كتبوا في السينما

 

 
 

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

أرشيف

إبحث في سينماتك

إحصائيات استخدام الموقع

 

الكيانات السينمائية الكبرى في مصر بعد الخصخة

بقلم: رانية عقلة حداد

غالبا ما يبحث النقاد والمهتمون في مجال السينما في عالمنا العربي بجمالياتها، وأهميتها، وتأثيرها كفن -سمعي بصري - في ثقافة المجتمع، وبالمثل تأثير المجتمع فيها، والمدى الذي تنجح فيه كأداة معرفية في ان تقود المجتمع إلى التغيير. ولكن الدراسات التي تتناول السينما كصناعة قليلة جدا … لربما لأننا لا نستطيع ان نقول باننا نمتلك عربيا صناعة سينما - باستثناء مصر بالطبع - ليس سوى حالات فردية هنا وهناك، ولاننا للان لم نلتفت لاهمية امتلاك واستثمار هذه الصناعة؛ اقتصاديا وثقافيا. من هنا تأتي أهمية هذه الدراسة التي قام بها مدير الانتاج والباحث المصري (محمد خضر) والمنشورة في سلسلة دفاتر أكاديمية الفنون المصرية، حيث تتناول الواقع الاقتصادي والتشريعي لصناعة السينما في مصر والولوج إلى الكيانات السينمائية الكبرى فيها وتحليل بنيتها الاقتصادية في ظل الخصخصة.

السينما صناعة وفن … لكن هناك تشابك في التفاصيل بينهما يجعل فهم الجانب الاقتصادي شديد الصعوبة، لذلك ومنذ البدأية يبرم الباحث اتفاقا مع القارئ بفك ارتباط مؤقتا بين الفن والاقتصاد… للوقوف على الحقيقة الاقتصادية وفهم أمور هذه الصناعة بمعأيير اقتصادية علمية فيقول" سنفعل ذلك رغم ادراكنا التام اننا نبحث في قطاع اقتصادي عنوانه الاكبر الفن، ويؤرخ بمدى روعته الفنية".

أي باحث يرغب في دراسة موضوع في مرحلة ما، لابد له ان يعود الى التاريخ المتعلق به والى بدأياته، ومن هنا بدأ محمد خضر دراسته من (فترة الرواج الاقتصادي للسينما المصرية … منذ الثلاثينات حتى اواخر الستينات)، حيث هناك عدة عوامل ساعدت على هذا الرواج؛ فتميزت هذه الفترة بالمناخ العام السائد الذي كان يمور بالثورات سواء السياسية أو المعرفية (ثقافيا وفنيا)، بالاضافة الى الازدهار الاقتصادي - ولا ننسى هنا الدور الكبير الذي لعبه الاقتصادي طلعت حرب - كل هذه الامور واكثر ساهمت في رواج وتطور صناعة السينما، بالاضافة الى المام صُناع السينما برغبات الجمهور، والاهتمام بعناصر الجذب الجماهيرية المتنوعة، مما ادى الى تزأيد عدد دور العرض، واتساع نطاق توزيع الافلام داخليا وخارجيا، وتضخم حجم أيرادات الافلام، وعوائد مالية مناسبة على اموالهم المستثمرة.

بالاضافة الى انه حتى مطلع الستينات كان نظام السوق بما يتيحه من مرونة وحيوية، هو الذي يحكم هذه الصناعة وساهم في رواجها قبل ان تتولى الدولة جزءا من هذه الصناعة، بانشاء المؤسسة العامة للسينما.

وهنا يجدر الاهتمام بما يشير اليه الباحث " ان هذه الصناعة كانت تحتل المرتبة الثانية في صادرات مصر الى الخارج بعد القطن مباشرة قبل يوليو 1952 حتى وصلت عام 1992 الى أقل من 1% بالنسبة لقيمة الصادرات الصناعية الاجمالية"، وهذا مثال لما يمكن ان تقدمه السينما كصناعة ان أُحسن استثمارها.

يقف محمد خضر في مبحثه الثاني (سياسة الخصخصة) على مفهوم الخصخصة والاسباب التي تقف خلف اتباع هذه السياسة في بلدان العالم المتقدم، ومقارنتها مع الاسباب الموجبة لها في مصر، ليلمس الاختلافات بينهما ومواطن الخطر في اتباع هذه السياسة في مصر حيث فرضتها ضغوط الدول الدائنة وصندوق النقد الدولي.

ويقرأ في مبحثه الثالث واقع السينما المصرية في اطار سياسة الاقتصاد الحر، والعمل بآليات السوق، واتباع برنامج الخصخصة، وظهور الكيانات الكبرى، حيث نشأت السينما المصرية في ظل اقتصاد حر باستثناء ثماني سنوات (1963-1971) هي الفترة التي تم تأميم جزء من صناعة السينما، والتي كان لها الاثر الأيجابي في مجال الانتاج ونوعية الافلام، لكنها على مستوى الصناعة لم ترقَ للمستوى المطلوب وسجلت تراجعا، الى ان عادت سياسة السوق الحر، فتحسن واقع الحال بشكل كبير خاصة في مجال بما يسمى الاصول (الاستوديوهات، ودور العرض) تم تطويرها لتصبح نقطة جذب للاستثمارات وخاصة الكيانات الاقتصادية.

الكبرى، والكيان هو عبارة عن مجموعة شركات فردية مستقلة ذات قدرة مالية ضخمة، غالبا ما تكون ناتجة عن اندماج اختياري بغرض ضغط التكاليف وزيادة الكفاءة والقدرة على المنافسة على نطاق واسع، ومن هنا يستكمل الباحث تحليل نموذجين للكيانات الاقتصادية الكبرى والتي نشأت مع بدأية الالفية في مصر: جهاز السينما التابع لمدينة الانتاج الاعلامي، والشركة العربية للانتاج والتوزيع، حيث يلعب كل منهما دورا كبيرا ومسيطرا في صناعة السينما. فيعرض الباحث بشكل تفصيلي مجموعة الشركات المؤسسة لكل كيان، رأس مال كل منها والمبالغ المرصودة للتحديث، الاصول التي تمتلكها (استوديوهات، معامل، دور عرض…)، البرامج المستقبلية التي تضعها للانتاج والتوزيع والتسويق، ونوعية الافلام المنتجة او التي يتم توزيعها، ومن ثم يخلص بعد المقارنة والتحليل الى ملاحظاته؛ السلبيات والأيجابيات لكل منها.

حيث للتشريعات دور كبير في تنظيم امور صناعة السينما وتطويرها، لم يغفل محمد خضر في مبحثه الاخير عن استعراض تطور التشريعات المنظمة لهذه الصناعة في مصر ما لهذه التشريعات وما عليها، حيث بعض هذه التشريعات القائمة، أو المعدلة، او المستحدثة ساهمت في تراجع هذه الصناعة.

يبث الباحث الينا بين ثنأيا دراسته بعض الاسئلة للتفكير:

هل ازمة السنما في مصر هي ازمة فنية ( ازمة نصوص، نجوم…) ام انها ازمة كيفية دراسة الازمة، وأزمة التعامل بسطحية مع الجانب الاقتصادي؟

ما هي الاثار المترتبة على ظهور الكيانات الاقتصادية الكبرى في صناعة السينما سواء من ناحية الصناعة او السوق؟ وهل هناك اهتمام فعلي في تحليل بنية هذه الكيانات الاقتصادية العملاقة، ومعرفة الى أين تسير؟

هل تمتلك هذه الكيانات رؤية واضحة وتخطيط واعي؟

هل حققت الخصخصة في هذا المجال الامال المرجوة من حيث جودة المنتج والتنافسية؟ هل تمكنت من التكامل مع الكيانات الصغيرة، ام ان كفة الاحتكار هي التي رجحت فاصبحت مجموعة صغيرة تحكم السوق بشروطها؟

هذه الاسئلة واكثر لكن في النهأية تضع اكاديمية الفنون في مصر هذا البحث بين أيدينا كمادة جديرة بالقراءة والمناقشة، حيث من المفيد الاطلاع على تجربة مثل هذه وان كنا لا نملك للان في الاردن صناعة سينما، ولكن بما ان هناك توجه نحو الاستثمارات، فلماذا لأيتم الالتفات لهذا النوع من الاستثمار؟ على ان لا يكون ذلك بمعزل عن المشروع الثقافي.

موقع "ديوان العرب" في 6 ديسمبر 2007

 

المغامرة

مغامرتنا في اكتشاف أعماق إنسان العصر الحديث

بقلم: رانية عقلة حداد 

هناك أفلام شكلت علامات مميزه في تاريخ السينما العالمية؛ للتجديد الذي أحدثته على مستوى اللغة السينمائية، أو بالطريقة التي تقدم فيها الشخصيات، او معالجة الموضوع …، منها فيلم "المغامرة" للمخرج الايطالي مايكل انجلو انطونيوني الذي رحل عن عالمنا قبل أشهر قليلة.

نشأ أنطونيوني في حضن الواقعية الجديدة الايطالية التي كان روسلليني ودي سيكا من أهم روادها في منتصف الاربعينات، والتي شكلت نقطة انعطاف وثورة سينمائية على مستوى الشكل والمضمون؛ فخرجت الكاميرا الى الشارع بعيدا عن الاستوديوهات لتلامس نبض العامة والحقيقة، استعانت بممثلين غير محترفين، واغلب شخصياتها من الفلاحين، او الصيادين، او العمال ثيماتها السائدة؛ الفاشية، والحرب، والاحتلال الالماني، والفقر، والبطالة. ليأتي جيل الموجة الثانية - وانطونيوني كاحد روادها - حيث ساهم افرادها في النهضة السينمائية في مطلع الستينات، لم يبتكروا صيغة جديدة -كما يقول جى آنبال - التزموا بالواقعية ولكن بروح نقدية أكثر خشونة فسميت ب (الواقعية الجديدة النقدية)؛ فرصدت كاميرا بعضهم الطبقة البرجوازية، وسجلت انتقادها لكن باسلوب مختلف، عارضة سخافة وضحالة تلك الطبقة، حيث الفراغ، والسأم بعض الثيمات السائدة التي تطغى على افرادها، الذين اما هم رجال اعمال، او سيدات المجتمع الراقي، او مدعي الفن والثقافة، فتعرض لحياتهم وما يشغل اهتمامهم من رحلاتهم او حفلاتهم الصاخبة … كما في فيلم فيلليني "الحياة حلوة" انتاج 1960، وفيلم "المغامرة" لانطونيوني انتاج 1960

(المغامرة) لم يكن الفيلم الاول لانطونيوني، لكنه الفيلم الذي منحه شهرة عالمية، وشكل علامة فارقة سواء في تاريخ السينما، او في مسيرته الفنية، رغم الرفض والسخرية التي استُقبل بهما جماهيريا في عرضه الاول في مهرجان (كان)، الا ان لجنة تحكيم المهرجان قرأت فيه ما يمكن تسميته بالحداثة السينمائية، فمنحته جائزة لجنة التحكيم الخاصة، وفيما بعد استعاد الفيلم مكانته جماهيريا على مستوى شباك التذاكر، تبعه في ذلك باقي اجزاء هذه الثلاثية (الليلة)1961، و(الكسوف)1962.

يتناول الفيلم مجموعة اصدقاء من اثرياء ايطاليا يذهبون في رحلة بحرية الى جزيرة بركانية في البحر المتوسط، أحدهم آنا(ليا ماساري) الشخصية الرئيسية كما تبدو، اذ يفتتح الفيلم على لحظة خروجها من المنزل استعدادا للذهاب الى الرحلة، ترافقها صديقتها كلوديا (مونيكا فيتي)، ثم تمر آنا بحبيبها ساندرو (جابريل فيرزيتي)، لينضموا جميعا الى باقي الاصدقاء المترفين على متن اليخت. قبل مغادرتهم الجزيرة يكتشفوا اختفاء آنا، فيبدأ الجميع بالبحث، ثم شيء ما يحدث اثناء البحث عنها؛ ساندرو حبيب آنا يبادر كلوديا صديقة آنا بقبلة، وما تلبث ان تتطور العلاقة بينهما الى حب، في ذات الوقت الذي يواصلان فيه البحث عن آنا بعد مغادرتهما الجزيرة لكن دون جدوى، لتتحول ابصارنا عن اختفاء آنا الى هذه العلاقة التي تنتهي بخيانة ساندرو لها كما خان آنا معها.

توحي الاحداث منذ بداية الفيلم بانها ستذهب باتجاه البحث عن آنا وازالة غموض اختفائها، ربما هذه هي المغامرة، لكن ما ان تتطور العلاقة بين ساندرو وكلوديا حتى يدعنا انطونيوني نتابع سيرها، وننسى آنا ويبقى سر اختفائها مجهولا.

إذن اين تكمن المغامرة إذا لم تكن في اكتشاف الجزيرة وخوض تجارب مثيرة هناك، او في كشف سر اختفاء البطلة ؟ إنها مغامرة انطونيوني ومغامرتنا معه في اكتشاف اعماق النفس البشرية، والمشاعر الداخلية الخفية؛ فشخصيات الفيلم تجتمع لتشكل معا ملامح صورة انسان العالم الحديث، انسان تلك الطبقة البرجوازية المترفة الغني ماديا، ولكنه الخاوي روحيا، وعاطفيا، وثقافيا، الذي تغيب عنه القيم العليا فتتوه بوصلته الاخلاقية.

وهذا الانسان لا يستطيع ان يدخل في علاقات انسانية عميقة ومنها الحب، فتغدو كل علاقاته عابرة وجل اهتمامه ينصب في ملء الفراغ الذي يعيشه، فهو غير مكترث لما يحدث حوله ليست هناك اهداف نبيلة يدافع عنها، فالكل غارق في عالمه وفي ملذاته، وحينها تصبح الخيانة حدثا عاديا وطبيعيا، ويصبح السأم، الوحدة، والفراغ، وصعوبة التواصل هي ثيمات هذا الانسان، وتجد معادلها البصري عند انطونيوني من خلال الايقاع البطيء، وعدم الاحساس بالزمن؛ كم يمرور من الوقت بين مشهد وآخر، بالاضافة الى اللقطات البعيدة جدا التي يظهر فيها الاشخاص غارقين في محيطهم في الطبيعة او بين البنايات، كذلك في الاستعارة المعنوية للجزيرة البركانية الخامدة بما توحي من عزلة وجدب، بالاضافة لقسوة وخشونة الصخور التي شكلت مع الامواج المتلاطمة خلفية الشخصيات معادل بصري آخر يعكس ذواتهم.

كاميرا انطونيوني تروي

من هي تلك الشخصيات ؟ نحن لا نسمع مونولوجها الداخلي حتى نعرف كيف تفكر، اذ انها مضاءة من الخارج فقط من خلال افعالها، والتي حتى هذه تكاد لا تكون مفهومة، ولكن يمكن التنبوء بها احيانا، بخلاف ما يعتقد البعض في قراءتهم للفيلم.

نعم نحن لا نعرف ماذا كان يدور في رأس آنا عندما اختفت، هل كان اختفاؤها طوعيا؟ هل قررت نبذ تلك الحياة المترفة الخاوية، لذا غادرت فجأة؛ لتبحث عن حياة اخرى فيها معنى وهدف؟ ولكن يمكن التنبوء ببعض الاحداث. في عالم الرواية تظهر احيانا شخصية الراوي الذي يتوارى خلف الكلمات لكن صوته يُسمع بوضوح، ويعلن عن وجوده بشكل جلي، انه الراوي العالم بكل شي بما يخص الشخصيات والاحداث، والذي انتقل الى السينما كاحد التقنيات التي اكتسبتها السينما من الفنون الاخرى، لكن مع انطونيوني انتقل الراوي من موقعه المألوف كصوت قادم من خارج الكادر الى الصورة- الكاميرا:

في كثير من الاحيان سبقت الكاميرا الشخصيات الى الاماكن؛ كما سبقت كلوديا وجوليا في الممر قبل ان تدخلانه، بمعنى الكاميرا هي الراوي العالم بخطوات الشخصيات مسبقا ويعلمنا بذلك، والمعرفة المسبقة بالاحداث تُقرأ على ان الشخصيات اسيرة قدرها الذي لا يمكن الفرار منه.

كما ان (الكاميرا - الراوي) انبأت منذ الدقائق الاولى للفيلم قبيل المغادره الى الرحلة بان كلوديا ستحتل مكان آنا في العلاقة مع ساندرو - الامر الذي سندركه لاحقا - وذلك في المشهد الذي تقف فيه كلوديا - وهي تتوسط الكادر - على شرفة الطابق اسفل نافذه غرفة ساندرو حيث كان هو وآنا يمارسان الحب، الكاميرا من زاوية منخفضة ترصد كلوديا وهي تنظر الى الاعلى حيث النافذه ( الهدف)، ثم نشاهدها من الزاوية المقابلة في لقطة متوسطة وخلفيتها تحاكي لقطة سابقة بقليل ل آنا وهي تقف عند النافذه؛ حيث في الخلفية نرى الجسر ذو الاقواس والنهر الجاري من اسفله بصوت مسموع بما يوحي بالميل الجنسي الذي سيأخذ كلوديا مكان آنا في العلاقة مع ساندرو. هذه أحدى السمات التي تميز اسلوب انطونيوني علاوة على التكوين في الصورة وبالذات المشهد الختامي، والذي يتعذر علينا الحديث عنه في هذه العجالة.

إرادة الحياة تعلو على المرض

أنطونيوني الذي توفي في 30 تموز 2007 عن عمر يناهز 95 سنة، كان قد بدأ حياته المهنية كصحفي في جريدة محلية، ثم ناقد سينمائي في الجريدة الفاشية الرسمية للافلام، بعدها درس الاخراج السينمائي في المعهد، وبدأ بعمل افلام قصيرة، الى ان اخرج اول افلامه الروائية (تاريخ حب)1950، بعدها عمل مجموعة افلام مميزة منها الثلاثية السالفة الذكر، و(الصحراء الحمراء)1964، مرورا بالاعمال الناطقة بالانجليزية التي انتجتها هوليوود، وتم تصويرها خارج ايطاليا: (انفجار)1966، (نقطة زبراسكي)1970، (المسافر) 1975، وصولا الى اخر افلامه (ايروس) 2004، والذي هو احد مجموعة الافلام التي انجزها انطونيوني وهو على الكرسي المتحرك… حيث ارادة الحياة تعلو على المرض، وقد تم منحه عام 1995جائزة اوسكار عن مجمل اعماله تكريما له.

موقع "ديوان العرب" في 29 نوفمبر 2007

 

البحر في الداخل

توق الروح إلى مرفأ حريتها

بقلم: رانية عقلة حداد 

راحت تعلو … تعلو وتعلو، تلك الموجة المشبعة بالتمرد، كيف للمرء ان يصمد أمام امتحان إغوائها … أمام شهوة احتضانها، وخوض غمارها، لم يقوَ رامون سامبيدرو بطل فيلم (البحر في الداخل) على شيء سوى الاستسلام لأعماقها … هل راح يسكن الموجة، كما لو أنها الحياة كلها، أو أنها الحب الرابض على مقربة منه فقرر الغوص فيها؟ أم ان الموجة هي التي كانت تسكنه؟

لكن ما كادت تلك الموجة تصل أقصاها حتى ان غمرها حنين الى جذورها… فانحسرت. ما كان له أن يغفل عن طيشها الذي كلفه كثيرا، كُسر عنقه فأصيب بشلل رباعي الأطراف … لا شيئا يتحرك منه، ولا جزءا تبعث فيه الحياة سوى رأسه.

هذا الحادث ألزم رامون ( خافير بارديم) الفراش، وهو في ريعان شبابه على امتداد ثلاثة عقود تقريبا، لم يرضَ يوما خلالها أن يستخدم الكرسي المتحرك لان القبول به - من وجهة نظره - كالقبول بفتات الحرية التي خسرها.

الفيلم مأخوذ عن قصة شخصية إسبانية حقيقية هزت المجتمع لفترة من الزمن، حيث أبقى (أليخاندرو امينابار) مخرج الفيلم على نفس اسم الشخصية رامون سامبيدرو مع إخفاء أسماء بعض الشخصيات الحقيقية الأخرى، وتغيير قليل في القصة فجعل منه الفيلم شاعرا مثلا … مما منح الفيلم بعدا شاعريا وفلسفيا تأمليا، ورامون في الواقع كما في الفيلم خاض نضالا طويلا في إسبانيا من أجل الحصول على حق إنهاء حياته… على حق الموت الرحيم … وتغيير القوانين الخاصة بهذا الشأن ونظرة المجتمع نحوها.

"لا يحيا ولم يقدر عليه الموت " ربما هذا المقطع الشعري لقاسم حداد، هو الأكثر قدرة على ملامسة وجع رامون، لم يكن الحب ما ينقصه، اذ كان مغمورا بحب ورعاية أفراد أسرته ( والده، وزوجة أخيه، وأخوه الأكبر، وابنهما الشاب)، إنما الحياة بكل ما تمتلكه من إمكان هي تماما ما كان ينقصه؛ الحياة تكافئ الحرية… تكافئ قدرته على الحركة … على الإحساس … على الحب … على التحليق، بالحد الأدنى الاستمتاع بملمس الأشياء وقدرته على خدمة ذاته، لكن ماذا يفعل وقد امتنعت عنه الحياة ؟ فعاش محروما والى الأبد من أي إمكان، إذا ليس سوى الموت وحده القادر على منحه الحرية، ولكن حتى هذا الآخر قد امتنع عنه أيضا، فلا هو يقوى بمفرده على نيله، ولا حب الآخرين قدم له هذه الفرصة.

كانت خينيه المسؤولة في منظمة الموت بكرامة، والتي تقدم كل الدعم المعنوي والقانوني اللازم لرامون، قد نسقت حضور المحامية جوليا التي تبرعت للدفاع عن قضيته، ولم يأتِ ذلك عبثا فهي مصابة بمرض خطير بدأ يقودها الى العجز التام واستخدام الكرسي المتحرك، الأمر الذي يفسر تفهمها واهتمامها بالقضية، وراحت تقضي الوقت كله مع رامون وتتعرف على تفاصيل حياته وتصغي الى ماضيه كي تساعده.

لماذا اخترت الموت ؟ هكذا بادرت جوليا بسؤال رامون فأجابها بما يلخص رؤيته " أريد أن أموت لان الحياة في هذه الحالة خالية من الكرامة"، ويستطرد " أعرف ان مشلولين آخرين مثلي قد يجرحون من قولي بانعدام الكرامة… ولكني لا أحاول الحكم على أحد، ومن أنا لأحكم على الذين يختارون الحياة ؟ لذا لا تحكمي علي أو على أي شخص يريد مساعدتي على الموت".

من المهم جدا أن نفهم جيدا مطلب رامون على انه مطلب شخصي، وغير عام فهو لا يتكلم باسم جميع من يشاركه المرض، وإنما باسمه الشخصي، والدعوة التي يقودها ومن خلفه منظمة الموت بكرامة، ليست دعوة للموت كما قد يختلط على البعض، وإنما دعوة للدفاع عن حق الإنسان بحرية الاختيار، سواء رغب باختيار الحياة أو الموت … وعلينا أن نحترم كليهما، قد يلتبس على البعض فهم هذا لكن الفيلم بمجمله يدعو للحياة من جهة، والحق بحرية الاختيار من جهة أخرى… ونلمس الدعوة الى الحياة بوضوح في عدة مشاهد منها المشهد الذي تضع فيه خينيه بطنها على أذن رامون كي يسمع نبض جنينها… نبض الحياة ،وتدعوه ان يعدل عن الموت كي يبقى حيا، فيخبر طفلها القادم عندما يكبر لماذا منحته اسم رامون. كذلك المشهد الختامي بالفيلم حيث تنسحب الكاميرا عن جوليا وقد اشتد عليها المرض، فأصبحت عاجزة وفاقدة لذاكرتها الى خينيه وزوجها وطفلهما يلعبون ويحتفون بالحياة معا.

لا يقف الفيلم عند نموذج رامون الخاص، وإنما يقدم أيضا نماذج أخرى، مصابة بذات المرض، أو بعجز ما ولكن خيارها كان مختلفا؛ بعضها اختار الحياة مثل الكاهن، والبعض مثل جوليا كان متأرجحا بين هذا الخيار وذاك… فيعرض الفيلم كل تلك النماذج المختلفة كي لا يحتفي بالموت كخيار، وإنما ليعزز مفهوم الحرية واحترام الخيارات الشخصية مهما اختلفت.

على امتداد الفيلم نتابع نضال رامون ومن حوله، من أجل انتزاع الحق بموت كريم على الرغم من تباين آراء عائلته إزاء هذا الموضوع، فيتوجه رامون من خلال التلفاز الى الرأي العام، والسلطات التشريعية، والدينية عارضا رؤيته … التي تم التصدي لها على مختلف المستويات ومحاربتها، وتصدر الحديث كاهن -بذات وضع رامون - على كرسي متحرك عارضا نفسه نموذجا لحب للحياة، مشخصا حالة رامون من خلف الشاشة بأنها نقص في الحب الممنوح له من عائلته، فيحاول بذلك ان يلفت انتباههم، وهو بدوره يدعوهم لمضاعفة رعايتهم وحبهم لرامون، هكذا رغبت مختلف السلطات والرأي العام بقراءة نضال رامون، وهي محتفظة بكل تلك المسافة عن معاناته.

الا ان هناك من استطاع رامون ان يلمس شغاف قلوبهم المتعبة باعثا فيها نبض الحياة من جديد … كان لروزا عاملة المصنع البائسة نصيب من ذلك، فقطعت مسافات طويلة كي تقنعه بالعدول عن الموت، وإذ بها تكتشف في مرآة عينيه أنها اكثر موتا منه في ذات اللحظة التي أعاد لعينيها لون الحياة، فتقع في غرامه، لكنها ليست المرأة الوحيدة المتورطة بذلك، فهناك جوليا أيضا حيث ما يجمعها برامون أكثر مما يجمعها بزوجها، انهما يتشاركان بالمرض، والعجز على تباين درجاته بينهما، كما ان رامون بالمقابل صار يكن لها الحب بالمثل.

الحب …وما هو الحب ؟ من وجهة نظر روزا وجوليا وأهل رامون هو التمسك بمن نحب، هو الاحتفاظ برامون حيّا بقربهم حتى ولو كان يشرب كأس عذابه الى الاخر.

أما معادلة الحب بالنسبة لرامون فهي واضحة لا لُبس فيها " من يحبني حقا سيكون الذي سيساعدني على الموت"، هذا هو امتحان الحب، من يحبه سيقدم له مفتاح حريته … قليلا من السيانيد وبعدها سيحلق من جديد في عالم تتحقق فيه الأحلام. لم تقوَ روزا على الامتثال لهذه الرغبة، لكن جوليا في اللحظة التي اشتد عليها المرض، والإحساس بالعجز اندفعت فمنحت رامون وعدا بأنها ستقدم له السيانيد ومن ثم تتجرعه هي … فتنهي بذلك عذاب كليهما، في هذه اللحظة تحديدا، وفقط في هذه اللحظة النادرة أشرقت عينا رامون واكتسب صوته حنانا خاصا وهو يسألها متى ؟ ارتبكت وهي تجيبه…" عند الانتهاء من طباعة مجموعة أعمالك الشعرية "، فراح ينتظر ذلك اليوم بأمل اذ انها اللحظة التي طالما حلم بها، كانت عصية ولكنها قد اقتربت الان.

واصلت القضية سيرها في المحاكم الإسبانية، وحان وقت الجلسة التي من المفترض ان تستمع فيها المحكمة لأقوال رامون، لكنها رفضت ذلك وردت الدعوة، الأمل بوعد جوليا هو ما منح رامون الصبر والقوة على تحمل هذه الخسارة.

ومن أجمل المشاهد في الفيلم، ذلك الذي يقبل فيه رامون الخروج للمرة الأولى من البيت منذ زمن طويل، وللمرة الأولى أيضا واليتيمة التي يقبل فيها استخدام الكرسي المتحرك، يقدم كل ذلك من أجل الدفاع عن حقه بالحرية أمام المحكمة، يعلم في سره أنه لن يربح القضية، الا انه يريد أن يُسمع صوته عاليا لعله بذلك يضع لبنة الأساس الأولى، وجمال المشهد يكمن في اللقطات المتقاطعة لرامون، جسده الصامت، ونظرة عينيه العميقة والحزينة، مع لقطات لإمرأة تشد بيد طفلها باتجاه المنزل…شاب يمسك بيد حبيبته وهما يتسلقا التل… حيوانات تتناسل… حركة المراوح العملاقة لتوليد الطاقة، كل تلك الحركة كل ذلك الصخب لمظاهر الحياة إزاء عزلة جسده وسكون حياته.

"رسائل من الجحيم"

أن أعبدك وأدخلك الى الأبد

يا حبيبي الساحر

أيها البحر الحبيب.

كانت لحظة عصيبة تلك التي استلم فيها رامون بالبريد نسخة من ديوانه الشعري الصادر… ماذا يعني هذا ؟ جوليا قد خذلته لن تفي بالعهد، تبددت كل أحلامه بالموت هذا ما نقرأه عميقا في عينيه، انتابته بعدها نوبة اكتئاب شديدة، لم يخرجه منها سوى قرار روزا بأن تثبت له حبها لكن هذه المرة بصيغة مختلفة؛ أن تحب أي أن تضحي برغبتها بالإبقاء على من تحب …أن تحتمل الشعور بالفقد من أجل أن يحصل هو على الراحة الأبدية التي يحلم بها، فقدمت له ما كان يلزم لذلك. فيختم رامون حياته برسالة مصورة بالفيديو، موجهة الى الجميع ويستهلها بسؤال عن معنى الكرامة ؟ ويستطرد " بغض النظر عن جواب ضميركم لقد تأكدت من أن حياتي بلا كرامة، فأردت أن أموت بكرامة على الأقل … أعتبر الحياة حقا لا واجبا كما كانت في حالتي، وحده الوقت والضمير البشري المتطور سيقرران يوما، ما إذا كان طلبي معقولا أم لا ".

يتضمن الفيلم مشاهد مؤثرة ومهمة لا يمكن تجاهلها والعبور عنها دون ذكرها منها المناظرة الساخرة بين رامون والكاهن المشلول تماما، وكذلك المشاهد التي ينتقل فيها رامون بخياله من غرفته ويقطع مسافات شاسعة نحو البحر فيحلق كنورس فوقه، معانقا حبيبته جوليا هناك، فتغدو أحلام يقظته هذه وحدها القادرة على منحه الحياة حيث يتحرر من قيوده.

الفيلم إنتاج العام (2004) حصل على عدد كبير من الجوائز الدولية على رأسها جائزة أوسكار كأحسن فيلم أجنبي، وأعاد هذا الفيلم مخرجه (أليخاندرو امينابار) حيث جذوره الى السينما الإسبانية، مقتربا به من عمق المشاعر الإنسانية بعيدا عن نمط أفلامه الهوليودية السابقة، والمقترنة بالإثارة مثل فيلمه ( الآخرون ) والذي يروي قصة أرواح ميتة، أما الممثلون فجميعهم أجادوا عملهم على رأسهم الممثل (خافير بارديم) بطل الفيلم الذي جسد دور رامون في غاية الروعة، حيث نجح في القبض على إيقاع وروح الشخصية والنظرة العميقة، والهادئة لكن القادرة رغم حزنها، وألمها على منح الحياة للآخرين، كما يجب الإشادة بالمكياج الموظف في خدمة تكبير شخصية البطل.

"البحر في الداخل" من الأفلام الإسبانية الهادئة والآسرة معا، يأخذنا لنبحر معه في روح الانسان ونغوص عميقا في داخله، ويدعونا الى التخلي عن أحكامنا المسبقة لنمنح عقولنا فرصة التأمل، واعادة التفكير في تعريف كثير من الأشياء، على رأسها الحق بحرية الاختيار كأمر شخصي، فهل نقبل الدعوة ؟

موقع "ديوان العرب" في 22 نوفمبر 2007