لقطة أولى
* عاصفة مطرية هوجاء ضربت مدينة كان وأصابت
المهرجان في صميمه. فالمطر لم يتوقف منذ الصباح (بعد يومين من هطول معتدل)
كما لو كنا في عز الشتاء. تأثير ذلك على المهرجان ليس لطيفا. إلى جانب أنه
يخلق فوضى مرورية، حتى بين المشاة ومظلاتهم المفتوحة، فإن الشيء الواحد
الأكثر مبيعا لا يعد الفيلم في السوق السينمائية الموازية لأيام وعروض
المهرجان الرسمية، بل المظلـة الواقية يلجأ تحتها من شخص إلى ثلاثة
متذكّرين أياما في السنوات القريبة الماضية كانت الشمس ساطعة ودرجة الحرارة
مرتفعة والبحر يغري الجميع بالنزول إليه.
|*| لكن السؤال المهم، ليس إلى متى سيستمر هطول المطر بهذه الغزارة
وما إذا كان سيؤثر على الحفلة الكبيرة التي يقوم بها مهرجان أبوظبي
السينمائي على الشاطئ بعد العاشرة ليلا، بل إذا ما كان الانزعاج من جو يفرض
الوقوف تحت المطر نصف ساعة أو أكثر بانتظار فتح أبواب الصالة، يؤثر على
كيفية استقبال الفيلم التالي.
جزء من الجواب هو في تعليق صاح به موزع وصاحب صالة سينما في
لوكسمبورغ، إذ قال أول ما دلف إلى الصالة: «كل ذلك من أجل فيلم إيراني
صُوّر في اليابان». العبارة تلقفها الحاضرون بالضحك، لكنها معبرة عن حنق قد
يمنع صاحبه من تقدير الفيلم، إلا إذا كان الفيلم أقوى من العاصفة واستحق كل
العناء لمشاهدته.
|*| فيلم «سفينة حرب» أو
Battleship
الذي لا علاقة له بـ«كان» لا من بعيد ولا من قريب، موضوع مثار في أرجاء
المهرجان بسبب ما نشر من أرقام نهائية وما قد تعنيه هذه الأرقام. والكلام
من الآخر: السفينة رسميا غرقت.
كان الفيلم، الذي أخرجه بيتر بيرغ، قد تكلف أقل من 210 ملايين دولار
بقليل. وعلى اعتبار أن الفيلم بحاجة لكي يسجل من الإيرادات مرتين ونصف مرة
قبل أن ينجز أرباحا، فإن ما كان على ذلك الفيلم تحقيقه من الإيرادات (ومن
دون حسبان الدعاية وحملات الترويج التي بلغت 70 مليون دولار) لكي يبتسم، هو
525 مليون دولار.
لكنه باع بعيد المنال بالنسبة لهذا الفيلم الذي أنفقت عليه
«يونيفرسال»: فهو أنجز أميركيا (وحتى الثامن عشر من هذا الشهر) كلف 25
مليون و350 ألف دولار. ومع أن إيراداته العالمية كانت أضعاف هذا الرقم، إذ
وصل إلى 252 مليونا و150 ألفا و300 دولار، إلا أن كل ذلك لا يزال أقل مما
يجب ليحقق أول دولار ربحا.
بعد ديزني التي تعرقلت خطواتها بسبب فيلم «جون كارتر» الذي تكلـف نحو
200 مليون أيضا وجلب أقل من ذلك، هاهي «يونيفرسال» تحاول أن تدرس السبب.
شيء آخر يربط بين الفيلمين لجانب أنهما من تلك النفقات الضخمة التي لا تصنع
بالضرورة فيلما جيدا: تايلور كيتش فهو الممثل الذي يقود بطولة الفيلمين…
ليس لأن اسمه هو الذي أبعد كل الناس، لكنها بداية مضطربة وربما بداية
النهاية لممثل ما زال في أول الطريق.
لماذا الأفلام العربية ما زالت في منتصف الطريق؟
* إذن، لدينا هذا العام ثلاثة أفلام عربية؛ هي مغربي وجزائري ومصري،
في العروض الرسمية والموازية، وفرح البعض آملين انفراجا في أزمة هذه
السينما، بينما أمسك آخرون أنفاسهم مترقبين. بين هذين الفريقين، كان هناك
الفريق الثالث الذي دائما ما يجعلك تشعر بأن كل شيء على ما يرام والسينما
العربية بـ«خير» طالما يقوم مهرجان «كان» بعرضها.
لكن، هل هذه هي الصورة الحقيقية؟
فيلم يسري نصر الله «بعد الموقعة» يحمل القدر الأوفر من علامات
الاستحسان، لكنها ليست علامات كافية. وحديث النقاد هنا حين ذكر هذا الفيلم
ناتج من انطباع سلبي وشعور بأن فكرة جيدة أهدرت بسبب رسوب الممثلين في
أدوارهم، ومط الفكرة ثم التعبير عنها بأساليب متباينة لا يوجد - بصريا
ومونتاجيا - ما يجمعها في بناء سردي صحيح.
يمكن لي أن أضيف في علامات الاستحسان التي لم يتسن لي ذكرها في النقد
الذي نشرناه هنا قبل أيام قليلة، أن إدارة المجاميع والانتقال من التسجيلي
إلى دراما مصنوعة كتسجيلي جيد، ولا يجب أن يستهان بمهارة المخرج في هذا
السبيل. إنما هو ما يعاود المخرج تكراره من طروحات عوض الانطلاق منها صوب
تطور حقيقي للحدث الدائر أو صوب الوصول إلى مفاد واضح وصريح في أمر بأهمية
ثورة يونيو (حزيران). في قرارات العودة بصريا وحواريا إلى ما انتهى (أو
هكذا كان يجب) بحثه ليدفعه أمامنا من جديد، وفي ذلك التردد في قبول فكرة ثم
نقضها كما في الخاتمة التي فسرها البعض على أنها إحدى أبدع خواتم الأفلام،
بينما هي تستبدل بالرمز السذاجة.
الفيلم الجزائري - الفرنسي «تائب» للمخرج مرزاق علواش لديه مشكلة
أخرى: كل ما سبق آخر عشرين دقيقة، كان يمكن الاستغناء عنه وصنع فيلم يبدأ
من تلك الدقائق العشرين ويضيف عليها دراما مؤلفة من ثلاث شخصيات في «فيلم
طريق» (مزيد عنه في النقد أدناه). أما الفيلم المغربي - الفرنسي «يا خيل
الله» لنبيل عيوش، فهو جيد في نواح معينة، لكنه غاية في التشتت. مؤلـف من
ساعتين ترويان فيلمين مختلفين رغم أنهما في كيان عمل واحد: الساعة الأولى
هي عن حياة الأزقة ومدينة الصفائح والفقر المرتع، التي قوامها مجموعة من
الشبان يتابعهم الفيلم من عام 1994 إلى عام 2002، والثانية هي عن كيف انتمى
معظم هؤلاء إلى منظمة دينية متشددة هدفها القيام بضربات إرهابية. ليس فقط
أن الموضوع اختلف بل - الأكثر فداحة - أن أسلوب العرض اختلف بدوره من
كاميرا لاهثة وحس واقعي ولقطات متسارعة، إلى أسلوب عرض تقليدي تملأه
الشخصيات الكرتونية لمجرد أن الفيلم يعاديها.
لماذا يحدث ذلك في الأفلام العربية؟ لماذا لا نجد، إلا في ما ندر، ذلك
الفيلم الناجح في معطياته وأهدافه والمتناسق، فنيا، مع ذات مخرجه ومع تلك
المعطيات؟ لماذا معظم ما يعرض يبدو كما لو كان لا يزال تجريبا في السينما
عوض أن يكون النتيجة؟
حين خرج «انفصال» لأصغر فرهادي في العام الماضي منجزا ما مجموعه 55
جائزة رئيسية ونقدية من المجتمع السينمائي من برلين إلى الأوسكار، مرورا
بجوائز منحت له في هونغ كونغ وكوريا وبريطانيا وفرنسا وفي الكثير من
المناسبات الأميركية (بالإضافة إلى جوائز مهرجان فج الإيراني الرئيسية)،
خرج في العام ذاته فيلم مصري بعنوان «أسماء» يحمل موضوعا مهما للغاية أيضا
هو «الإيدز» في المجتمع الحذر من العدوى حتى ولو فرض هذا الحذر حظرا على
المصابة به يهدد حياتها. كان من الطبيعي أن يتساءل المشاهدون والمتابعون عن
كيف أمكن لفيلم إيراني (ولإيران ما لها من عداوات العالم) يستطيع أن يفتن
لجان تحكيم وأعضاء أكاديميات ونقادا وجمهورا، ويخفق الثاني في العرض خارج
القاهرة وبيروت وربما الكويت والإمارات مع عرض مهرجاناتي واحد تم له في
«أبوظبي».
الجواب بسيط: نجح الفيلم الإيراني في جعل قصته عالمية، وذلك عبر خروج
المخرج من معادلتها وجعل الاهتمام ينصب على الشخصيات مباشرة من دون وجوده
هو في الصورة. في النهاية، عاد كل النجاح إليه.
أما «أسماء» (وهذا نجده في معظم أفلامنا العربية، ومن بينها ما هو
معروض هنا)، فمنع مخرجه عمرو سلامة هذا التجاوب بوضع نفسه وسيطا بين فيلمه
والجمهور. افتقد الفيلم إلى بساطة، وبالتالي إلى قوة العرض وتأثيره، ودخل
في «فلاش باك» من هنا، ولقطات متكلفة من هناك، وتحول إلى استعراض غير مدهش
يريد مخرجه إخبار مشاهديه: انتبهوا أنا هنا وأنا أصنع فيلما جيدا.
على ما سبق، فإن هذه الأفلام الثلاثة ستكون عرضة للتداول بين
المهرجانات من الآن وحتى نهاية السنة، كما أن «بعد الموقعة» قد يصل إلى
مشارف الأوسكار (سينافسه على ذلك إذا صدق الحدس فيلم إبراهيم البطوط
المقبل). مهرجان دبي يسعى لفيلم «التائب»، بينما ضمن مهرجان أبوظبي «بعد
الموقعة»، والدوحة يريد الاستحواذ على «يا خيل الله». لكن حتى مع الاختلاف
في درجات الإعجاب أو عدمه، فإن كلا من هذه الأفلام كان يجب أن يأتي أفضل
مما جاء عليه.
«كل الأجيال تلتقي في فيلمي الجديد»
حديث | كريستين ستيوارت
* «على الطريق»، هو الفيلم الذي يشترك في مسابقة مهرجان «كان» هذه
السنة، وهو أحد أكثر الأفلام المنتظرة ترقبا. نجمه الحقيقي هو المخرج وولتر
ساليس الذي يقتبس رواية جاك كيرواك لكي تعبر عن جيل الستينات الذي رغب في
ممارسة حريته على كافة الصعد، في التفكير وفي التصرف وفي الخروج عن طاعة
العائلة والنظام معا. حرية لم تقده بعيدا في نهاية المطاف، لكنها أوجدت
بذور الفترة السياسية والاجتماعية والثقافية التي لم تسبقها أو تليها فترة
توازيها نشاطا ونتائج.
واحدة من ممثلات الفيلم هي كريستين ستيوارت إلى جانب أمي أدامز
وكيرستن دانست وستيف بوشيمي وآخرين. وهي ممثلة شابة، (22 سنة)، انطلقت مع
مطلع العقد الأول من القرن وأنجزت للآن 25 عملا. فيلمها هذا هو ثالث فيلم
من إخراج موهبة فنية بعد «غرفة الفزع» لديفيد فينشر (حيث لعبت دور ابنة
جودي فوستر)، و«في البرية» لشون بن. لكن أكثر أعمالها نجاحا هي تلك المتصلة
طبعا بسلسلة
The Twilight Saga
·
«على الطريق» فيلم عن أميركا
المعاصرة حول شخصيات تتحرر من المكان والزمان عبر السفر في طول البلاد… هل
شعرت شخصيا بحاجة للإقدام على مثل هذه الخطوة؟
- كثيرا ما أسأل: ما الذي يجذبك إلى الحياة في مثل عمرك؟ هؤلاء كانوا
في مثل عمري، لكن اهتماماتهم كانت مختلفة حسب ظروف السنوات التي كانوا فيها
شبابا. بالنسبة إلي، فإن ما يعجبني في الفيلم وفي الكتاب أيضا التركيز على
فعل التحرر من المكان والزمان كما ذكرت. السفر بالسيارة في بلد شاسع
ومتباين التضاريس والطبيعة والبيئات مثل أميركا - لا بد أنه يعني اليوم ما
كان يعنيه في ذلك الحين.
·
عمن تعبّرين في الفيلم؟ لمن
توجهين شخصيتك؟
- لمن يتوجه الفيلم لديهم، وأعتقد أنهم نسبة كبيرة من المشاهدين
الشبان والكبار الراشدين. من ناحية أنا ممثلة شابـة أعبر عن جيل جديد من
الممثلين ومن ناحية الفيلم هو عن جيل سابق، وكلا الجيلين سيلتقيان أمام هذا
العمل.
·
هل قرأت الرواية قبل السيناريو
أو بعده؟
- قرأت الرواية قبل أن أتم السادسة عشرة من عمري. كان هناك في حقيبتي
حين أذهب إلى المدرسة وحين أعود منها. دائما ما وجدته رائعا (الكلمة التي
استخدمتها
Cool). وهي جيدة الكتابة، لا تدري ما الذي سيقع
في الفصل التالي. الاحتمالات مفتوحة.
·
هل شاهدت الأفلام السابقة لوولتر
ساليس؟
- لم أكن متابعة لأفلامه حتى شاهدت له «ماء داكن» الذي حققه أيضا في
أميركا. بعد ذلك، ذهبت إلى أعماله الأسبق وأحببت «مفكرة الدراجة». إذا
شاهدت ذلك الفيلم، فستدرك ما أقوله. هذا الفيلم شبيه بذلك لجهة أنه فيلم
طريق، لكن العوالم مختلفة تماما.
·
بدأت التمثيل في سن شابـة جدا.
حين تنظرين الآن إلى الأمس… كيف تفسرين ما حققتِه من نجاح؟
- أحببت السينما لأني كنت أصاحب والديّ إلى عملهما خلال التصوير، وكنت
أستطيع أن أجد طريقي بين الممثلين والممثلات، وأظن أن الحلم بدأ هنا وأنا
في الرابعة عشرة من عمري. مثلت قبل «غرفة الفزع» فيلمين أو ثلاثة، لكنها لم
تغير نظرتي إلى العمل ولا عبـرت عن طموحي كما فعل ذلك الفيلم.
·
فيم كنت تفكرين وأنت داخل الغرفة
مع جودي فوستر؟
- طبيعيا، كنت أفكر في أني أريد أن أكبر وأصبح ممثلة جيدة ومشهورة
مثلها.
·
هل توافقين على أن سلسلة
«توايلايت» هي التي حققت لك هذا المدخل إلى السينما؟ أصبحت نجمة معروفة من
خلالها؟
- طبعا أوافق. لكن، لا أحد كان يستطيع القراءة في المستقبل ومعرفة كم
ستحققه هذه السلسلة من نجاح. وأنا لم أكن سوى أصغر عنصر في تحقيق هذا
النجاح.
·
هذا تواضع جم. ماذا عن فيلمك
السابق مباشرة لهذا الفيلم؟
- تقصد «سنو وايت والصياد»؟ كان ترفيها كبيرا بالنسبة إلي. طبعا هو
فانتازيا، لكن القصة خفيفة الوقع. إنه ليس فيلما داكنا مصنوعا لتخويف
الأطفال. وكان معي تشارليز ثيرون التي وجدتها من أفضل من عرفتهن في هذه
المهنة.
أفلام «كان»
* حول الإرهاب في الجزائر
* «التائب» - إخراج: مرزاق علواش - نصف شهر المخرجين (الجزائر -
فرنسا).
* يقصد المخرج الجزائري المعروف مرزاق علواش طرح قضية الأحزاب
الإسلامية المتطرفة التي تجنح إلى الإرهاب، من خلال حكاية شاب سبق له أن
انضم إلى واحدة من هذه التنظيمات ثم قرر العودة عنها، ليكتشف أن سوابقه سوف
لن تعفيه من مسؤولية جسيمة حيال القانون والمجتمع وحيال علاقاته مع من
يعتبرونه مسؤولا عن تلك الضحايا التي سقطت بسبب تلك السياسة العنيفة التي
اعتمدتها تلك المنظمات، حتى وإن لم يشترك فعليا في ارتكاب جرائمها.
إنه عن راشد (نبيل عسلي)، وفي مطلع الفيلم ذلك المشهد الصادم لأرض
شاسعة مغطاة بثلوج الشتاء، وفي المنظر البعيد ذلك الشاب وهو يحث الخطى
ناظرا وراءه مخافة مطاردين غير منظورين. يصل راشد إلى القرية ويجتمع مع
أهله، ومن لحظة وصوله هناك، من أهالي القرية من يتهمه بالتسبب في قتل ابنه.
لكن راشد ينفي التهمة، ويعلن أنه هرب من التنظيم الذي ينتمي إليه، وفي
اليوم التالي يتوجه إلى الضابط ويسلـم سلاحه. هذا يجد له عملا في مقهى
صاحبه، قَبِل به مضطرا. بعد أيام قليلة، يتصل راشد بصيدلي البلدة طالبا منه
مالا لقاء إخباره بالمكان الذي تم فيه دفن ابنته الصغيرة التي خطفها
الإرهابيون. قبل عشرين دقيقة من نهاية الفيلم، يلتقي راشد والصيدلي وزوجة
الثاني في ساحة البلدة، ويركب راشد السيارة في رحلة طويلة إلى المكان.
عند تلك اللحظة، كان يمكن للفيلم أن ينطلق من البداية لاغيا كل ذلك
التمهيد والدوران في المكان الواحد. لم يكن العمل بحاجة إلى ما سبق من
تقديم وشرح حالات وتفسير ما هو واضح. لو عمد المخرج إلى «فيلم طريق»، من
ساعة ونصف، يضم تلك الشخصيات الثلاث وكيف وأين تتعارض وتتفق وما يمكن أن
يحدث خلال هذه الرحلة الطويلة ومحطاتها - لكان أفضل من عمل ليس لديه الكثير
ليعرضه.
شغْل المخرج متسارع أكثر من أي وقت مضى، وهو صور الفيلم بالدجيتال
(لأول مرة حسب ما صرح به)، لكن ذلك بسبب امتناع الحكومة الجزائرية عن
مساعدته في تحقيق هذا الفيلم. وبصرف النظر عن تفاصيل القضية وموقف كل طرف
(وفي الأخبار أنه فتح النار على الحكومة الجزائرية في مؤتمر الفيلم
الصحافي)، فإن حجم الإنتاج المحدود فرض حدا لطموحات المخرج الذي عادة ما
يحقق أعمالا أكثر نجاحا في تحقيق ما تصبو إليه.
الشرق الأوسط في
22/05/2012
ترانتينيان أرجأ انتحاره ليشارك في رائعة هانيكه عن الحبّ
والموت
سيدل يصطدم بالطهرانيين وفينتربرغ يحذر النفاق الاجتماعي في
الدانمارك
هوفيك حبشيان- كانّ
كانّ أم برلين؟ "أين نحن؟"، يسأل الزملاء بعضهم بعضاً وهم يبحثون عن
أي شيء يحتمون به من حبال الماء المتساقطة من فوق. "الأوراق، الأوراق، هات
الملفات الصحافية لأضعها على رأسي"، يقول صحافي لآخر. أهي لعنة مهرجان
برلين، الذي، بعد حصيلة باهتة في شباط الماضي، ينتقم من دورة هي واحدة من
أقوى دورات كانّ؟ ألم يُنقل عن المهرجان الألماني قول بعض منظّميه "نحن
لدينا الأفلام وفي كانّ لديهم السجادة الحمراء والشمس"؟
مساء الأحد، كان الناس يتنقلون على الكروازيت، ذهاباً واياباً،
منزعجين، مفاجئين. معظمهم يأتي من بلدان رمادية السماء تلمع فيها الشمس في
مناسبات سعيدة. الكثير من الحفلات ألغيت، دعوات نُقلت من الهواء الطلق الى
أمكنة مغلقة. تبخّر الغلامور كما يتبخر عطر النساء. بعد إعصار الحبّ الذي
جاء به وس اندرسون من خلف البحار متأبطاً فيلمه (مسابقة ـــ افتتاح)، ها ان
اعصاراً حقيقياً يعصف بهذه المدينة المتوسطية التي تمتلئ بأناس ذوي
اهتمامات ومآرب مختلفة خلال مهرجانها الشهير. فجأة، تلونت المدينة بالأخضر
والرمادي، كما في فيلم لأنغلوبولوس. على الرغم من ذلك، بقي البروتوكول غير
الانساني على حاله: الناس ينتظرون في طوابير طويلة على مدخل الصالات،
مبللين كالقطط الشاردة، على مرأى من عناصر الأمن والمنظمين!
بيد ان الأفلام التي سقطت علينا في الويك أند الأول، ضمنت حقوق
المسافر الى هذه البقعة. المهرجان الذي بدأ مع أندرسون وفيلمه الظريف جداً
"مملكة صعود القمر" (راجع "النهار" في 17-5-2012)، واصل مع سينمائيين
أثبتوا لنا ان انتظار جديدهم على أحرّ من الجمر يستحق العناء احياناً.
البداية كانت مع جاك أوديار و"عن الصدأ والعظام" (مسابقة): المخرج البارع
في تركيبة فيلمية تضمن الغوص على أحلك المناطق الانسانية، بدا معطاءً.
ماريون كوتيار تسحق القلب، في دور ملعّبة نوع من الحيتان، تفقد ساقيها بعد
حادثة تتعرض لها. اولاً بتلك الانوثة المقترنة بالعناد، ثانياً بقدرتها على
تحويل كل لحظة الى فجيعة. في مقابلها يقف رجل لا نعرف عنه الكثير سوى انه
من أصل عربي. انه علي، أب لصبي لا يعرف كيف يوفر له ضرورات الحياة المادية.
لا يتشارك "بطلانا" الكثير: هو يضاجع كلّ من تمشي على ساقين، هي رومنطيقية
تأتمر بها الحيتان. على الرغم من ذلك، يتم اللقاء ذات مساء اثر عراك على
باب الملهى الليلي حيث يعمل علي.
مرة أخرى، يتعاطى أوديار مع شخصيات هامشية، متروكة لذاتها ومصيرها
ومصيبتها. لكن هناك هذه المرة مسحة ميلودراما جميلة تعبر الفيلم من اوله
الى آخره. قورن اسلوب أوديار السينمائي لشدة براعته وشفافيته بالنمط
التصويري الأميركي. هذا تشبيه مفتعل لأن أهمية الشريط تنبع من الشخصيات
وغناها النفسي والمعنوي وليس من الحوادث فحسب. هناك ثوابت يرتكز عليها
أوديار: التعبير الصعب عن الذات، العنف الدفين، استخدام الجسد في افراغ
الكبت والانتقام من القدر. في حين تحاول الملعّبة ان تقف على رجليها
الاصطناعيتين وتسير نحو ظروف حياتية جديدة، يشارك علي في عراكات بالأيدي
المجردة، ليجني منها بضعة أوروات ملطخة بالدمّ. نجد الكثير من الفيتيشيات
في عمل أوديار. ساقا كوتيار المبتورتان تذكّران بـ"تريستانا" لويس بونويل.
مشاهد المضاجعة بين رجل مكتمل ذكورياً وامراة ناقصة جسدياً لكن تفيض
بالعواطف، ليس لها شبيه. فكرة الاكتمال تبلغ ذروتها هنا. مرة جديدة عند
أوديار، تقترن الاعاقة الجسدية بالحبّ. لنتذكر "على شفتي" (2001) قليلاً:
فتاة صماء (ايمانويل دوفوس) تقع في غرام زميل لها. فتتحول نقطة الضعف الى
قوة، بل الى عزيمة. هذا هو أوديار، بلحم سينماه وشحمها. هل هو من أواخر
الرومنطيقيين؟ لا شكّ في أنه كذلك.
النحو الذي قدّمت فيه كوتيار الدور لم يفاجئ. الممثلة سبق ان أثبتت
طاقاتها الاستثنائية. في المقابل، أذهلني ماتياس شونارتس ذو الحضور الطاغي،
حركة وجسداً وموهبة. الممثل البلجيكي الذي اكتشفناه في "بولهيد" لميكاييل
روسكام، يخترق الشاشة. لكن دعونا نقول إنه ليس الوحيد في هذا المجال. فكانّ
في دورته هذه، يحفل بالأداءات التمثيلية التي تردّ الاعتبار من غير قصد الى
مكانة الممثل في السينما. وطبعاً، من دون ان يسرق أيٌّ من هؤلاء الممثلين
نجومية المخرج واعتباره. هناك مثلاً بروس ويليس في "مملكة صعود القمر"،
الذي يأتي بدور يعطّل صورة البطل الذي كانه ويليس في الأكشن الأميركي طوال
التسعينات. أيضاً في "واقع" للايطالي ماتيو غاروني (أقل أفلام المسابقة
قدرة على الاقناع والاغواء)، ثمة ممثل اسمه أنييلو ارينا يضطلع بدور بائع
سمك يداعب حلم الشهرة و"ربع ساعة المجد"، من خلال المشاركة في النسخة
الايطالية لبرنامج "بيغ براذر". الطريف في الموضوع ان ارينا لم يستطع
الانتقال الى كانّ بسبب وجوده في السجن منذ 19 عاماً. الأغرب ان شخصيته
تسعى الى الانغلاق في اطار مستلزمات برنامج ينتمي الى ظاهرة "تلفزيون
الواقع" التي سادت في بداية سنوات الألفين ومنتصفها.
دائماً في مجال الأداء، يمكن الاشادة بالأميركي شيا لابوف في "خارجون
على القانون" لجون هيلكوت. صغير عصابة من ثلاثة أخوان تسرح وتمرح في منطقة
أميركية في زمن الأزمة الاقتصادية بلا محاسبة أو عقاب، يفلح في أن يكون
المتن ومصدر الاهتمام برغم وجود مغريات كثيرة أخرى في الفيلم. الى جانبه في
المسابقة، هناك الثنائي الذي يحمل فيلم ميشاييل هانيكه على كتفيه: جان لوي
ترانتينيان وايمانويل ريفا. كيف نتحدث عن عملاقين من دون اختصار المعاني
وردّها الى بساطة تختزل القيمة؟ ريفا التي تحولت الى وجه وصوت لا يُنتسيان
في "هيروشيما حبي" لألان رينه (المشارك في المسابقة ايضاً)، تبلغ الخامسة
والثمانين. زوجها في تحفة هانيكه، ترانتينيان، الغائب عن السينما منذ نحو
عشر سنين، اختتم الحادية والثمانين منذ نهاية السنة الماضية. عندما طلبت
منتجة الفيلم مارغريت مينيغوز الى ترانتينيان ان يكون في الفيلم، كان رد
الممثل أنه ملّ الحياة وكل ما يسعى اليه الآن هو الانتحار، فقالت مينيغوز:
مثِّل في الفيلم ثم انتحرْ. أخيراً، ومن بين أفلام المسابقة التي تسنت لنا
مشاهدتها الى الآن، لا يمكن إغفال الطريقة التي اطل بها مادز ميكلسون في
"الاقتناص" لتوماس فينتربرغ. هل يلتفت اليه ناني موريتي، علماً ان الآتي قد
يكون أعظم في الأيام القليلة المقبلة؟
ينبغي التنويه ايضاً بعملين عُرضا في قسم "نظرة ما"، ثاني أهم اقسام
المهرجان: "وحوش الجنوب البري"، أول فيلم لبنّ زتلين، الحائز الجائزة
الاولى في الدورة الأخيرة من ساندانس. يخاطب الفيلم عقلية عالمية شاملة من
خلال حكاية الحرارة التي بارتفاعها ستذوّب الجليد لتحل الكارثة على سكان
منطقة منكوبة في البرية الأميركية. فتاة صغيرة تحمل الفيلم على كتفيها
النحيلتين. اسمها كوفنزانبه واليس. عمرها ستة اعوام كأنها تقف قبالة
الكاميرا منذ قرون. اما العمل الثاني المعروض في "نظرة ما"، فهو "لورنس
أنيوايز" (يُترجم أيضاً بـ"لورنس على كل حال") فهذا ثالث أفلام المخرج
الكندي كزافييه دولان المولود عام 1989 (!)، وعُرضت جميعها في كانّ. الجديد
هنا في هذا العمل المؤسلب اقصى حدود الاسلوبية، هو ملفيل بوبو، الذي يضطلع
بدور عاشق يحبّ التنكر في زيّ النساء.
لنعد الى المسابقة: بالاضافة الى فيلم أوديار الذي تحدثنا عنه آنفاً،
هناك اربعة افلام تستحق أن نرفع
لها القبعة: "خلف التلال" لكريستيان مونجيو؛ "حبّ" لميشاييل هانيكه"
(سنتكلم عنهما الخميس المقبل)؛ "اقتناص" لتوماس فينتربرغ و... "جنة: حبّ"
لأولريش سيدل، العائد بعد خمس سنوات من التمعن في هذا المشروع. الفيلم شكّل
صدمة صغيرة لرواد المهرجان. الواضح ان هدف سيدل هو الاستفزاز المحبب الهادف
الى لفت النظر، المحبب ايضاً. الفيلم جزء أول من ثلاثية عن الحياة الجنسية
والعاطفية للنمسويين: "كنتُ أعمل على مشروع سينمائي اسمه "جنة"، منذ فترة
طويلة. كان لي ثلاث حكايات أريد اقتباسها في فيلم واحد، ثم وجدتُ ان من
الأفضل أن ارويها في ثلاثة أفلام منفصلة"، قال سيدل عندما التقته "النهار"
في تسالونيك أواخر العام الماضي. وعندما قلتُ له ان صفة السينيكي لا تزيل
عنه الرقة والعاطفة، كان ردّه: "لا أحب صفة السينيكي، ولا أجدها مناسبة
لأفلامي، أقله بالمعنى المتداول عند معظم الناس. بالنسبة إليَّ، السينيكية
ليست سلبية، ومَن يمتلكها يكون عادة شخصاً عانى في حياته حدّ انه تحول
شخصاً مرهفاً ورقيقاً. اذاً، في نظري ان السينيكية والانسانية تتعايشان
تعايشاً متناغماً". في كل حال، يروي سيدل انه لم يتأثر بالمسرح بقدر تأثره
بالكنيسة. ويعني بالكنيسة المكان. المذبح خلال القداس الكاثوليكي يتحول الى
نوع من خشبة، في نظره. ثمة ناقد قال هذا عنه في بداياته وكان صائباً.
بين سيدل والبورجوازية الكاثوليكية في أرياف النمسا، ثأر يعود في
نشأته الى منتصف الخمسينات، زمن كان سيدل مراهقاً. كان والده يريده ان يصبح
كاهناً. في البداية كانت الفكرة تروق له، ثم فجأة عندما بلغ سنّ المراهقة،
راح يتمرد ضدّ النفاق الاجتماعي المتمثل في العائلة والمدرسة والكنيسة.
عندما صار ينجز الأفلام، رفض والده وعلى مدار عشر سنين أن يشاهدها، معتبراً
انها تخون الحياة والبيئة اللتين ينتمي اليهما. اليوم، لا تبدو افلامه كمن
كان يفكر يوماً في أن يلبس الثوب ويلقي المواعظ. يكفي التعرف الى شخصية
تيريزا (مارغرت تيسل)، سيدة نمسوية سمينة تذهب لتمضية عطلتها في كينيا.
هناك سيدة اخرى تقنعها بضرورة ان تجرّب الذهاب الى الفراش مع الشباب
الكينيين الذين يملأون الشواطئ بحثاً عن فريسة من صاحبات الجلد الأبيض
الناعم، أولئك السيدات اللواتي يسمونهن "شوغر ماما". العمل الذي يلامس
العنصرية في أمكنة عدة، ويزعج الطهرانيين، يعود ويوضح خطابه مراراً:
الاستغلال من الاتجاهين. فالسيدات لا يمكن ان يجدن العاطفة والحنان في حضن
شبان لا يأبهون لهنّ. مهلاً، هذا ليس فيلماً يفتح الملفات. سيدل نبّاش قبور
وليس قاضياً. لا تهمّه قضية السياحة الجنسية بقدر ما يستهويه حبّ الغوص في
حميميات نساء لحظة الخيبة. لحظة العودة الى الوحدة والذات بعد ان يتم افراغ
المحفظة. "انظرْ في عينيَّ، داعبْ صدري ولا تقرصه بعنف"، تقول تيريزا
للكيني الشاب الذي لا طموح عنده سوى ان يسحب منها المزيد من المال. بيد ان
المشهد الاقوى في الفيلم هو مشهد الجنس الجماعي بين كينيّ مخنّث وثلاث
نساء، بينهن تيريزا. مشهد سوريالي يلامس البورنو يحلق معه سيدل عالياً...
النفاق الاجتماعي الذي يسود افلام سيدل، يسود ايضاً افلام الدانماركي
توماس فينتربرغ. العضو السابق في حركة "دوغما 95"، الحائز جائزة عن "فستن"
(1998)، يصوّر هنا اتهام فتاة في الخامسة لرجل مطلّق حديثاً بالتحرش
الجنسي. موضوع حارق يعيد موضعة فينتربرغ على خريطة السينمائيين الذين
يتغذون من الفضيحة والاستفزاز البناء. يفتح المخرج نصه على مواضيع عدة،
تتشابك وتتخاطب في ما بينها: العلاقات بين البشر في بلاد ممعنة في الثقافة
الاسكاندينافية، المغالاة في التهمة الموجهة الى الآخر، البارانويا،
المازوشية، العقاب الديني، الخ. فينتربرغ يعرف كيف يضيف الالتباس الى
فيلمه. لا شيء أكيداً هنا، كلها شكوك بشكوك، باستثناء كلام الطفلة كلارا
الذي تأخذه مديرة المدرسة وتصادق عليه. التحرش يغدو حجة لتعرية مجتمع
بكامله، من الرأس حتى الأسفل. وهو الشيء الذي سيأخذ الشخصيات الى حتفها،
قبل أن يتصالح الجميع في سلوك يكشف الكثير ويخفي أكثر. يضع فينتربرغ بطله
المقهور والمضاد أمام امتحان صعب: الى أي مدى يستطيع تحمل الظلم والمحافظة
على تحضره ونظافة كفه؟ المخرج النمرود الذي لا يتبنى "طريقة غاندي"، يختار
المواجهة منزعجاً من سلبية المتهم. انها مسألة أيام قبل أن يتمرد البطل على
الوضع الذي حُشر فيه وينتقل الى حالة بهيمية. فينتربرغ، كصديقه ومعلّمه
لارس فون ترير، يفضّل الصفعة على المداعبة، والتهديد على الاقناع. في
الخلاصة: فاعلية لا مثيل لها حتى الآن في المسابقة. وإياكم ان تقولوا
للدانماركي الغاضب: خذوا الحقيقة من فم الأطفال!
hauvick.habechian@annahar.com.lb
النهار اللبنانية في
22/05/2012 |