كتبوا في السينما

 

 
 

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

أرشيف

إبحث في سينماتك

إحصائيات استخدام الموقع

 

ألوان السماء السابعة لزينب عزيز وسعد هنداوي:

روحانية لا نراها إلا في السينما فقط!

القاهرة ـ كمال القاضي

لو استطاع الإنسان أن ينفصل عن ذاته الآثمة يمكنه التحليق في الفضاء الرحب والطيران فوق الهضاب والمرتفعات الشاهقة كحمامة تحررت من الطوق وامتلكت حريتها خارج محبسها، نازع قوي نحو الطيران يراود ذلك البطل الصوفي وهو يمارس هوايته المفضلة كراقص تنورة، إذ يسبح في ملكوت ربه متأثرا بحركة الجسد الرشيق ذاهبا بعقله بعيدا بعيدا، حيث تسمو الروح وتشف وتصعد إلي السماء السابعة بعدما تتخلص من كل ما يربطها بالأرض فيخال إلينا أنها صارت طيفا تمتزج به الألوان وتسقط عنه الذنوب فيرجع الرجل كطفل يطل بعينيه البريئتين علي الحياة من شرفة الملائكة فلا يري منها غير الجمال المجسد في ذلك الوجه الذي يطالعه كل مرة وهو غارق في مثاليته وعالمه اللا نهائي فهاهي الفتاة تتراءي إليه بين جموع الناس بذات الوجد إذن يفتح أبواب القلوب ويزيل الغشاوة فيصبح البصر حديدا، هكذا تبدو الأشياء كلها في النور شفافة ومضيئة، حتي البشر العصاة نراهم علي غير هيئتهم العادية فداخل كل ذات آثمة ذات أخري طاهرة ولكن قليل منا من يعتني باكتشافها أو يشغل نفسه بالبحث عنها، كما فعلت السيناريست زينب عزيز التي كسرت الإيهام ونفذت عبر كتابة رقيقة إلي ذلك العالم الغامض المتواري خلف السلوك الظاهر للنفس البشرية وأفاضت في البحث عن مواطن الجمال فأهتدت ببصيرة المبدع إلي بقاع الضوء ونسجت خيوطها الملونة لتصل شتات الروح بالجسد الذي يتحرك علي الأرض فيحدث الصخب ويربك العقل ويعطل الأحاسيس الباطنة فلا نري من الإنسان غير صفاته الرديئة، فيما يبقي الفعل الآخر كامنا ينتظر خفقان القلب فندرك اننا بصدد ميلاد جديد للحظة مغايرة نقف فيها معلقين بين السماء والأرض!

مع دوران الكاميرا والتفاف التورة علي جسد البطل فاروق الفيشاوي تتفتح الأسارير فهو يغمض عينيه عن العالم المادي ويهيم في عالم أكثر سحرية وامتداد فلا زال هناك ما يشغله في السماء السابعة، ربما ألوانها المتداخلة في تجانس بديع يوحي بالمعاني ويغني عن التفسيرات المنطقية لما يدور في العوالم الميتافيزيقية فنحن أمام حالة هلامية تفرضها الرؤية البصرية ولا تنبأ عنها الأحداث الواقعية فشتان بين حياة البطل راقص التنورة البائس وتلك التجليات التي تبدو في حركاته وسكناته وهو يتمايل منتشيا بأهازيج الدراويش في حضرة أولياء الله والعارفين، فليس ثمة صلة تربطه بعالمه الخارجي، المليء بالمشاكل والإضطرابات، حيث الزوجة والابن والصديق والعشيقة وعيون الطامعين من النساء ـ الحاسدين من الرجال ـ عالم تحوطه الموبيقات وتحفه الهموم والأخطار ينفصل عنه الرجل ويظل هائما في عشقه، إلا أن يلتقي بنصفه الآخر، حبيبته ٍليلي علوي التي تقتفي أثره في الموالد والأماكن العتيقة، حيث يقيم حفلاته وسط المعجبين والمريدين علها تنال نظرة أو تلمح تأثيرا للاعجاب علي وجهه، انه الوعد الإلهي يجمع بين الحبيبين وينزلهما منزلة العشاق، إذ تتلاقي الأرواح قبل الأبدان فيصير العشق قدر كل منهما وتبدأ رحلة جديدة من حياة الفتاة التي غرقت حتي أذنيها في مستنقع الرذيلة ولم يعد لها ملاذا غير ظل الرجل الصوفي، ملاك الرحمة الذي هبط عليها من السماء كأنه رسول التوبة يخلصها من جحيم الذنوب ويأخذ بيدها إلي طريق ينشداه سويا ويسيرا فيه علي هدي اليقين والحب، تلك القراءة لأحداث فيلم زينب عزيز وسعد هنداوي ألوان السماء السابعة هي التعويض عما أرادا الاثنان أن يقدماه ولم يفلحا في توصيل معانيه بالشكل الذي يليق بالتجربة لا سيما وأن السيناريست قد أقحمت علي الفكرة الرئيسية أبعادا أخري اجتماعية فأفسدتها وحولت تجلياتها إلي مجرد نزوات روحانية تنتاب البطلان، فيما يفرض الواقع صلفه وغبائه المعتاد فنري تفاصيل تعكر صفاء الرؤية النقية وتحيل الإحساس الصوفي إلي شيء أشبه بالحلم فتنفصم حلقات التسلسل الدرامي ويستيقظ العقل علي مشاهد الشجار بين الزوجة أو الطليقة سوسن بدر وزوجها السابق فاروق الفيشاوي الذي هو ذاته العارف الصوفي الواصل الي حيث لا يصل البشر العاديين، كما أن انفلات الابن المراهق شريف وانزلاقه في علاقة محرمة مع فتاة تخدعه باسم الحب وتواطؤ الابن نفسه علي علاقة سرية تربط أمه برجل آخر أحمد راتب يؤثر بشكل سلبي علي درجة التفاعل ويخرج الشخصيات عن طورها الوقور، مما يترتب عليه بالضرورة فقدان الفكرة لكثير من بريقها وتوهجها، إذ لا يجتمع الضدان في معني واحد ولا يمكن ضبط إحساس المتلقي علي أكثر من موجة، فإما أن يتعاطف مع البطلة الباغية ويقبل توبتها تماشيا مع القانون الإلهي الذي يقبل توبة الإنسان العاصي أو أن يصر علي إدانتها فلا يبقي لها رصيدا عنده، وتعاطف المتلقي مع البطلة المذنبة ليس تعاطفا مطلقا ولكنه تعاطف محكوم بشروط، أولها أن تكون البطلة استثناء في أحداث الفيلم بمعني ألا يكون النموذج نفسه مكررا، حتي لا يفهم أن التعاطف الشخصي وحده سببا للغفران دون الاستناد علي أدلة قوية كرغبة البطلة نفسها في التطهر، وهو ما نجحت فيه زينب عزيز مع ليلي علوي في إقناع المشاهد بأن التوبة جاء بقرار ذاتي من البطلة ذاتها، أما فيما يخص دور سوسن بدر فالأمر كان مختلفا، حيث السيدة المطلقة تبدو لعوبا وتهوي المراوغة والدلال، وإن كانت تمارس ذلك علي رجل واحد لكنها في النهاية ليست بعيدة عن الشبهات، الأمر الثاني أن فاروق الفيشاوي نفسه وهو البطل الذي تتهافت عليه النساء لم يكن نموذجا للظهر والعفاف، وإنما جاءت طبيعته النفسية والإنسانية غير متسقة مع دوره كرجل صوفي يتطلع إلي التجرد والدوران في عوالم أخري يكون فيها بمنأي عن حياة الجحود والذنوب والكراهية، فهو العارف بالله ـ المؤمن بقدرة ـ السابح في ملكوته!

ثمة تناقض واضح بين أداء الفيشاوي وطبيعة الشخصية الاستثنائية الفريدة لم يقلل من تأثيره غير كاميرا محسن أحمد التي تعاملت بدقة مع تباين الشخصيات ومتغيراتها فأفرزت أجمل ما بداخلها من خلال إبراز المعني الباطن واللعب علي مساحات الخيال في الصورة الذهنية المختزلة عن أولئك الصوفيون الذين ينسون كل شيء ويطرحون الدنيا وراء ظهورهم ويظلوا هائمين غير مبالين بما يحدث حولهم كما أن موهبة سعد هنداوي كمخرج أخفت الكثير من الجمال علي مستوي المضمون وروح الشخصيات الرئيسية، لا سيما وأنه ركز بإحساسه الفطري السليم علي المفارقات ولحظات التحول وأسبابها بالنسبة لكل شخصية معتمدا علي عنصري الموسيقي والإضاءة للوصول إلي أعلي مستوي من الإحساس بها كي يتسني للمشاهد المقارنة بين ما كانت عليه الشخصية وما أصبحت فيه، فضلا عن أن المونتاج قد لعب دورا ايجابيا ايضا في إدراك التفاصيل الدقيقة في الصورة موحيا بكافة الدلالات المؤدية للمعاني، حيث البراعة في تقطيع المشاهد وربطها بتون الصوت وحركة الكدر يفض في النهاية إلي نتائج مرضية لو أن المخرج أفلح في التوفيق بين كل العناصر الجمالية بما يعطي طابعا هارمونيا ويتيح الفرصة لكل الأدوات الفنية أن تعبر عن نفسها باعتبارها مكملة لبعضها البعض.

ألوان السماء السابعة تجربة فنية تؤخذ في الاعتبار بوصفها عملا فنيا يجمع بين متعة الصورة ومتعة الذهن، غير أن الأهم هو تلك الرحلة التي يقطعها الإنسان داخل ذاته ليعيد اكتشافها من جديد ويري نفسه بعين المريد وقلب الصوفي.

القدس العربي في 8 يناير 2008