كتبوا في السينما

 

 
 

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

أرشيف

إبحث في سينماتك

إحصائيات استخدام الموقع

 

فــــورمـــان طــــارحــــاً عـــــلاقـــة الـفــــنّــان بـالـســــلــطـــة والـرقــــابـــة فـي "أشــــبـــاح غــــويـــا" الـعــبـــقــــريـــة الـعــــاجــــزة أمـــــام الـعــقــــيـــدة والـجــــهــل

هوفيك حبشيان     

ليس غويا الذي يصوّره ميلوش فورمان في أحدث أفلامه، بعد نحو ثماني سنوات من صحراء سينمائية قاحلة، عبقرياً يستحق أن يهيمن، مثلما كانت الحال مع بيكاسو او موديلياني أو كليمت، على المساحة الزمنية والجغرافية الكبرى في الفيلم، باعتباره نجماً أو شخصية فوق طبيعية، شاملة الدلالات. غويا هذا (ستيلان سكارسغارد)، رغم اقتحامه ميدان الفن بنبوغ كثير، شبه متعب ولاهث ويقفز من معسكر الى آخر ومنافق وانتهازي، لكنه لا يزال مصمماً على أن يضرب ريشته حيث يجب أن تُضرَب، رغم انحياز الالوان من حوله الى الرماديات الغليظة.

مع كل بشاعة المشهد من حوله، من كنيسة مغتصبة لحقّ الفرد في المعتقد، وغيوم تلبّد سماء اسبانيا، وحكّام طفوليين أبان سقوط الامبراطورية الاسبانية، لا شيء يزعزع ايمان التشكيلي الكبير في تحويل المستحيل الى ممكن، والمقزز الى شيء يغوي البصيرة ويحاكي الحواس. ثبت على ايمانه الخبيث، لكنه بقي متفرجاً، وشاهداً على عصر التحولاّت (نحن في اسبانيا القرن الثامن عشر) وانتقال السلطة من ديكتاتورية الرهبان الى نابوليون. يرى ويقتبس فحسب. يقول ما يريده عبر اللوحة، لكن لسانه يعجز عن التعبير خارج اطار هذه الموهبة. وفي أكثر من مناسبة لا يفلح في بناء جملة مفيدة، بل نراه متمتماً بضع كلمات سطحية. حتى انه يضطر الى الدفاع عن راهب سمج خوفاً على مصلحته، ويخرج من الكادر عندما ينطوي المشهد على راديكالية كثيرة (مشهد تعذيب الراهب وهو الاجمل في الفيلم). وعندما يصاب بالصمم، لا يجعل منه مشكلة، بل يتلقاه كإشارة اخرى الى أن محنة اضافية لن تعود على فنه بالضرر بل على عكس ذلك، علماً انه يحمد الله لأنه ترك له بصيرته التي هي مبرّر وجوده الوحيد.

باختصار، انه نموذج الفنان العاجز عن تغيير العالم بعبقريته. الفنان الذي يدرك حقيقة أن الفنّ لا يغير شيئاً الاّ حياة مبتكره. في هذا المعنى، يأتي شريط فورمان الجديد متصالحاً مع فكرة أن الفنّ اكثر عجزاً من غيره في تحريف الوقائع واعطاء الكائنات مصيراً آخر. فايناس مثلاً (ناتالي بورتمان) ابنة العائلة الغنية التي ستُدخلها محاكم التفتيش المسيحية الى الزنزانة بتهمة اعتناق اليهودية، والتي يقدمها غويا بأبهى صورة في إحدى لوحاته الشهيرة، ستبقى "مادة" تلوين جميلة مطبوعة الى الابد على القماشة، لكن مصيرها خارج اللوحة سيكون مخالفاً لكل التوقعات. وتماشياً مع هذا، لن يكون هناك مشهد حب رومنطيقي بين غويا والفتاة، وهي ستعيش غرامها الوحيد على شكل اغتصاب في تلك السجون القذرة، وستحمل من الراهب لورينزو (خافيير بارديم) الذي تعرض لابتزاز عائلة ايناس بغية إخراجها من الزنزانة. جمالها الآخاذ الذي يقودها الى ان تكون بطلة لوحة، سيكون مدخلها الى جهنم الدين. لا لوحة ولا ألف لوحة تستطيع انقاذها من النار والهرطقة. الفيلم بأكمله يعاين هذه الظاهرة: الفرق بين الواقع والتجسيد المقترح عنه، سواء في التشكيل أو السينما او الفنون الأخرى.

مع هذا الشريط الذي ظلمه النقّاد ونبذه الجمهور والمهرجانات، يستكمل فورمان مساره في إظهار قفا الايديولوجيات وزعزعة قيم الطهارة واقتراح بورتريهات مختلفة لعباقرة لا تسمح لهم قدرتهم بإدراك موهبتهم. انهم أشخاص تتجاوزهم طاقاتهم الابداعية. يخطئ من يقع في فخّ المخرج التشيكي ويعتقد تالياً ان "أشباح غويا" سيرة جديدة للتشكيلي الاسباني تروي على نحو كرونولوجي مفخرة بلاد ثرفانتس. لا نراه يرسم الاّ قليلاً، وهذا جيد. من حياته لن يطلعنا فورمان على شيء مهم، ولن يأتينا الاّ ببعض المعلومات الجانبية التي قد تكون صنيعة خياله وخيال جان - كلود كاريير الذي شاركه كتابة السيناريو (تعاون ثان بعد "فالمون"، 1989) المكوّن من أجزاء خيالية وأخرى مستقاة من وقائع. لكن، لا يهمّ. فالاشباح هنا هي الأهم. والفيلم يحفل بها. أشباح الدين والسياسة على سبيل المثال، تمنع غويا من أن يكون بطلاً للشريط وشخصية أولى في عمل يوزّع اهتماماته على أكثر من جبهة ويظهر عشق فورمان للقرن الثامن عشر. لذا، نحن أمام فيلم يمنعه الاشباح من أن يكون له وجود. نحن أمام فيلم يدمّره الاشباح، لقطة تلو لقطة، وصولاً الى أن يكون شبح فيلم، فلا يبقى منه الاّ شبح غويا الذي نكتشفه رجلاً بنصف امكانات، لكن قدرته على التعبير تبقى في محلّها ثابتة لا تهتز!

ثمة صراع بين ما هو ملموس (الفنّ، الحبّ، الجنس، الحرب، الجسد، الخ) و"فكرة الله" والكائنات التي أخذت رهائن تكريساً لتلك العقيدة. يتجسد ذكاء فورمان في انه يضع شخصياته أمام استحقاقات دنيوية لا دينية: يقع غويا أسير مصالحه مع رجال الدين، ولن يكون الراهب المغتصب وفياً لوعده بأن يبقى تحت أمرة لله، أي ان لا يكون شاهد زور مهما فعلت العذابات في جسده. لكن جسده سيتكلّم بدلاً منه. سيقول انه من سلالة قرود. ومذّاك، سيكون للفيلم مصير آخر...

مع "أشباح غويا"، يغدو فورمان أكثر واقعية مما يبدو. ذلك لأنه يموضع الفنان حيث يجب أن يكون في الواقع: الهامش. يظهر أيضاً عدم قدرة غويا على تكوين رأي واضح مما يدور من حوله، ومصالحه تترجح بين الحاكم والمحكوم، وتنتهي به الحال الى أن يساير الجميع. أكثر من كونه فيلماً عن الكنيسة التي أحرقت جان دارك وغضت الطرف عن المجازر التي قام بها النازيون باليهود، نحن في صحبة فيلم عن الرقابة، وهي الشيء التي طالما حارب فورمان ضده، منذ أن رافق وولفغانغ أماديوس موزار ("أماديوس") الى الضوء، وصولاً الى اهتمامه بالرجل الحالم أندي كوفمان ("رجل على القمر")، مروراً بدعمه للاري فلينت ("الشعب ضد لاري فلينت") وحتى مجموعة هير الراقصة ("هير")، وكيف لنا أن ننسى ماك ميرفي، "ضيف" مستشفى الامراض العقلية في "طيران فوق عش الكوكو"؟

نستشف مرّة أخرى في شريط من توقيع فورمان هذه الرغبة في بلورة سؤال الحرية لدى فنّان. هل هي ضرورية فعلاً للخلق؟ يأتي الجواب على شكل استنتاج: كل هذا الجوّ الخانق الذي أحاط بغويا لا يمنعه من أن يرسم الدنيا كما يراها، تماماً مثلما لم يقدر المحافظون الاميركيون أن يمنعوا لاري فلينت من أن يعرّي النساء في مجلته "هاستلر" الشهيرة ويتصدى للقضاء والحروب والسلطة الدينية. لذا، لا يهتم فورمان بغويا الاّ من هذا القبيل، بعد أن يرى فيه امتداداً للعباقرة الذين لطالما صوّرهم كأناس عاديين، لا بل أكثر عادية من غيرهم.

من العام ينتقل فورمان الى الخاص، ليسدد بعض الحسابات التاريخية (كان في نيّته أظهار أوجه الشبه بين الشيوعية ومحاكم التفتيش التابعة للكنيسة الكاثوليكية) وليري الارتباط الوثيق لمصير الافراد بالسلطتين السياسية والدينية، فتتداخل العقائد وتأتي الانقلابات، ولكل مرحلة رموزها والانتهازيون الذين لا يفوّتون اي فرصة للوصول. الاب لورينزو واحد من هؤلاء، اذ بعد أن تستبعده الكنيسة لأنه "اعترف" بأنه من سلالة قرد، يرحل الى فرنسا ويعود منها مدنياً ومناصراً للثورة الفرنسية!

في شقّه التاريخي، يختار فورمان أسلوب الحكاية الادبية ذات الحبكة، مع كل ما يرافق هذا الاسلوب من احياء بصري صارم وخيارات جمالية لها شأن في جعل عمل غويا يتشابك مع الواقع. الى رومنطيقية السرد، يطعّم المخرج الحوادث ببعض العبثية، كالانتقال المتكرر للسلطة من المهيمِن الى المهيمَن عليه، والعكس، مستخدماً شد الحبال هذا سلاحاً للازدراء والتهكم، فيما هو ينظر الى الاشياء من برجه العاجي. يمكث فورمان حيث يجب ان يبقى كل فنان، متفرجاً على "مسرح الحياة" من دون ان يكون ممثلاً فيه، ليصوّر العبقرية العاجزة أمام سلطة العقيدة الشمولية وجهلها.

(¶) يُعرض في سلسلة صالات "أمپير" و"سينما سيتي".

( hauvick.habechian@annahar.com.lb)  

 

للمزيد من المعلومات عن غويا  اسألوا  كارلوس ساورا!

من التعاون الوثيق بين كارلوس ساورا، وأحد أهم مديري التصوير في تاريخ السينما فيتوريو ستورارو ("الامبراطورية الأخيرة" لبرتولوتشي، 1987) ولد منذ نحو سبعة أعوام فيلم "تانغو"، المكتمل من حيث الجمالية الموجودة في العمل. هذا التعاون المثمر الذي اصبح "ماركة مسجلة" لدى ساورا، يتكرر مع فيلمه "غويا" الذي كما يشير عنوانه، يتمحور على الرسام الإسباني فرانشيسكو غويا، وأيام النفي الأخيرة التي أمضاها في مدينة بوردو الفرنسية، برفقة عشيقته ليوكاديا وابنتهما روزاريتا.

في استعراض بصري يلامس الكمال، يسمح ستورارو لنفسه بالتجرؤ على القيام بإنجازات تقنية لم يسبق لها مثيل، فيروي ساورا صراع هذا الرسام مع مرضه (الصمم)، ويمر بجميع مراحل حياته، حيث لكل مرحلة اضاءتها وأجواؤها وميزاتها البصرية. وهنا يكمن ضعف الشريط وجماله في آن واحد، لأن ما بين خيار الغوص في اعماق الشخصية وخيار إبراز الوجه المأسوي للعمل الإبداعي الذي غالبا ما يدفع صاحبه الى التهور، ينتقل ساورا بسرعة البرق، ليعود ويركز بين مشهد وآخر، على شكل الشريط النرجسي وهو في الواقع مفخرة هذا العمل ومحدوديته، حيث نتابع بكل متعة الهلوسات التي تدور في ذهن هذا الرسام الذي عاش بين 1746 و1828، وذلك بفضل مهارة ساورا في وصف حقبة انحطاط الامبراطورية الاسبانية بأكبر قدر من الاتقان وبحس للتفصيل يعطي الفيلم كل الرونق الذي يستحقّه، مزوداً ايانا كل ما لا يقوله فورمان عن هذا الرسام الذي فضح الكنيسة في "أشباح غويا". 

هـ. ح.

النهار اللبنانية في 8 يناير 2008