كتبوا في السينما

 

 
 

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

أرشيف

إبحث في سينماتك

إحصائيات استخدام الموقع

 

فيلمٌ يبتعد عن بساطة النهايات السعيدة والتطهيرية

الكسكسي بالسمك وأسراره لمخرجه التونسي عبد اللطيف كيشيش

صلاح سرميني

في المَشاهد الخِتامية للفيلم الفرنسيّ (كسكسي بالسمك)ہہ لمُخرجه التونسيّ الأصل (عبد اللطيف كيشيش)، يتجسّد الجانب الإيجابيّ لعائلةٍ مغاربية مهاجرة تعيش في مدينة (Sژte) الفرنسية في أبهي صورها، أنضجها إنسانياً، وأجملها سينمائياً، وبالمُقابل، تتباهي بمسح الصور النمطية التي تلوكها (أفلام الهجرة)، وتنتفضُ شامخةً في مواجهة التحقيقات التلفزيونية القاصرة، والمُتحاملة أحياناً عن الهجرة، والمُهاجرين.

تجمع تلك المَشاهد المُتألقة بين الحنان/ والقسوة، التأثير/ والتأثر، اللقاء/ والفراق، الحبّ/ والكراهية، الصدق/ والنفاق، الواقع المُعاش/ والفانتازيا الاستشراقية...

سوف تبقي تفاصيلها عالقةً في أذهان المتفرج، ويتذكرها تاريخ السينما الفرنسية/ والعربية بإعجابٍ، وفخر.

(سليمان)، العامل في تصليح مراكب الصيد، والذي فقد عمله منذ فترةٍ قصيرة، فكر، وخطّط، وأعدّ مأدبة عشاءٍ لأصحاب القرار في المدينة كي يثبت لهم عملياً فاعلية مشروعه، وأملاً بالحصول منهم علي التراخيص اللازمة لتحويل سفينةٍ مهجورة إلي مطعمٍ يقدم فيه (الكسكسي بالسمك) وجبةً رئيسية.

وفي الوقت الذي يستمتع فيه الضيوف بتلك السهرة الاستثنائية، تحدث هفوةً مُفاجئة سوف تُغيّر من مسار الحدث (إلي الأفضل ربما)، كي تتوازي المُجريات التالية، وتتقاطع:

يُلاحظ الابن الأكبر(مجيد) حضور خليلته الفرنسية بصحبة زوجها معاون عمدة المدينة، وكي يهرب من موقفٍ سوف يزّجه في ارتباكاتٍ معقدة مع عائلته، وخاصةً زوجته (جوليا)، ينسحب بخفاءٍ، ويتحججُ لأخيه الأصغر(رياض) بذهابه لمُساعدة صديقٍ يعاني من مشكلةٍ ما في الطريق السريع.

وفي قلق الانسحاب المُتعجل ذاك، ينسي وعاء حبيبات الكسكسي في سيارته، وعندما يحين الوقت لتقديم الطبق الرئيسيّ للضيوف المُتلهفين، تتفطن العائلة لتلك الرعونة الغير منتظرة، والتي سوف تدّمر ما خطط له الأبّ (سليمان) العاقل، والهادئ دائماً.

كيف يمكن إنقاذ هذا الموقف الصعب، و(مجيد) أغلق هاتفه الجوّال، وأصبح الوصول، والاتصال به مستحيلا،ً ...كيف ؟

وهنا، تتفتقُ عقلية أفراد العائلة الحائرين عن فكرةٍ جهنمية:

تقديم الكثير من الكحول للمدعوّين، كي ينسوا جوعهم، وينقضي الوقت بانتظار تحضير كميةٍ أخري من حبيبات الكسكسي.

وعلي حدّ قول (ليلي) المُتزوجة من (ماريو) الفرنسي، فهي تعرف جيداً بأن الفرنسيين ينسون (حتي) زوجاتهم عندما يحتسون الخمر إلي حدّ الثمالة.

وبينما اعتمد الفيلم ـ منذ بدايته ـ علي مشاهدَ طويلة تنهج تتابعاً درامياً متصاعداً، فقد تخيّر(كيشيش) للمشاهد الختامية مونتاجاً متوازياً، أكثر تقطيعاً، وديناميكةًً.

تقدم نساء العائلة المشروبات الكحولية للضيوف المُتذمرين من التأخير في ملء بطونهم الخاوية، والمُتلهفين علي التهام (الكسكسي بالسمك) الموعود.

يذهب الأبّ (سليمان) بدراجته إلي منزل زوجته (سعاد) ـ المُنفصل عنها جسدياً ـ ليطلب منها إعداد كميةٍ أخري من حبيبات الكسكسي، فلا يجدها في البيت. يظن بأنها تقضي مساءها في منزل(جوليا) زوجة ابنهما الأكبر(مجيد)، ولكنه، هناك يُعايش مشهداً من الألم، البكاء، الصراخ، والتعنيف ضدّ ابنه، وحماتها التي تتلقي مكالمات (مجيد) الغرامية في بيتها، وتظن (جوليا) بأن حالةً من التواطؤ الضمني تحدث بين الأم، وابنها.

وكي يعود (سليمان) إلي المركب، يُفاجأ بأطفالٍ أشقياء يلهون بدراجته، ويجعلونه يركض خلفهم لاهثاً، دون أن ينجح باستعادتها.

في تلك الأثناء، تبحث الأم (سعاد) عن أحد المُتشردين لتقدم له طبقاً ساخناً من (الكسكسي بالسمك) ليملأ به معدته الخاوية.

تقرر(لطيفة) ـ عشيقة(سليمان) صاحبة فندق الشرق ـ وابنتها (ريم) حضور السهرة، تضامناً معه، وتشجيعاً له،.. وإنقاذاً لموقف اختفاء وعاء حبيبات الكسكسي في سيارة (مجيد)، يخطر في بال (ريم) حلّ، فتذهب إلي فندق والدتها القريب .

تنطفئ أنوار المركب لثوانٍ، وتُضاء من جديد، (ريم) تتوسط الفرقة الموسيقية، متزينةً بملابس رقصٍ شرقية فاقعة الاحمرار، تكشف عن نعومة جسدها، وتبدأ رقصتها الأسطورية، وما بين الإفراط في احتساء المشروبات الكحولية، والتصفيق، والتمايل مع الموسيقي المُبتهجة،.. ينسي الضيوف جوعهم، وتنجح (ريم) بتحويل انتباههم من (قرقعة بطونهم) إلي (ارتجافات بطنها)، وتثير في مخيلتهم صوراً شهوانية مستوحاة من مخزونٍ استشراقيّ.

لقد فهم أفراد العائلة لعبة الشهوة، والاشتهاء التي أجادتها(ريم)،..

تنهض أمها (لطيفة) إلي مطبخ فندقها، وتبدأ بتحضير كميةٍ من حبيبات الكسكسي.

يركض (سليمان) خلف الصبيان الأشقياء اللاهين بدراجته، تخور قواه، ويقع منهكاً فوق رصيف الميناء.

تبحث الأم (سعاد) عن متشردٍ لتمنحه طبقاً ساخناً من (الكسكسي بالسمك) يُدفئ به معدته الخاوية.

تعود (لطيفة) إلي المركب بوعاءٍ كبيرٍ من حبيبات الكسكسي.

يهتزّ جسد (ريم)، ويرتجف بشهوانيةٍ مؤلمة.

ينتهي الفيلم.

ويبقي السؤال مُعلقاً :

ـ هل توافق سلطات المدينة علي منح (سليمان)، أو عائلته، رخصةً لتحويل المركب إلي مطعم؟

ـ هل أنقذت(ريم) ذلك الموقف برقصها التراجيدي ؟

ـ هل انتهت حياة (سليمان) الستينيّ فوق رصيف الميناء ؟

ـ هل تصالحَ الابن الأكبر(مجيد) مع زوجته (جوليا)، وتخلي عن نزواته الغرامية، وأصبح زوجاً مثالياً، وأباً عطوفاً ؟

ـ هل تطورت علاقة الإعجاب المُستترة بين الابن الأصغر(رياض)، والحلوة (ريم)، وتُوّجت بالزواج، ربما؟

لقد انتهي الفيلم في اللحظة التي يجب أن ينتهي فيها، عند مشهد الرقص بالتحديد، كي تبقي أجوبة تلك الأسئلة معلقةً، وكي لا يسقط السيناريو في بساطة النهايات السعيدة، الرخيصة، والتطهيرية. وعلي الرغم من المدة الزمنية الطويلة نسبياً للفيلم (151 دقيقة)، والمُتأتية من الإسهاب في الكشف عن تفاصيل حياتية عادية، كان المتفرج مُتلهفاً للاستمتاع بأحداثٍ إضافية عن تلك العائلة المُهاجرة، والتي ـ بمنحنياتها المعيشية ـ لقنت دروساً مُعتبرة للمتفرج الفرنسي (والأوروبيّ بشكلٍ عام) عن معني التضامن، التضحية، الكرم، الحبّ، الحنان، والتسامح.

وبالإضافة للنصّ السينمائيّ المفتوح بكرمٍ علي الشخصيات: عائلة (سليمان) من طرفٍ، العشيقة (لطيفة)، وابنتها (ريم) من طرفٍ آخر، فإنّ أهمّ ما يُثير الانتباه في الفيلم، أداء الممثلين، تلقائيتهم، وبراعة حركتهم، وتحريكهم في أمكنةٍ مألوفة (مشاهدَ داخلية غالباً)، وكأنهم حفظوها عن ظهر قلبٍ، أو هي الأماكن الطبيعية التي يعيشون فيها.

وإذ حصلت (حفصية حرسي) جائزة التمثيل عن دور(ريم) في الدورة الأخيرة لمهرجان فينيسيا، إلاّ أنّ الإنصاف النقديّ يُحتمّ استحقاق كلّ شخصيات الفيلم، وخاصةً النساء منهن، علي جائزةٍ جماعية.

سوف تبقي هذه الموهبة/القنبلة الموقوتة في الأذهان دائماً، هدوءها، غضبها، حنانها، قسوتها، حبها، كراهيتها، فرحها، وحزنها... ومن ثمّ تلك الرقصة الأسطورية التي أنهي(كيشيش) بها فيلمه (مؤقتاً ربما)، وجمعت بين الشهوانية، والألم في مشهدٍ إنسانيّ عظيم، ومؤثر، يستحق التصفيق.. والدموع.

في السينما العربية، نادرةٌ مشاهد الرقص التي تمنح المتفرج الإحساس بالنشوة، والانتصار، وبالآن ذاته، يقشعر منها الجسد ألماً، وحزناً.

(حفصية حرزي)، براءةٌ مُرتسمة علي وجهها، شفتها السفلية المُتدلية، قامتها القصيرة، جسدها المُكتنز قليلا، ًارتجافات بطنها، اهتزازات خصرها، انطلاقات شعرها المُتفحم الطويل، ملامح الحزن المُتوهجة في عينيها الناعستين، ورغبة تحدي الوقت الذي يمضي انتظاراً لـ(الكسكسي)، والأفكار المُسبقة القابعة في أذهان الضيوف الفرنسيين عن المهاجرين المغاربة، وبالأخصّ، إثباتاً عملياً بأنّ فكرة (سليمان) بتحويل المركب المهجور إلي مطعمٍ قابلةً للتنفيذ علي العكس من كلّ التحفظات، العقبات، والعراقيل التي وضعها أمامه أصحاب القرار في المدينة.

وبالإضافة لذاك المشهد التراجيدي، تتألق (حفصية حرسي)، وغيرها من شخصيات الفيلم في مشاهدَ أخري لا تقلّ أهميةً .

في واحدٍ منها، تغضب (ريم) من نصائح (مجيد)، و(رياض) لأبيهما خلال زيارتهما له، واقتراحهما بأن يقضي شيخوخته في البلاد مطمئناً مع تعويضات فصله من العمل، وتلك الخاصة بتقاعده، بدل العيش في غرفةٍ (حقيرة) من (فندقٍ متواضع).

تغضب (ريم) من أقوال (مجيد) بالذات، وتتسامح قليلاً مع (رياض) المُعجبة به خفيةً، وترفع معنويات (سليمان)، وتعبّر له عن تعلقها به، فهو بمثابة أبيها.

يتخلل ذلك حوار عابر مع عصفورٍ في قفصه، واستغرابها المرح من صمته، وتوقفه عن الغناء، ورغبتها الطفولية بأن يبتهج، ويزقزق:

ـ ريم : لماذا لا تغني، غني..

وهل يمكن نسيانها، وهي تحاول إقناع أمها(لطيفة) بحضور مأدبة العشاء التي نظمها (سليمان) لإقناع أصحاب القرار في المدينة .

وخاصةً تلك اللقطات الكبيرة التي تخيّرها (كيشيش) وهي تطلّ علي المركب الراسخ في الميناء مواجهاً (فندق الشرق)، ينعكسُ وجه (ريم) فوق زجاج النافذة، هذه العشرينية عمراً، تنضحُ حباً، وحناناً، صغيرةٌ مثل طفلةٍ بريئة، وكبيرةٌ مثل امرأة ناضجة مجربة، تساعد أمها في إدارة الفندق، وخدمة الزبائن الدائمين، تتعامل معهم كأفراد عائلتها المُفتقدين، ولا تتورع عن مساعدة هذا في شدّ ربطة عنقه، وممازحة الآخر إعجاباً بملابسه الأنيقة.

لقد تحول (فندق الشرق) إلي منزلٍ كبيرٍ تسكنه عائلةٌ وافرة العدد، يقضي الرجال المتقاعدون عن العمل سهراتهم الليلية في الحانة، ينسون مع الرقص والموسيقي تعب السنين الخوالي، وفي النهار يقضون ساعاتهم داخل غرفهم الضيقة المفتوحة علي بعضها، أو الاسترخاء في واجهة الفندق، حيث تختلط الذكريات، بالثرثرة، بالنميمة الخفيفة.

وهل يمكن نسيان (كريمة)، الأخت الكبري في بداية الفيلم، وهي تعنفُ طفلتها، لتمنعها من التبوّل في ملابسها الداخلية، وتحاول تعويدها علي استخدام الوعاء المُخصص.

الطفلة الصغيرة نفسها، بهدوئها، صمتها، واندهاشها من هوس أمها (المُصطنع) حول هذا الأمر، تعبّر نظراتها عمّا في داخلها، وكأنها تُدندن :

ـ وماذا لو تبولتُ في ملابسي الداخلية ؟،..

وتحتمي في حضن جدها (سليمان).

ومن الإنصاف أيضاً، الإشارة إلي المشهد الذي نري فيه (جوليا) زوجة (مجيد) الابن الأكبر لـ (سليمان)، هي تبكي متألمة من حالها، وتشرح ملتاعةً إهمال زوجها، وممارساته الاجتماعية، والأخلاقية المُتهورة، واعتقادها بتواطؤ أمه، وبناتها معه، وضمان سلوكياته.

يصغي (سليمان) إليها هادئاً كعادته، متفهماً، ولكن، ما يهمه أكثر في تلك اللحظات، العثور علي زوجته (سعاد) كي يطلب منها تحضير كميةٍ أخري من حبيبات الكسكسي، لينقذ مشروعه من فشلٍ مُحتمل.

لقد بدأ الفيلم فوق مركبٍ صغير يعمل عليه (مجيد) دليلاً سياحياً للميناء، ومهنة الصيد فيه، وبدأت الأحداث بعلاقةٍ جسدية سريعة مع زوجة معاون العُمدة، وانتهي في المركب/المطعم بخيانةٍ مُتوقعة من أصحاب القرار في المدينة، وقد فهم المتفرج من خلال الثرثرة التي كانوا يجترونها فيما بينهم، بأنّ تلك المأدبة، سوف تكون الأولي، والأخيرة، ولن يحصل (سليمان)، ولا عائلته علي الترخيص المُنتظر، وسوف تبقي تلك السهرة، و(الكسكسي بالسمك)، ورقصة (ريم) حدثاً عابراً في تاريخ تلك المدينة.

ہ سينمائي من سورية يقيم في باريس

 

 (كسكسي بالسمك):

في الدورة الرابعة لمهرجان دبي السينمائي الدولي/2007 جاءت الترجمة العربية للفيلم تحت عنوان (أسرار الكسكسي).

سيناريو، وإخراج : عبد اللطيف كيشيش

حوار، وإعداد : غالية لاكروا، عبد اللطيف كيشيش

إنتاج : كلود بيري، فرنسا 2007

تاريخ عرضه التجاري في فرنسا: 12كانون الأول (ديسمبر) 2007

مدة الفيلم : ساعتان و31 دقيقة.

تمثيل : حبيب بوفارس، حفصية حرزي، برونو لوشيه، سيريل فاير، صابرينا وزاني، فريدة بنخيطاش، أليس حوري، ليلي ديسيرينو، عبد القادر جلولي، عبد الحميد أكتوش، بوراوية مرزوق، أوليفييه لوستو، محمد بن عبد السالم، سامي زيتوني، عتيقة كاراوي، هنري رودريغز، ناديا طاوول، كارول فرانك، هنري كوهين، جان كوربورون، فيولين دي كارنيه.

القدس العربي في 21 يناير 2008