كتبوا في السينما

 

 
 

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

أرشيف

إبحث في سينماتك

إحصائيات استخدام الموقع

 

"رجــــل عـــصـــابـــات أمـــيـــركـــيّ" لـريـــــدلـــي ســــكــوت

 الأســـــلـــوب هـــــو الــرجــــل

هوفيك حبشيان

تنهض السينما في طبيعتها على الفرادة والتجاوز. بمعنى أن فيلماً منجزاً في 2007 لريدلي سكوت عن رجل عصابات، يفترض أن يضيف شيئاً الى ما قاله سابقاً عن هذا العالم كلٌّ من كوبولا وسكورسيزي في السبعينات من القرن الفائت وثمانيناته، يوم كانت نيويورك أكثر قسوة وأقل نظافة مما هي اليوم، الشيء الذي يحن اليه كتّاب السيناريو اليوم على غير عادتهم. لا يهتمّ سكوت بالتراكم. على النهج العمودي في العمل السينمائي، يختار الأفقية والتسطيح الايجابي الليّن. يرى أن من الأنسب أن يكون الحرفي اللامع الذي يترك أثراً في الوجدان السينيفيلي، لا أن يكون المفكّر ذا الرسالة الغامضة العصيّة على الفهم والادراك. "رجل عصابات أميركي" لا يقيم وزناً لفكرة العمق والابحار في مجالات الحداثة السينمائية. يعرف سكوت كيف يكون مخرجاً الى أقصى حدّ ويدفع بمهنته الى الذروة! عالمه الصورة أولاً، والكلام عندما يلزم الامر (نظرية هيتشكوك المطبّقة جملة وتفصيلاً)، وهو حافل بالسيميولوجيا وطبقات متعددة من الرصد والتحليل. هكذا، يشقّ سكوت طريقه وحسب. وسط فوضى التكوين السبعينية يبحر، من دون ان يلتفت لا الى الوراء ولا الى ايّ مكان آخر. نتيجة هذا، يأتي الشريط مجرداً، متواضعاً، جافاً، لامبالياً، مقتصداً من طاقاته الابهارية، فاعلاً، وجاداً. هناك رغبة جامحة من جانبه للذهاب نحو صلب الموضوع: تصوير العظمة والإنحطاط لدى شخصيات صلبة صنعت أميركا الحديثة، ومن ادائها ولدت ميثولوجيا الدولة العظمى. نماذج فولاذية كان من شأن عملية الاحتكاك بعضها بالبعض أن تحدث شرارة وتؤجج ناراً، لكن سكوت يعمل على نقيض ذلك.

من دون الانصياع لمنطق درامي يرمي أولاً وأخيراً الى توليد الانفعالات لدى المُشاهد، يعيد المخرج الانكليزي الاصل صناعة ما فعله سابقاً في "مُصارع"، بيد ان الامبراطورية الرومانية، على عظمتها وانحطاطها، تستبدل هنا بالامبراطورية الاميركية، وتجارة الرقيق تتحول تجارة للمخدرات في حين أن الجنود الاميركيين يعودون من فيتنام في نعوش! لكن، أكثر من هذا كله، يرتكز مشروع سكوت الاكبر على تعرية الشخصيات وأظهار أوجه الشبه بين مَن يقف على هذا الجانب من العدالة ومَن يقف في الجهة الأخرى. بين مَن يهرب من وجه العدالة تحت شعار تأمين حياة أفضل لمحيطه، وبين مَن لا يرى في الناس الاّ طريدة لتحقيق العدالة و... الذات أيضاً. يستفيد سكوت من صراعهما ليظهر كم أن الخيط رفيع بينهما. مرّةً أخرى تتطرّق السينما الى هذا المزيج من الكاراكتيرات المتناقضة والمتشابهة في آن واحد.  

بعد أسياد الحرفة والفن من أمثال سكورسيزي وكوبولا وتشيمينو وفريدكين ودو بالما، وقع هذا الجانر السينمائي (فيلم المافيوزيين والعصابات) في قبضة مجموعة غير موهوبة أحياناً أوصلت الجانر الى حافة الانهيار والتكرار السمج. شريط سكوت لا يبلغ مرتبة جديدة من فيلم الجريمة المنظمة. هو بلا شكّ بعيد عن عبقرية كروننبرغ الذي تجلّت أخيراً في "وعود شرقية" (في صالاتنا قريباً) لكن سمته الاساسية أن كلاً من الناقد والمُشاهد العادي يجد فيه ما يمتعه من فكر واثارة، وذلك بحكاية أميركية تنتهي بأن تكون بورتريهاً للحلم الاميركي الذي طارد الكثيرين في الماضي، ولا يزال يطارد الكثيرين اليوم، قبل أن يأتي مخرج مثل سكوت ليدرس ميكانيزماته، لكن من زاوية جديدة مفصلة هذه المرّة على قياس المخرج وإمكاناته الذهنية. سواء أكانوا تجار مخدرّات أم جنوداً في أدغال فيتنام أم باحثن عن عدالة اجتماعية، فهؤلاء لا يسعون الاّ عن ظروف أفضل للعيش.

في بيئة مدينية، يصوّر سكوت مصير فرانك لوكاس غير الاعتيادي (دانزل واشنطن في أداء أوسكاري يخطف الانفاس ويشيع القلق أينما حلّ)، الذي يتحوّل من موظف صغير تحت امرة أحد رجال العصابات في منطقة هارلم ذات الغالبية السوداء، الى أحد كبار تجار المخدرات، وذلك بعد موت معلّمه. يذهب لوكاس الى فيتنام في ذروة الحرب الاميركية المشتعلة، مستفيداً من حيازته مبلغاً جيداً من المال، ليعود الى نيويورك بكميات كبيرة من الهيرويين الابيض الناصع، فاتحاً عصراً جديداً من المنافسة الشرسة بينه وبين الآخرين. لكن سعر بضاعته أرخص ونوعيتها أكثر جودة من غيرها. بهذه التجارة المربحة ينافس الايطاليين حتى، لكن يعمل ويقتل ويستورد من دون ادنى احساس بالذنب، وببرودة أعصاب، وحدهم المجرمون الكبار يملكون مثلها. ثمة مشهد جميل يعبّر عن هذا، هو حيث نراه يقتل شرطياً في وضح النهار، قبل أن يعود الى الطاولة حيث كان صبحة أشقائه، ويكمل جملة كانت ظلّت مقطوعة في وسطها. الأهمّ أنه يعرف كيف يكون "لامرئياً"، كيف يكون أباً لجماعته، أي أن يبقى منزوياً في مكانه، خشية أن يلفت الأنظار.

يخوض لوكاس صراعات هادئة مع المنافسين والفاسدين من رجال الشرطة، ومع أجهزة المخابرات الفيديرالية والمركزية، ومع كل "السيستيم" الأميركي المتواطئ معه، وكان ينتصر في كل مرّة بحنكته وذكائه وصلابة ارادته وتصميمه على البقاء. لكن القدر لن يكون رحوماً، بحيث أنه سينهي حياته في الفضيحة والاستبعاد والسجن، وهذا كله سببه أنه سيقبل ارتداء معطف الفرو الذي تهديه اليه زوجته. فهذا المعطف المشؤوم الذي يلفت أكثر مما يجب (لشكله الـ"نوفو ريش" المرعب)، ستلحظ غرابته أولاً أعيننا نحن المشاهدين فنتلقاه كجسم غريب على الشاشة، ثم إحدى الشخصيات في الفيلم، ثم بعض الذين لا يريدون الخير للوكاس وزوجته. ختاماً، ستصل "الهدية المفخخة" كمؤشر ثمين الى أحد أشرس مكافحي المخدرات في نيويورك وأكثرهم نزاهة (راسل كرو) الذي سيكتشف على أثره أن أكبر تجّار المخدرات ليس أيطالياً ولا روسياً بل هو أميركي من أصل أفريقي. نعتقد عندئذ أن المواجهة ستكون شرسة بين الرجلين، على طريقة "حرارة" لمايكل مان، لكن سكوت يخذلنا هنا برفضه اي منحى استعراضي، وباستخدام أقل مبلغ من الموارد السينمائية، رغم أنه يلتزم أحد أهم الدروس في السينما، وهو ايجاد عدوّ يليق بعظمة البطل. أمّا السيناريو الواضح تماماً والذي وقعه ستيفان زاليان، فله فضل كبير في منح الفيلم بعض الابعاد الدينية (مشهد الكنيسة التي يخرج منها لوكاس ليجد الشرطة في انتظاره). واضح أن ثمة أفكاراً تراقصت تحت أنامل أحد أكثر كتّاب السيناريو الهوليووديين نجومية، قبل أن تجد طريقها الى الشاشة، وأهمّها أن البطلين لن يكونا معاً في الاطار نفسه الاّ حين يشارف الفيلم نهايته.       

يصبح "رجل عصابات أميركي" نموذجاً للفيلم الذي يبتعد عن الخطاب السياسي السليم والمفيد والاصيل والمطلوب شعبياً وجماهيرياً، متعقباً خطى شخصيات أجرامية اسطورية، في طليعتها سكارفايس، ذاهباً وراء حاجة أصلية لمعاينة المجتمع الاميركي في أحد أهم المنعطفات التي شهدها، في خضم تفكك الغيتوهات لصالح نظام اجتماعي جديد يقع في نزاع بين الخير والشرّ. هذا الخطاب الاخلاقي الذي تخيّم ظلاله على تسعين في المئة من الافلام الهوليوودية ليس موجوداً في فيلم سكوت، لأن هذا الفيلم يساوي، في الشكليّات على الاقل، بين رجل العصابات والشرطي. الاوّل ينجح في ادارة شؤونه العائلية، والثاني في شؤون البلاد.

أخذ كثيرون على سكوت تحويل العنف الى بريق يغوي المراهقين ويستأثر بالمشاهدين الأقل ثقافة ووعياً. لكن المنتقدين ينسون أن الفيلم اقتباس من رواية صحافية. أما كيفية وضع الكاميرا وانتقاء الزوايا الملائمة لأسطرة لوكاس وغيره من رجال العصابات، فشأن سينمائي وجمالي صرف، لا نتصوّر نقيضه البتة. الشرطي كان أباً غائباً عن التزاماته العائلية، وكلنا نعلم موقع العائلة في الثقافة الاميركية. واذا كانت قيم رجل العصابات ذات الصلة بالعائلة أكثر متانة من قيم الشرطي، فهذه من المصادفات الجميلة والخلاّقة التي تجعل الفيلم أكثر من مجرّد مراقبة متأنية للواقع الاميركي.

على صعيد آخر، يتميّز شريط سكوت بجملة إغراءات بصرية، وأشير خصوصاً الى الحس التوليفي الذي يجعل مجمل العمل قنبلة موقوتة لا نعرف متى تنفجر، كاشفةً ما يخفيه ستار الكومبينات والمؤامرات والدسائس. لكن الاغراءات لا تتجاوز حدود المعقول، بل هي هنا لتذكيرنا ببعض كلاسيكيات هذا النوع (ولا سيّما "العرّاب"). هناك أيضاً اعادة إحياء دقيقة لحقبة، لكن أكثر ما ينجح فيه سكوت هو امتناعه المدوّي عن الحاجة الى الابهار السهل (حتى في صورة هاري سافيديس التي تكسر الجمالية المنقحة والنظيفة لأفلام السلسلة) في فيلم كان يتحمّل قدراً أكبر من ضربات المسرح المقترنة بالاسلوب الهوليوودي في رفع معدل الادرينالين لأبسط الاسباب. لكن جلّ ما يريده سكوت مع "رجال عصابات أميركي" هو أن يثبت أن الاسلوب هو  فعلاً الرجل، أكان في اداء لوكاس المافيوي أم في أدائه هو، باعتباره سينمائيّ التوقعّات كافة.

(¶) يُعرض في سلسلة صالات "أمپير" و"سينماسيتي" و"أ ب ث"

هوفيك حبشيان     

(hauvick.habechian@annahar.com.lb)

 

سينما الف تحفة وتحفة

"غرفة الابن" لناني موريتي (2001)

هوفيك حبشيان

الظروف المتسببة بكل نهاية للحياة يمكنها ان يختلف بعضها عن بعض، لكن الموت يبقى واحدا، مقلقا، متعذر الفهم، مؤلما، وخصوصا فاتحا للآفاق بالنسبة الى السينمائي الايطالي ناني موريتي، كي يصور فيلما عن اضطراب عائلة تحاول المقاومة من اجل العيش في ظل الغياب الصادم لأحد افرادها، عبر تصوير الموت الذي يأتي ليقلب السعادة اليومية، وليوقف مرور الزمن ويحدث شرخاً في حياة اسرة.

في "غرفة الابن"، رغب موريتي بتصوير خفايا الحلم الايطالي، حلم بورجوازي صغير، مستخدماً النبرة الدرامية، بل حتى التراجيدية التي قلما ارتسمت في معالم سجله السينمائي الذي ولد من السخرية والتهكم، ومحتفظا في الحين نفسه، بالقريحة السينمائية. موريتي، النرجسي والاستبدادي، سائق الـ"فيسبا"، المعجب بنظيره الراحل الكبير بيار - باولو بازوليني، المحتج على سياسة سيلفيو برلسكوني، تخلى مدة وجيزة عن بشاشته المفعمة بالانانية، ومحورها سيرته الذاتية التي شكلت خصائص سينماه، كي يضع نفسه في دور اب يستسلم لنوع من الالم التلقيني، اثر فقدانه لابنه، في ميلودراما ذات هواجس تراجيدية ترتعب عند سماع عبارة: "... هذا الموت الذي يطوف في الانحاء".

فالموت كما تفهمه سينما المؤلفين، محاولة لقبول المأساة الكبرى، ولكل اسلوبه الخاص في تجاوز المحنة. لكن من اجل التوصل الى مثل هذين الصفاء والحكمة ينبغي الاستسلام لهذه الحقيقة المطلقة التي تتحكم بمصير كل كائن حي، برغم ان هذه الممارسة تتطلب منا فعل المستحيل. اما المُشاهد الذي يتأثر بالمشاعر، فينقاد الى رحلة داخلية الى اقاصي حدود المعاناة الانسانية، حيث عذاب الضمير يفوق شتى انواع العذابات وعدم القدرة. فحيال الموت لا يستطيع أحد أن يفعل شيئاً. ذلك لأن الظلمة تمنع المرء من ان يرى بوضوح، بعدما انطفأت الشمعة التي كانت تنير دربه.

الافلام التي تجعل الموت قضيتها، ترتكز على الصمت اكثر منها على الكلمة، لان للكتمان قدرة كبرى على البوح. لموريتي الفضل الكبير في تصوير الموت كحالة انتشال وشرخ وسلب. وبئس المصالحة معه عندما تدق الساعة في اللحظة غير المناسبة. ولأن التمرد حقّ، خبت بهجة الحياة تدريجياً، في حين تلقت الصلابة العائلية ضربة قاضية. هذه الحال تفضي بالجميع الى حالة قطيعة دائمة مع الشفاء من المصيبة التي ألمّت بهم، ولن تعثر العائلة على عزاء لها في أي جانب آخر الاّ في التمزق والرفض.

النهار اللبنانية في 3 يناير 2008