كتبوا في السينما

 

 
 

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

أرشيف

إبحث في سينماتك

إحصائيات استخدام الموقع

 

عندما تكون دراما الواقع أقوي من أي دراما

فيلم «حين ميسرة» تشريح جمالي لواقع العشوائيات القاسي!

د. فاروق إبراهيم

·         الفيلم رسالة شديدة اللهجة من خالد يوسف لمجتمع أهمل عشوائياته وسكانها فتحولت إلي قنابل موقوتة

·         الحل الأمني في نهاية الفيلم أضعف كثيرا من التصاعد الدرامي للأحداث

·         هالة فاخر وسمية الخشاب مواهب ثمينة.. وعمرو عبدالجليل وعمرو خالد اكتشافان سينمائيان جديدان 

من المشاهد الأولي لفيلم «حين ميسرة» نفاجئ بحالة انقضاض علي عوالم المهمشين وعشوائيات توحشت انيابها وامتدت طولا وعرضا من خلال اختيار القاهرة كأحد نماذج العشوائيات في بعض دروبها وبؤرها التي لم تطل عليها الحياة بأدني مستوياتها بل امتلات الصورة السينمائية بالضعفاء وساكني القبور والهائمين بلا هوية لنتعرف عن قرب من خلال سيناريو «ناصر عبدالرحمن» عن ظاهرة العشوائيات بأحد أحياء قاهرة المعز الذي يحاول قاطنوه بشتي الطرق والسبل للخروج من هذا الخندق الضيق المظلم والكئيب الذي صنعته ظروف متراكمة من القسوة المجتمعية والسياسية لتضيف بعدا معقدا لهؤلاء البؤساء الجدد.وأمام العديد من النماذج التي طرحها السيناريو وضع ناصر عبدالرحمن كل سيئات المناطق العشوائية من خلال العديد من التقاطعات الأفقية والرأسية والتي لا تدع مجالا لأي بارقة أمل فالكل في حالة صدام وعراك وانتظار لأمل، لا يأتي أبدا فأحد أبناء تلك العائلة التي تبعثرت حياتهم والكل في انتظار فارس مهزوم عائد من العراق محملا بالعطايا وانقاذ ما تبقي من أشلاء أسرة أحرقتها نيران العوز في غرفة ضيقة وعدد من الأبناء فاغري الأفواه لا يعرفون كيف يقضون يومهم ومتي تكون وجبتهم التالية إلي ابن أدمن كل شيء من الممنوعات والسموم البيضاء والتجارة غير المشروعة حتي فتاته التي أحبها تمخض عنها ابن غير شرعي مجهول الهوية ورقما عشوائيا مضافا وكل ما كان يقوله هذا الشاب المغيب لمحبوته البائسة سأتزوجج «حين ميسرة» وتستمر الصراعات في تلك الأمكنة والأزمنة المعبأة بكل ما يمكن تفجيره في أية لحظة من ظلام الأحلام التي سرقت عبر سنوات طويلة فمن من قبر قبل موته وسكن المقابر وأصبح قاب قوسين أو أدني من حافة المدينة التي أهملته وكادت تسقط علي رؤوس ساكينها.وتستمر مداخلات السيناريو بحثا عن كل النقاط السوداء في بؤر العشوائيات التي اقتحمها كاتب القصة والذي يبدوا أنه استوطن دراميا عالم المهمشين في تلك العشوائيات التي أصبحت وليمة دسمة مليئة بالسموم فسرعان ما ندخل في المثول عبر حالة فسرعان ما تستدعيه دراما الموقف إلي استخراج حالات أخري فمن الإدمان والسجن والبلطجة إلي فرض السيطرة وهو منطق ومنهج «مكيا فيلي» استند إليه كاتب السيناريو في تقديم شخوص عشوائياته فالغاية أن يعيش ذلك الشاب المسمي «عادل حشيشة» المتوقد حيوية والمحمل بأمل ما يتحول وفقا لظروفه البيئية إلي تبني فكرا «دروانيا» دون أي وعي منه في استغلاله لكل ما تبقي من ذهب أمه الذي تدخره ليوم لقاء ربها لقد هزمتها الأمومة أمام جبروت الابن الضال الذي أصبح مصاردا وتحول إلي قاطع طريق ويحوله سيناريو ناصر إلي أحد أعمدة فتوات هذا الحي العشوائي.ورغم قسوة المشاهد وواقعية الأحداث المنتقاه مازالت العشوائيات تدب في أماكن كثيرة بل تعدت العشوائيات مجرد أماكن وبشر بل أضحت في سلوك يومي وعقول تفكر وتقرر بطريقة عشوائية أكثر مما صدمنا به «خالد يوسف» والجدير بالملاحظة أن القصة والسيناريو والحوار الذي كتبه ناصر عبدالرحمن أعاد صياغته بصريا «خالد يوسف» والذي بالتأكيد خفف بشكل ما جرعة الواقعية الصادمة بلا هوادة، ولكن شهوة «خالد يوسف» بتجسيد المشاهد وتركيزها رغم قسوتها وضعتنا في حيرة وعدم استقرار للهرولة من مشهد إلي آخر في تتابع مرهق حسيا خاصة دخوله إلي عالم أطفال الشوارع، وتداعيات العلاقات المشبوهة والحمل السفاح لفتيات وأطفال فقدوا الأهلية للوجود حتي إن الصراع انتقل من الأرض إلي سقوف القطارات المسرعة والتي كادت أن تتم عليه تحرشا جنسيا ويلقي بعضهم البعض قتلا وكأنهم نفايات مجتمع سرق منهم أبسط قواعد الوجود الإنساني.خالد يوسف وفرقته الموسيقية..أدار «خالد يوسف» فريق فيلمه في حزم نادر وكأنهم بنات لا يمكن أقتلاعه بسهولة في تلك المنطقة العشوائية وجعل نبات من أداء الفريق نغما متوحدا وماء يتدفق منها عطاء الجميع بتلقائية نادرة الحدوث وأنهم بمثابة سكان هذا المكان الذي دمره زمن ظالم لم يلتفيت إليهم أحد مع أنهم قنابل موقوتة ستنفجر في يوم ما حتي ان اللغة الحوارية تكسرت وتبعثرت محتوياتها وكسرت قواعدها واقترب بها إلي كوميديا سواداء فكان «عمرو عبدالجليل» هو افراز هذه اللغة التي امتزجت فيها السخرية بحياة لا استقامة فيها وعبر عمرو باقتدار عن هذه الشخصية وجعلت منه ممثلا قادرا علي تقمص أي دور ركب باقتدار منقطع النظير فهو شخص مهزوم وفي أزمة حقيقية ويعيش علي هوامش الأشياء وفي حالة انكسار حينما تصدمه الحقيقة بأنه غير قادر علي الإنجاب. واكتشاف الفيلم الحقيقي هو الممثل الشاب «عمر سعد» في دور حشيشة ـ انه دور مركب وصعب قد تكرهه ولا تتعاطف معه ولكن الأداء الصاعد فوق مشاعر وانفعالات القبول أو الرفض.ولكن الجدل الذي يطرحه الفيلم هو من الأمور المفيدة فالحقيقة «المثلي» لا وجود لها إلا بإعادة التركيب والبناء وفق مقتضيات الدراما الفنية.حتي إن السيناريو لم يترك أبطاله يهيمون في الفراغ فنحن مثلا أمام «ناهد» والتي قامت بتجسيدها «سمية الخشاب» في أدائها ذي الألوان المتعددة ما بين الناصع والباهت أي ما بين حبها المحرم واستغلال سلبي لجسدها الملتهب والمتفجر أنوثة ومن خلال العديد من المشاهد التي أثارت العديد من ردود الأفعال وهي العلاقة المثلية ما بين ناهد وغادة عبدالرازق التي جسدت دور امرأة شاذة تحاول الإيقاع بناهد مستغلة تلك الأنوثة للتلذذ بها، هذه المشاهد ورغم قسوتها وتقزز البعض منها لا تعدو أن تكون نسيجا دراميا لعشوائية العلاقات الشاذة في المجتمع وليس هاتين المرأتين وعلي الرغم من تكرار مشاهد التحرش الجنسي ما بين ناهد ورموز الشباب الخارج من سياق مجتمعي فاسد أفرزت تشرذم العلاقات الأسرية المهاجرة بلا ضوابط تربوية مؤثرة وفاعلة.والأم التي عانت طيلة عمرها في انتظار مجهول لن يأتي أبدأ أصبحت من الشخصيات المؤثرة في ضعفها وانسكارها، ودموعها التي لن تجف يعود الغائب من رحلة العذاب بين رحلة «ثعالب الصحراء والفوضي الخلاقة» في دولة اغتالها النظام والآلة العسكرية الأمريكية، بلا معني وابن عاق فلت زمامه وهو يقضي عقوبة السجن ـ إنها «هالة فاخر» نبضا متحرك.. تتمتع بأصالة الأداء وقوة الإقناع أنها مثال للأم التي فقدت أعمدة الحنان وأعطتها لفلذات أكبادها لقد عبرت هالة فاخر في هذا الدور وتركيزها فيه حدود المكان إلي دائرة المكانة وقد أعاد «حامد حمدان» في حدود الإمكانيات المادية مرئيات الأمكنة العشوائية بما احتوته من فوضي المكان وعشوائية ساكنية فهم لا يلتحفون غير الأوهام التي أوقد ظلالها «رمسيس مرزوق» والذي جمع ما بين انغلاق المكان وظلام الأحاسيس.خالد يوسف خريج مدرسة «يوسف شاهين» يطل علينا برسالة شديدة اللهجة موجهة عبر السماوات المفتوحة أن هناك قنابل موقوتة وموضوعات وأسئلة يجب طرحها دون الاستهانة بها ومن ثم يحاول المتلقي إيجاد مخرج أو إجابة ولا تأتي الحلول.«حين ميسرة»والفيلم في عمومياته يقدم شخصياته في صراعهم اليومي الدائم في حالة من البؤس متبعثرين في ظلام الأيام الحالكة السواء في شريط سينمائي خارج السياق الإنتاجي لسينما تعتمد في أكثر موضوعاتها علي دغدغة المشاعر ومناظر تدق طبول الغيثان ورقص الأفاعي وأغاني وافيهات الوجبات السريعة.ويبقي في النهاية تلك الحلول التي قدمها خالد يوسف من خلال نموذج البطل المقهور «عادل حشيشة» بغرض سيطرته علي خلية من خلايا سرطان العشوائيات باستخدام أنبوبة بوتاجاز مشتعلة يهدد بها خصومه، أنها حالة من حالات سقوط البطل المهزوم أو هذا الحل الأمني الذي أحاط بنهاية الفيلم وكأنه حلا مثاليا بالقضاء علي هذا الحي العشوائي بتدميره وليس بتأهلية أو إعادة صياغة وجوده وهذا الحل الأمني اضعف كثيرا من مصداقية الصراعات والمواجهات بين تلك المستحيلات لهؤلاء المهمشين وأطفأ هذا الحل المبتسر حالة الصراع المتصاعد دراميا بلا شك فالسينما هي فن الفرجة بتقديمها دراما الحياة بواقعية مجردة وليس بالضرورة أن تقدم الحلول عليها أن تقدم تشريحا جماليا للحالة بكل قسوتها برؤية فنية ممتعة.وتبقي رسالة الفيلم إنذارا مبكرا لهذه الأماكن المهملة بلا حل ممكن فقد تصبح في حين غفوة بؤرة لتخريج الإرهاب والتطرف الأخلاقي والمجتمعي بلا منازع.إن فيلم «حين ميسرة» رغم ما فيه من قسوة يستحق المشاهدة والقراءات المتعددة والتساؤلات المشروعة.

جريدة القاهرة في 15 يناير 2008