي حد الفذلكة والتفلسف وتصيد الهنات والاخطاء ووضعها تحت المجهر لتبدو في حجم الفيل، فيما يتم التغاضي عن الامراض السينمائية الاخري التي ينتشر وباؤها بجميع دور العرض في صورة كوميديا وأكشن ورومانسية بلهاء، بل ويتم الاحتفاء بها بدلا من ضرب أصحابها بالبيض والطماطم، وذلك لأن أصحابها من أهل الحظ أو الحظوة ويمتلكون منابر ونوافذ يدافعون بها عن أنفسهم ويشنون من خلالها حملات تشهير ودعاية فتخرس الالسنة وتكمم الافواه ويصبح الغث الرخيص إبداعا وفنا يؤرخ له كشكل جديد في مدارس السينما الحديثة أو فصول محو الامية للعاطلين عن القراءة والكتابة!

لقد بدأ المتربصون هجومهم ضد خالد يوسف قبل ان ينتهي الاسبوع الاول لعرض الفيلم وانهالوا بالصفعات واللكمات تحت مزاعم غريبة واستخلاصات لا تمت للسينما بشيء، فقد جري الربط بين فضح العشوائيات وسمعة مصر كما هي العادة كأن الاقتراب من القضايا الشائكة والحساسة طعن في شرف مصر ونزاهتها وليس إضاءة حول القبح ليراه الناس قبحا فلا ينخدعون ولا يدلسون ولا يصبحون شركاء في صناعته.. لقد تعامل الكتبة مع القاعدة النقدية بالمقلوب وصبوا جم غضبهم علي من صوّر القبح ونسوا صنّاعه، وهذا هو التواطؤ بعينه وبدلا من مناقشة الفيلم في سياقه الفني الموضوعي انصرفوا الي تفاصيل التفاصيل وركزوا علي مشاهد بعينها كان أهمها مشهد اغتصاب سمية الخشاب ـ النقطة المحورية في قضية البلد التي باتت كالشقق المفروشة يتناوب عليها كل الطغاة والعصاة ويرتكبون باسمها وداخلها كل الموبقات، غير انهم استضعفوها فصارت سبية من سباياهم ينتهكون عرضها انتهاكا جماعيا فتتحول الي راقصة تبيع المتعة مقابل المال في العوامات والحانات وخلف الابواب المغلقة، فيما يظل ابنها تائها يسرق وينهب ويعربد ويعتلي أسطح القطارات مع المجرمين ومحترفي القتل وأرباب السوابق من اللقطاء الذين لفظتهم الاحياء العشوائية الي قلب العاصمة فأصبحوا متناثرين علي الارصفة وتحت الكباري نراهم فلا نشعر بهم كأنهم جسم غريب ليس له نفس شراييننا ودمائنا ولا يمت لنا بصلة!

المشكلة لم تعد في الاحياء العشوائية التي يأبي بعض مرهفي الحس ان يخدشوا مشاعر المشاهد بها، القضية في عشوائية القرارات والحكومات والوزراء والسفراء ورجال الاعمال.. النماذج التي دلل عليها السيناريست ناصر عبد الرحمن وخالد يوسف كاتبا ومخرجا بنماذج معادلة ومطابقة بين الشخصيات الهامشية التي تسكن العشش الصفيح وتقضي حاجتها في الخلاء وتنجب أبناء السفاح وتلقي بهم أمام المساجد وفي سيارات النقل العام، وهي تصر علي الحياة بنفس إصرارها علي الفقر والضياع والارهاب الذي لم يجد رحما ينمو بداخله أوسع من رحم العشوائيات، حيث قانون الغابة هو السائد ونظرية الحي أبقي من الميت والقوة فوق القانون يضبط إيقاع الحياة وتلزم الناس بالجبن كوسيلة من وسائل الحماية والابتعاد عن الشر الذي يمثله المعلم الذي يحكم المنطقة بالحديد والنار ويفرض إتاوات السحت علي المعدمين فيدفعون صاغرين دون ان ينبس أحد منهم بكلمة برغم الفقر المدقع والحاجة الشديدة لكل مليم.. يفرد خالد يوسف الخط علي استقامته فيربط بين العشوائية المحلية وتلك العشوائية الدولية التي تفرض نفس قوانين القمع والاستبداد فيشير الي عاصفة الصحراء ـ الحرب الامريكية ـ العراقية عام 1991 وكيف بدأت جيوش الامريكان تحط علي الاراضي العربية وطائرات بوش الأب تحلق في سماء بغداد للتهديد والوعيد بحجة حماية الشعب الكويتي من الغزو العراقي، فيما كانت الجيوش ذاتها تجري بروفات الاحتلال والهيمنة وخلع الرئيس صــــدام حسين لتكتمل المؤامرة وينجــــــح المخطط وفق قواعد ونظريات البلطجية في المناطق العشوائية ـ الدويقة، قلعة الكبش، إسطبل عنتر وغيرها من المناطق الخاضعة لحكم العصابات، هذه العبقرية في تضفير الاحداث وصياغتها علي نحو سياسي باعتبارها واقعا حيا يتساوي فيه سكان حي زينهم بالقاهرة مع سكان الكاظمية ببغداد جديرة بأن تجعل الفيلم مرمي لرصاص المعارضين الذين يخشون علي سمـــــعة مصر من الهواء ولا يرون تلك العلاقة التي تربط بين سقوط بغداد وانتهاك شرف البطلة سمية الخشاب وانتظار البطل الغائب خالد صالح والارهاب الكامن في الجحور ونوبات التمرد التي تجسد ملامح البطولة الفردية لعمرو سعد وعجز عمرو عبد الجليل عن الإنجاب وغيرها من دلالات القهر والرضا بالقليل والتستر علي جرائم الحكومات والانظمة.. أتصور المعاني كلها غنية عن اي توضيح او قراءة سياسية مغايرة او الادعاء بالتباس المعاني او المبالغة في تسليط الضوء علي القبح او حتي الشذوذ الإنساني الذي أصاب بعض الناس نتيجة عدم إشباع رغباتهم بشكل طبيعي ووجـودهم في بيئة غير صحية نالت من روحهم وأثرت علي توازنهم النفـــــــسي فباتوا ضحايا للفساد بكل أشكــــــــاله، ولعل المعني ينجلي كاملا في التحول الذي أصاب البطــلة بعد اغتصابها، إذ تستـسلم تماما لغواية المال وتبيع نفسها لمن يدفع أكثر فتصير ماهرة في اصطياد الزبائن واستثـمار مقوماتها الانثوية، حيث لا سبيل للعيش بشرف بين تجار اللحوم البشرية.. وعلي نفس المنوال وبذات القياس تتعسر الحياة امام عمرو سعد، الذي يلعب دور البطولة المطلقة لأول مرة فنراه ينخرط في علاقة سرية مع الاجهزة الامنية ويتورط في عمليات التلصص والتجسس علي العناصر الارهابية المشتبه فيها من أهل الحارة فيغوص لأذنيه في مستنقع العمالة ويفر في النهاية بحقيبة الفلوس المزيفة هربا من بطش البوليس وجحيم الإرهاب ويستقل نفس القطار الذي يقل عشيقته وابنهما السفاح، حيث يتوجه الجميع الي مكان غير معلوم وتنزل تترات النهاية ويبقي مصير العائلة مجهولا كمصير الشعوب، فيما تبقي النيران مشتعلة في العشش والسكان، والحرب دائرة بين الإرهاب والإرهاب.. إرهاب التطرف الديني وإرهاب السلطة !

القدس العربي في 21 يناير 2008